اختلفت المقاربات الامنية للرئيس الامريكي جو بايدن عن سابقه دونالد ترامب في طريقة التعامل مع المخاطر والازمات والعلاقة مع الحلفاء، اذ كانت الأولوية الاساسية للرئيس بايدن عند توليه منصبه هي طمأنة حلفاء الولايات المتحدة بشأن التزامات أمريكا الأمنية المستمرة، ووعد بأن "أمريكا عادت"، فقد أثمرت هذه الجهود خلال المواجهة الحالية مع روسيا بشأن أوكرانيا، لكن لا يزال أمام بايدن الكثير من العمل الذي يتعين عليه القيام به عندما يتعلق الأمر بدعم الشراكات الأمنية الأمريكية للتعامل مع الصين الصاعدة والمنافسة القوية مع الولايات المتحدة.
وبعد توليه المنصب عمل بايدن على إصلاح الضرر الذي ألحقه سلفه دونالد ترامب بالعلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها القدامى، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان، ولكن بشكل خاص ركز على حلفائه الاوربيين، وطمأنهم بالتزام واشنطن بأمنهم، ووعدهم بأن أمريكا عادت لدعم التحالف معهم عبر الأطلسي، وعلى الرغم من بعض التحديات فإن رأس المال السياسي الذي استثمره بايدن في تعزيز العلاقات مع أوروبا على وجه الخصوص، قد أتى بثماره خلال المواجهة الحالية مع روسيا بشأن أوكرانيا.
إن تماسك الناتو في الفترة التي سبقت الغزو وقوة الاستجابة الاقتصادية والأمنية التي قادتها الولايات المتحدة في أعقابه هي شهادة على قيمة الحلف بالنسبة للولايات المتحدة فضلاً عن أهمية القيادة الأمريكية في أوقات الأزمات، مع ذلك خيم إرث ترامب على تحركات بايدن الأمنية المبكرة الأخرى، بما في ذلك إعادة الارتباط التفاوضي مع إيران، وقد أدت سياسة الضغوط القصوى التي اتبعها ترامب، التي تضمنت التخلي عن اتفاق 2015 للحد من برنامج إيران النووي إلى نتائج عكسية، حيث ردت طهران بتوسيع أنشطتها النووية واتخاذ مواقف إقليمية أكثر عدوانية، لذلك سعى بايدن في البداية إلى تحفيز الدبلوماسية المتعددة الأطراف في محاولة لإحياء الاتفاق النووي، لكن المحادثات لم تحقق اي تقدم ملموس، ويبدو أنها أصبحت ميتة، حيث تشير المعطيات إلى أن الاتفاق والتفاهم مع ايران حاليا يمر وفق قنوات اتصال غير رسمية حلت محل معطيات التفاوض التقليدية التي تم من خلالها الاتفاق النووي.
هذا السلوك جعل العديد من المراقبين الأوروبيين يتساءلون عن الحكمة من الاعتماد بشكل كبير على الولايات المتحدة من أجل أمنهم، خاصةً وقد تعززت هذه المشاعر بعد فترة وجيزة، مع الإعلان المفاجئ عن الاتفاقية الامنية المعروفة بـAUKUS بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، والتي تسببت في إلغاء شراء أستراليا للغواصات الفرنسية لصالح عرض أمريكي، مما أدى إلى خلق حادثة دبلوماسية مع باريس، لكن تعامل بايدن المدروس مع الأزمة المتعلقة بأوكرانيا، والتزامه الواضح بالأمن الأوروبي في لحظة الخطر، أدى في الوقت الحالي إلى تبديد هذه المخاوف.
ومع ذلك، لا يزال أمام بايدن الكثير من العمل الذي يتعين عليه القيام به لتعميق وتوسيع الشراكات الأمنية الأمريكية في مواجهة التحدي الأكبر الذي يواجه القيادة الأمريكية العالمية منذ نهاية الحرب الباردة، المتمثل بالدور الصيني وقيادته الحازمة بشكل متزايد في عهد الرئيس شي جين بينغ. وسوف تتطلب مواجهة هذا التحدي الاستمرار في تعزيز العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة في آسيا، في حين تسعى أيضا إلى ترسيخ الشراكات الناشئة مع القوى الإقليمية وخاصة الهند وفيتنام، ولن يكون ذلك سهلا نظرا لإحجامهم عن استعداء الصين التي تظل الشريك التجاري الرئيس للكثيرين.
وهذا يثير العديد من الاسئلة حول ما سيحدث بعد ذلك، مثلا كيف سيتعامل بايدن في المرحلة التالية من مواجهة اوروبا مع روسيا؟ فهل يستطيع في الوقت نفسه تعزيز التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا؟ وفي الوقت ذاته مواجهة التحدي الذي تمثله الصين؟ وهل يستطيع بايدن أن ينجح في تعميق الشراكات الأمنية في آسيا دون زرع بذور حرب باردة جديدة مع الصين؟ وكيف سيتعامل مع الملف الايراني الذي يسبب له احراجا في اوروبا والداخل الامريكي؟.
ان الاختلاف الأكثر حدة بين بايدن وسلفه ترامب، يتمثل بتركيز بايدن على استعادة وتوسيع التحالفات والشراكات العسكرية الأمريكية، اذ ابتعد عن اللهجة القاسية والانتقادات العلنية للحلفاء التي ميزت عصر ترامب، وحل محلها نهج أكثر تقليدية في التعامل مع الشركاء الرئيسيين في أوروبا وآسيا، فضلا عن الجهود الرامية إلى ترسيخ الشراكات الناشئة مع البلدان التي تشعر بالقلق من صعود الصين، وخاصة الهند.
في الوقت الحالي، طغى تعامل بايدن مع الغزو الروسي لأوكرانيا على اثارة الشكوك حول موثوقية أمريكا، ولكن الاختلافات المستمرة في المصالح والتفضيلات يمكن أن تجعل الحديث عن دعم هذه العلاقات أسهل من الفعل وخاصة عندما يتعلق الأمر بمعالجة التحدي الذي تمثله الصين.
مع ذلك فأن التعامل مع أوكرانيا من خلال الدعم غير المباشر في حربها مع روسيا وعدم النظر في انضمامها لعضوية الناتو بعث برسالة خاطئة لاوروبا برمتها باعتبار ان ما تقدمه واشنطن لكييف يعد ترضية سيئة جدا لأوكرانيا واوروبا.
بالتوازي مع ذلك تحتاج الولايات المتحدة اتباع استراتيجية اكثر فاعلية في الشرق الأوسط في ظل حاجة بايدن إلى إعادة التفكير في أجندته الخاصة في هذه المنطقة، والاستفادة من الدعم الاوربي في تنافسها مع الصين، فالولايات المتحدة لا تزال بحاجة إلى أوروبا للتنافس مع الصين، فالتدخلات العسكرية والانسحابات بعد إغلاق النقاش حول المشاركة العسكرية الأمريكية في أفغانستان، تضع امام بايدن الآن أن يقرر ما يجب فعله بشأن عمليات الانتشار الأخرى المستمرة للقوات الأمريكية في سوريا والعراق وغرب إفريقيا، حيث يشاركون في مهام على الرغم من أنها غير مرئية إلى حد كبير للجمهور الأمريكي، لكنها لاتزال راكزة ولها تداعيات خطيرة. وهو يواجه الآن مناقشة مستقطبة على نحو متزايد حول ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة أن تتدخل عسكريا لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها من الغزو الروسي، وإلى أي مدى؟.
رغم هذه الايجابية المتبعة من قبل بايدن في التعامل مع الحلفاء بشكل اكثر عمقا والتزاما من سلفه ترامب لكن لغاية الان لم يقدم شيء ملموس وواقعي على مستوى توازن القوى وحسم اتجاه كفة النظام الدولي، حتى الكيان الصهيوني كان التزام ترامب الاستراتيجي معه اوثق من بايدن ودلائل الازمة الداخلية التي تتعرض لها تل ابيب من احتجاجات تؤيد ذلك، حتى جهود التطبيع العربي الاسرائيلي كانت من متبنيات ترامب وبدأت تتراجع حاليا مع وجود بايدن، والتزامه ازاءها كذلك تنقصه الحماسة والاندفاع المباشر والواضح.
ان التزامات الامن للادارة الامريكية في عهد بايدن ازاء حلفاءها لم تتعدى حدود التنظير او الدعم غير المباشر مع بقاء خطوط التواصل غير الرسمية مع اعداء الحلفاء واستمرار جهود التقويض التدريجية للمخاطر والمصالح المضادة للولايات المتحدة دون حسم واضح وملموس، كل المرتكزات والالتزامات الامنية لإدارة بايدن سواء مع اوروبا او الكيان الصهيوني او في منطقة الشرق الاوسط العراق، سوريا وافغانستان، وغرب افريقيا، اثبتت تراجع منطوق الاستمرار في شن الحرب على الإرهاب، ويبدو انها ادركت ان هذه الالتزامات تضر أكثر مما تنفع، وحان الوقت للولايات المتحدة انهاء الحرب على الإرهاب بشكل مباشر لكن بطريقة غير واضحة وغير مباشرة، فلماذا ستدعم الولايات المتحدة جهود اوكرانيا الحربية لفترة من الوقت؟ خاصة ان المؤشرات تنذر بحرب طويلة في أوكرانيا، وكذلك الحال في باقي بؤر التوتر والصراع، يبدو ان التزام بايدن لن يتعدى السياقات التكتيكية ازاء الحلفاء وازاء استراتيجية الامن القومي الامريكي في محاربة الارهاب وملاحقته ولن يتعدى الدعم غير المباشر من الخلف بصورة غير رسمية في الغالب كما يحصل الان في اوكرانيا، وكيفية التعامل مع ايران، ووجودها في العراق وسوريا وتسليم افغانستان لحكم طالبان وتمكين عودتهم، وهي توظف كل هذه المتغيرات لصالح ادامة التنافس والصراع مع الخطر الاساس الذي يواجهها وهو القطب الصيني، بعد تمكنها من ان تشغل روسيا في ملف اوكرانيا وسوريا وتداعيات العقوبات الاقتصادية ضدها.