إن أوروبا تتخبط في دوامة المخاوف الأمنية، والتهديدات السيبرانية، وقضايا الهجرة، وعودة روسيا، وصعود الصين، وغربة الولايات المتحدة، وتراجع نظام قائم على القواعد، في هذه العملية تراجعت أهمية حقوق الإنسان وسيادة المدنيين وهي قضايا ظلت لفترة طويلة مصدر إزعاج رئيسي بين باكستان والاتحاد الأوروبي...
للكاتب: خرم عباس- محلل شؤون منطقة جنوب آسيا
أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان ديرلاين في أوائل آذار الماضي عن مشروع البوصلة الاستراتيجية 2030 الطموح، والذي تبلغ تكلفته 800 مليار يورو بحسب صندوق الدفاع الاوروبي، وجاء هذا القرار كنتيجة مباشرة لتراجع هيكلية أمن شمال الأطلسي التي دامت قرابة ثمانية عقود.
فبعد التهديدات الاخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب وشركائه بتقليص الالتزامات المالية الأمريكية تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسعيه إلى إبرام اتفاق سلام متسارع بين روسيا وأوكرانيا، وتوجه الولايات المتحدة نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، اضطر الاتحاد الأوروبي إلى زيادة إنفاقه الدفاعي، وبعث إعلان المشروع برسالة واضحة إلى الولايات المتحدة والعالم أجمع: إذا كان عهد الضمانات الأمنية الأمريكية قد شارف على الانتهاء، فقد بدأ عهد جديد من إعادة التسلح الأوروبي.
انحازت أوروبا إلى حد كبير إلى القيادة الأمريكية في الشؤون العالمية لعقود، وغالبا ما كانت تتبع واشنطن دون تطوير موقف أمني مستقل، ومع ذلك تُشير البوصلة الاستراتيجية 2030 إلى نقطة تحول، فقد بدأت أوروبا أكثر ثقة وحزما في الظهور، وهي تسعى إلى العمل وفقا لمصالحها الاستراتيجية الخاصة بدلا من الانسياق وراء الركب الأمريكي.
لطالما كان الاتحاد الأوروبي عملاقا اقتصاديا، ولكنه أقل وزنا نسبيا من الناحية العسكرية، ومن خلال تعزيز قوته العسكرية، قد يتبنى سياسة خارجية أكثر حزما في الشؤون الإقليمية والعالمية، وهذا يعني أنه يسير على الطريق الصحيح ليصبح ركيزة أساسية في عالم جديد متعدد الأقطاب، إذ ستوفر البوصلة الاستراتيجية 2030 مركزا عسكريا صناعيا رئيسيا ثالثا بعد الولايات المتحدة والصين.
وبالتالي، هناك فرص لزيادة قدرة أوروبا على إبراز قوتها بشكل مستقل في أجزاء من العالم، بالنسبة للقوى المتوسطة مثل الهند ورابطة دول جنوب شرق آسيا ودول مجلس التعاون الخليجي وباكستان، فإن أوروبا ذات القدرات العسكرية الأقوى والسياسة الخارجية الحزمية يمكن أن تفتح آفاقا جديدة لشراكات أمنية تتجاوز التنافس بين الولايات المتحدة والصين.
إن أوروبا الحازمة تفتح أيضا فرصا استراتيجية جديدة لجنوب آسيا، وبينما تسعى أوروبا إلى تعزيز دورها الإقليمي والعالمي، فإنها في وضع جيد للظهور كوسيط موثوق للسلام، وقد حافظ الاتحاد الأوروبي على موقف محايد خلال النزاعات الباكستانية الهندية، مما أكسبه مصداقية في جنوب آسيا، ويمكن لأوروبا الأكثر ثقة ونشاطا أن تضيف صوتا قيما إلى الجهود الرامية إلى منع الأزمات في جنوب آسيا، ويمكنها أيضا تسهيل الحوار بين باكستان والهند في القضايا الأقل تسييسا مثل أمن المناخ، ويمكن أن يساعد مشاركتها على كلا الجانبين في تخفيف التوترات بين باكستان والهند، وقد تم الإعلان عن هذه الخطة في وقت تجري فيه مفاوضات تجارية بين الاتحاد الأوروبي والهند، وقد فتح تغيير أولويات الاتحاد الأوروبي نافذة أمام نيودلهي لتأمين صفقة تجارية أفضل، علاوة على ذلك، قد تجد نيودلهي شريكا جديدا يقدر الاستقلال الاستراتيجي ويدعم دورها المتزايد في الحوكمة العالمية.
لا ينبغي النظر إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كوحدة واحدة بعد الآن لطالما نظرت إسلام آباد إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معا تحت مسمى الغرب، إلا أن التطورات الأخيرة تؤكد تباين مصالح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشكل متزايد، لا سيما في مسائل الحوكمة العالمية والأمن. لذا، تحتاج إسلام آباد إلى إعادة النظر في فهمها للغرب، من المهم أن تدرك باكستان أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم يعودا وحدة واحدة، وقد يتبعان نهجين مختلفين في القضايا الدولية الرئيسية.
ومن المرجح أن توسع خطة الاتحاد الأوروبي نطاق صناعة الدفاع مما سيخلق طلبا جديدا على الشراكات الاستراتيجية، إن أوروبا المتعطشة للاستراتيجية يمكن أن تخدم المصالح السياسية والاستراتيجية لإسلام آباد جيدا، لذلك يجب على إسلام آباد أن تُشرك العواصم الأوروبية بشكل استباقي -على الصعيد الثنائي- سعيا وراء شراكات استراتيجية من حيث يخطط الاتحاد الأوروبي لبناء سوق دفاعي والسعي إلى شراكات عالمية، وإذا ما تم وضع باكستان في موقع جيد فيمكنها أن تقدم الإنتاج المشترك والبحث والتطوير، أو أن تكون مركزا صناعيا منخفض التكلفة للتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج في مجمع عسكري صناعي أوروبي ناشئ.
كما أنه في الوقت الذي تسعى فيه أوروبا إلى تنويع سلاسل التوريد وتقليل اعتمادها على الدول الأخرى، يمكن لباكستان أن تُرسّخ مكانتها كشريك موثوق في قطاع المعادن النادرة وقطاع المعادن الحيوي، إن خطوة إسلام آباد لدعوة الاستثمار في هذا القطاع الناشئ يمكن أن تُرسي الأساس لشراكة استراتيجية طويلة الأمد بين باكستان والاتحاد الأوروبي.
ونرى اليوم، إن أوروبا تتخبط في دوامة المخاوف الأمنية، والتهديدات السيبرانية، وقضايا الهجرة، وعودة روسيا، وصعود الصين، وغربة الولايات المتحدة، وتراجع نظام قائم على القواعد، في هذه العملية تراجعت أهمية حقوق الإنسان وسيادة المدنيين وهي قضايا ظلت لفترة طويلة مصدر إزعاج رئيسي بين باكستان والاتحاد الأوروبي، هذا يعني أن إسلام آباد ستواجه تدقيقا أقل في مراجعة وضعها بموجب نظام الأفضليات المعممة المعززة، في وقت ينصب فيه اهتمام أوروبا بشدة على أولوياتها الدفاعية والأمنية، لذلك ينبغي على إسلام آباد اغتنام هذه الفرصة بإعادة تقييم سياستها تجاه أوروبا مع معالجة قضايا حقوق الإنسان وسيادة المدنيين لمصلحتها الخاصة.
اضافةتعليق