إنّ النفسية السياسية الأردنية تميل على نحو عام إلى استغلال الآخرين وتوظيفهم لأقصى حدّ ممكن قدر المستطاع، ومن دون التفكير -طبعا- بتقديم خدمات مقابلة مماثلة، كما أنّ السلوك السياسي الأردني عموما مطبوع بخشونة وفضاضة تجاه الطرف الضعيف أو ما تعتقد أنّه كذلك، وسواء أكان التعامل مع أطراف خارجية أو أطراف داخلية...
تتسم طبيعة التعامل السياسي الأردني مع الخصوم داخليا وخارجيا عموماً بالبراغماتية والحذر الشديد، مع مزيج من المرونة الظاهرة والصرامة الخفية، وغالباً ما يفضل الأردنيون احتواء الأزمات بدل المواجهة المباشرة لاسيما حين يكون الطرف، أو الندّ قويا، أو إنّه يتمتع بشعبية واسعة، ولكن إذا وصل الأمر إلى تهديد الهرم الحاكم، أو أحد أركانه فكلّ الأسلحة ستكون متاحة على الفور!.
هذا ما حدث تأريخيا في تعامل السلطات الأردنية مع الفلسطينيين المقيمين على أراضيها عام 1970 في ما يُعرف بـ(إيلول الأسود) الذي جاء على خلفية ما قيل حينها بمحاولة اغتيال الملك حسين بن طلال، واستيلاء بعض الفصائل الفلسطينية على أراض تابعة للمملكة.
وبقدر ما يتعلق الأمر بعلاقة الجهات الرسمية الأردنية مع جماعة "الأخوان المسلمين" فقد أسست رسميا سنة 1946 بعد هروب قسم من قياداتها من مصر واستقبلهم الملك الحسين بن طلال في وقتها نكاية بـ(عبد الناصر)، وسمح لهم بالعمل العلني والمشاركة السياسية!، وقد زاد إعجاب الملك بقيادات هذه الجماعة في موقفهم من إحداث إيلول، فعلى الرغم من جذورهم الفلسطينية وقفوا بقوة إلى جانب الملك متهمين إخوانهم الفلسطينيين بأنّهم مجموعة من المرتزقة الشيوعيين، وقد كانت الجائزة الكبرى المعطاة لهم حينها هو تنصيب أحد قيادات الجماعة (إسحاق الفرحان) وزيرا للتربية والتعليم، لكن مع تصاعد نفوذ بعض أعضائها، بدأ التضييق عليهم جميعا قانونياً وإعلامياً، وحُظِرت الجماعة لاحقاً بـ "صيغتها القديمة" لكن سُمح لها بالوجود شريطة البقاء تحت السيطرة!.
وقد استمر هذا حال الشدّ والجذب ابتداء من عام 2015 عندما ألغت الحكومة الأردنية ترخيص الجماعة الأصلي الصادر في الأربعينيات كما أشرنا لذلك آنفًا، وفي 2016 صدر قرار قضائي يعدّ الجماعة غير قانونية مما شكل حظرا فعليًا لنشاط الجماعة القديمة، وفي العام نفسه سُمح لمجموعة منشقة من الجماعة المذكورة بحمل اسم "جمعية الإخوان المسلمين"، وهذه الجمعية الجديدة صارت تعمل ضمن إطار قانون المنظمات الرسمي، وعُدّت الجهة الوحيدة الممثلة للإخوان المسلمين رسميًا في الأردن.
أكثر ما يثير حفيظة الجهات الرسمية في الأردن أن نسبة كبيرة جدا من أعضاء هذه الجماعة حوالي 50% منهم هم من أصول فلسطينية؛ والفلسطينيون داخل المملكة يمثلون دائما خصما أو عدوا محتملا، ويتعرضون إلى مراقبة ديموغرافية مستمرة ودقيقة، وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من الأردنيين هم من أصول فلسطينية كما هو معلوم لكن النظام الحاكم لم يسمح لهم قط بقيادة مفاصل الدولة الأمنية والسيادية، لاسيما الحسّاسة منها، والقصد من ذلك الحيلولة دون ظهور أي قوة فلسطينية من شأنها تهديد توازن النظام والارتباط بأجندة خارجية، وهو واقع عمل الجماعة التي أسست أول مرة على يد حسن البنا في القاهرة مطلع القرن العشرين وكان الطابع العام لها طابعا أمميًا، غير أن حكّام الأردن -كما يبدو- من متابعة بعض تعليقات المثقفين كانت ومازالت تسعى لـ(توحيد) العشائر الأردنية، أو المجتمع الأردني بوجه عام تحت راية إسلامية ولم تقتنع بنموذج إسلامي أفضل من جماعة الأخوان المسلمين.
آخر أخبار هذه الجماعة يلخصّه تصريح وزير الداخلية الأردني مازن الفراية الذي أعلن فيه حظر أنشطة الجماعة وإغلاق مقراتها مع مصادرة أموالها المنقولة وغير المنقولة باعتبارها جماعة منحلة متهمٌ بعض أعضائها بكونهم يمثلون "خلايا إرهابية" مسؤولة عن بناء مصانع أسلحة غير مرخصّة.
إنّ النفسية السياسية الأردنية تميل على نحو عام إلى استغلال الآخرين وتوظيفهم لأقصى حدّ ممكن قدر المستطاع، ومن دون التفكير -طبعا- بتقديم خدمات مقابلة مماثلة، كما أنّ السلوك السياسي الأردني عموما مطبوع بخشونة وفضاضة تجاه الطرف الضعيف أو ما تعتقد أنّه كذلك، وسواء أكان التعامل مع أطراف خارجية أو أطراف داخلية.
ولهذه الحالة "السايكوباثية" الأردنية أكثر من شاهد بعيد وقريب، فبخصوص العلاقة مع العراق شعبا وحكومة يمكن الاستشهاد هنا بما حدث مؤخرا من إساءة أخلاقية همجية ضد الشعب العراقي قام بها مشجعون أردنيون، على إثر مباراة لكرة القدم جمعت بين منتخب العراق وفلسطين في عمّان، وحتى هذه اللحظة لم يصدر بيان رسمي واضح من الحكومة الأردنية يدين ما حدث من تصرفات بذيئة ومؤذية للشعور العراقي العام، واغلب الظن أن ما يحمل الجهات السياسية على تقديم اعتذار لائق هو اعتقادهم بأنّ العراق يمثّل طرفًا ضعيفًا يسوغ الاعتداء على كرامة شعبه، وهو الأمر الذي لم تفعله المملكة مع دول أخرى كـقطر التي ترى فيه بلدًا عزيز الجانب، وتتوقع منه أن يرد عليه الصاع صاعين مستقبلا، وهو ما أكدّه تعاملها السياسي والإعلامي في الأزمة التي نشبت بين قطر والأردن عام 2017 حين وقف الأردن إلى صف السعودية البلد الأكثر قوة ضد قطر البلد الأقل قوة.
ومن هنا تتعالى أبواق الكتّاب والإعلاميين المحسوبين على النظام الأردني وهي تهتف لإجراءات المملكة ضد جماعة الأخوان المسلمين فرع الأردن التي أصبحت تسوّق بين ليلة وضحاها بوصفها مسؤولة عن محاولة جعل البلاد منصة انطلاق لصراعات الآخرين، وساحة خلفية لحماس، مع العلم أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن -كما أشرنا لذلك سابقا- هي الفرع الوحيد الذي كان له نشاط ملحوظ في المملكة لا لشيء إلا لأنّها انصاعت تماما لمطلب التدجين الرسمي طوال تاريخها تقريبًا، وما إن خطت هذه الجماعة خطوة خارج المضمار المعدّ لحركتها سلفا حتى انهالت عليها عصي الدولة سياسيا وإعلاميا من كل جانب.
اضافةتعليق