صرح في وقت سابق رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على قناة العراقية بأن الدينار العراقي اقوى من الدولار الامريكي، كما قال السوداني ان العراق في وضع نقدي جيد اذ لديه احتياطي في البنك المركزي وصل الى 100 مليار دولار و120 طن، وواردات العراق النفطية وصلت الى مستويات عالية بحوالي (7،690 مليار دولار لشهر كانون ثاني 2023) والاشهر الماضية اكثر من هذا الرقم بقليل.
من المفترض ان يترجم هذا الحديث الى واقع اقتصادي ايجابي في السوق من حيث استقرار الاسعار للسلع والخدمات يسبق ذلك استقرار سعر صرف الدولار وضبط حركته، لكن الواقع يشير الى عكس ذلك تماما، ولعل اهم اسباب ارتفاع سعر صرف الدولار وبالتالي السلع والخدمات ما يعرف بنافذة بيع العملة الاجنبية، هذه النافذة كان من المفترض ان تكون مؤقتة لتغطية احتياجات السوق المحلية من العملة وتحت ذريعة تقوية العملة المحلية لكن العكس اصبح هو الواقع فلم تؤطر هذه العملية تحت سقف محدد او لمدة قصيرة لكنها امتدت الى عشرين سنة ولا زالت مستمرة لغاية الان، ولم يتحقق اي من شعارات تحقيق الاستقلال الاقتصادي الذي كان من المفترض ان تحققه النافذة، واتضح انها كانت واجهة للتهريب الى دول مجاورة وغسيل الاموال لحسابات بنكية ومشاريع تابعة الى شخصيات واحزاب سياسية في خارج العراق، كما اكد ذلك رئيس الوزراء، باعتبار ان ضخ مبلغ يومي ٣٠٠ مليون دولار غير واقعي مع حركة الاستيراد الحقيقية والرقم الحقيقي لا يتجاوز ٣٠ مليون دولار.
ان نافذة بيع العملة اصبحت مستنقع آسن تستغله المصارف الاهلية ومكاتب الصيرفة الذي تسيطر عليه دكاكين واحزاب سياسية محددة جعلت من الدولار سلعة تداولية بدلا من ان يكون وسيلة تبادلية واصبحت النافذة عاملا اساسيا لسحب رؤوس الاموال من تغذية القطاعات الاقتصادية الانتاجية والخدمية، علما ان واحد من اهم اهداف حركة رأس المال هو تحقيق الربح او الفائدة الاسهل والاسرع وهذا سياق وان كان له مبرراته المشروعة اقتصاديا لكن من ابتدعه الولايات المتحدة والغرض هو تدمير الاقتصاد العراقي بكل فروعه، وابعاده عن ولادة فرص عمل اكثر لتحديد ومواجهة البطالة التي تعد آفة المشاكل الاجتماعية التي تعرقل تحقيق الاستقلال الاقتصادي ومنه وصولا الى تحقيق الاستقلال السياسي.
يلعب ايضا الصراع بين واشنطن وطهران دورا مباشرا في الازمة الراهنة التي يواجهها العراق، واشنطن تدرك جيدا ان الحوالات النقدية من الدولار التي تصله جوا من البنك الفيدرالي اكبر بكثير من الحاجة الفعلية وهي تراقب كيف تصل جزء من عملتها الى ايران المعاقبة من قبلها، عن طريق التبادل التجاري المباشر وتكون مقاصة واستحقاقات مدفوعات ذلك اضافة الى الغاز الذي يذهب الى قطاع الكهرباء من خلال النافذة او المصارف والشخصيات السياسية التي تهربه بكل الطرق الى ايران، ولذلك بعد التحول الى التبادل الالكتروني للدولار مع البنك المركزي العراقي وعدم تغطية كل طلبات النقد عراقيا من استحقاقات بيع النفط وحساب العراق المودع في البنك الفيدرالي، واهمال الفواتير الوهمية والمزيفة التي تقدم في هذا الشأن، وايران بالمقابل لديها ادواتها في الضغط للحصول على ما تريد من عملة الدولار من العراق وبالتالي قد يستمر العجر في السوق المحلية وان استقر او تراجع سعر الصرف الان فالأزمة لم تحل من جذورها وهذه مشكلة كبيرة، لها اثار وتداعيات يضاف لها حجم الضغط على العملة كونها لا تذهب فقط لإيران انما لتركيا وسوريا ولبنان والامارات ومنافذ اخرى من اطراف سياسية مختلفة.
ان الاثار السياسية الناجمة عن استمرار ارتفاع اسعار الصرف ستكون وخيمة في استنزاف قوت المواطن العراقي واضعاف قدرته الشرائية وبالتالي زيادة نقمته على الواقع السياسي والطبقة السياسية وسيكون موضع اندفاع صوب الاحتجاج وهذه المرة الاحتجاج قد لا يكون بأبعاد سياسية انما لإبعاد اقتصادية يحتمل فيه الانزلاق نحو الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار.
اما الآثار الاقتصادية فإن استمرار استنزاف عملة العراق الاجنبية من الدولار سيضع تحديات مباشرة امام الحفاظ على استقرار وتصاعد الاحتياط النقدي في البنك المركزي لأن الحكومة ستضطر عاجلا ام آجلا للسحب منه لمواجهة الازمة ان استمرت وهذا هو المتوقع على الأكثر وان كانت بشكل متذبذب، ما يعمل على تباطؤ معدل النمو الاقتصادي وزيادة في التضخم، السحب من الاحتياطي الأجنبي من البنك المركزي لتمويل العجز من العملة وضخها في السوق امر له تداعيات من حيث عدم ضبط حركته وتهريبه مرة اخرى اضافة الى ان الاحتياطي النقدي اساسا مخصص لمواجهة العجز في الميزان التجاري وهذا حاصل لان حجم الاستيرادات اكبر من حجم الصادرات، ان هذا الخيار لا يمكن اللجوء اليه بتاتاً ومخالف لقانون البنك المركزي رقم ٥٦ لسنة ٢٠٠٤ المادة ٣١ لان الاحتياطي النقدي ليس مبالغ فائضة يتم استخدامها متى شاءت الحكومة بل هو مجموعة أصول اجنبية بضمنها الذهب النقدي لمواجهة اعباء ميزان المدفوعات وتحقيق قوة العملة المحلية المصدرة.
اما التداعيات الاجتماعية فستكمن في الفقر والبطالة وما تفضي اليهما، من انتشار جريمة السرقة والغش والسطو المسلح، فكلما زادت الاسعار وضعف المستوى الاقتصادي للطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل وزيادة الفجوة الطبقية (ومالها من اثار سلبية على المجال العام في الدولة)، زادت الجرائم ذات البعد الاقتصادي.
في ضوء هذه المسببات وتداعياتها واثارها السلبية لابد من طرح الحلول والمعالجات الانية في المدى المنظور والمتوسط لمواجهة واحتواء ازمة ارتفاع سعر الصرف، والمعروف اساسا يندرج في كيفية ادارة الصراع الامريكي الايراني في العراق والتفاوض بشكل مباشر حول كيفية النأي بالنفس عن تداعيات هذا الصراع والتخلص من الخضوع لأدوات ووسائل الطرفين في ليّ ذراع الاخر، لكن لا مؤشرات ايجابية تمتلكها الحكومة الحالية للنجاح في هذه المهمة، خاصة مع عدم رغبة الطرفين للتنازل لأنه يعني تراجع نفوذ احدهما في العراق لحساب الاخر ولهذا السياق تداعياته المقلقة في ميزان القوى والردع المتبادل بين الطرفين وحلفاءهما.
يمكن الحل الان أيضا بتجميد نافذة بيع العملة والرجوع الى السياسة النقدية التقليدية التي تعتمد على فتح الاعتمادات المستندية للمستوردين لغرض تثبيت سعر الصرف لكي يذهب رأس المال لتغذية الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة، علما ان الغطاء المالي كاحتياطي يغطي كل الاعتمادات المستندية وبضمانة ايضا السندات المودعة في البنك الفيدرالي الامريكي وطرح تسهيلات لتجاوز الروتين مثل تجميد اجازة الاستيراد الذي ابعد المستوردين من فتح الحساب الجاري واكثرهم يجهلون ذلك وهذا من مهمة الغرف التجارية في معالجة هذا الابتعاد، هذا السياق التقليدي في ضبط ميزان المدفوعات بين الاستيراد واستحقاق بيع العملة الاجنبية للمستورد معمول به في كثير من البلدان المستقرة اقتصاديا.
ايضا كخيار مؤقت لتدارك الازمة لابد من المباشرة بتوزيع جزء من رواتب الموظفين والمتقاعدين بالدولار وبالسعر الرسمي للدولار الواحد وهذا السعر سيخدم الاكثرية من الطبقة المتوسطة والفقيرة.
كما على الحكومة ان تعمل على دعم وزارة التجارة باستيراد المواد الغذائية والمواد الاستهلاكية الضرورية لحاجة المواطن وجعل الوزارة تاجر جملة دون احتكار او تمييز كمركي او ضريبي لاختبار لجانها بالعقود بأقل الاسعار لتكون منافسا واقعيا للمستورد في القطاع الخاص.
ان وزارة التجارة اذا دعمت ورفدت بإدارة وطنية كفوءة وامينة وذات خبرة تفاوضية عالية ستكون قادرة على تمويل الموازنة التشغيلية كاملة من الارباح المتحققة في التنافس السوقي لان امكانياتها الكبيرة قادرة على توفير السلع بأرخص الاثمان.
كما يجب الابتعاد عن تعويم الدولار لأنه الفخ الذي يجذب رؤوس الاموال لتحقيق الربح او الفائدة السريعة على حساب نهوض الصناعة والزراعة وتنشيط التجارة والسياحة، هذا الفخ الذي تسعى اليه الكثير من دول الجوار لجعل العراق سوقا استهلاكيا رائجا لمنتجاتها، فيجب ان تعمل الحكومة على معالجة ومواجهة هذا الفخ والا الازمة ستنفجر كلما يراد السيطرة عليها مرة اخرى.
ان استمرار البيع عبر ما يعرف بنافذة العملة وبسعرين سعر رسمي وسعر احتكاري بفارق واضح عن كل دولار يباع سيذهب الفرق حتما الى جيوب الفاسدين والمهربين ودكاكين المصارف بفرق السعرين وسيتحمل المواطن المستهلك هذا الفرق على السعر الحقيقي وبالتالي ستؤول الاوضاع الى متاهات لا تحمد عقباها. لذا على رئيس مجلس الوزراء ان يكون جريئاً ويقف مع مصالح شعبه في هذه المحنة، فعليه ضبط الحدود حتى وان اضطر الى غلقها لفترة وجيزة عدا استيراد المواد الغذائية والسيطرة على المنافذ المنفلتة لتهريب كل شيء يضر بالشعب العراقي وعليه ضرب الفاسدين والمتلاعبين بالأسعار والاسواق، والمتهمين بالتهريب وغسيل الاموال.