واجه تطبيق نموذج التوافقية السياسية في المنتظم السياسي العراقي بعد العام ٢٠٠٣ العديد من المعوقات والصعوبات المتمثلة اهمها وجود ارث تاريخي طويل من ثقافة الواحد المستبد في السياسة والتربية والمجتمع، وهذا شكل تحدياً كبيراً أمام هذه التجربة وضربا عميقاً في إمكانية الاستقرار أو الخروج من الأزمات السياسية بين الأطراف واهمها أزمة الثقة وأزمة النزعة الفردية والتبعية الى الخارج، إضافة إلى إن آليات التوافق واهمها حق الفيتو المتبادل عطل العديد من المشاريع الحيوية باعتبار إن الأغلبية والأقلية متقابلان بالقدرة السياسية في تمرير القوانين.
وبعبارة أخرى إن التوافقية لا تزال غير مستوعبة من قبل النخب السياسية في العراق وذلك بسبب الاعتقاد السائد لديها بانها آلية للحصول على المكاسب وليست أسلوبا سياسياً مؤقتا من الممكن إن يضمن التعايش ويؤسس الاحترام المتبادل، وهذه النخب السياسية نتيجة موروثاتها وتصوراتها الخاطئة حول معنى التوافق أضرت كثيراً بتجربة النظام البرلماني ولم تعمل على تثبيت قواعد واصول هذا النظام بشكل شوهت معه هذه الاسس، في حين كان من المفترض ان تكون التوافقية مدخلا نحو بلورة تشكلات جديدة وتطور في أسلوب تطبيق النظام البرلماني نحو افراز حكومة الاغلبية مع وجود معارضة نيابية فاعلة باعتبار ذلك الوعاء الطبيعي لهذا النظام.
اذ ومع اهمية التوافقية في المراحل الاولى للتحول من هيمنة الحزب الواحد الى التعددية لابد من الاحزاب والائتلافات السياسية إن تطبق الأغلبية، فيجب إن تكون الأكثرية هي الحاكمة، كما يجب إعطاء الأقليات حقوقها، فتطبيق حكم الأغلبية سيعمل على الاستقرار السياسي حال الاعتراف بهذا النموذج من الحكم، عكس التوافقية التي لا تمتلك قدرة كافية على تحقيق حكومات مستقرة وفعالة في العراق، فحكومة الائتلاف الواسع تستلزم حتماً عدم وجود معارضة رسمية في مجلس النواب أو وجود معارضة صغيرة شكلية، مع إن المعارضة الفاعلة مكون جوهري في ترسيخ الديمقراطية البرلمانية، كما إن التوافقية في حال استقرارها كمنتظم للحكم في مجتمع سياسي اجتماعي تعددي متنوع ستكون اهم وسائل تقسيم هذا المجتمع التعددي بشكل اكبر إلى عناصر أكثر تجانساً واستقلالية مما يجذر الهويات الفرعية عدم المساعدة على الاندماج، وهذا يعني زيادة الهوة بين المكونات وزيادة التماسك داخل كل مكون على حدة ما يضر بعملية الانصهار في عملية تعزيز الوحدة الوطنية، وهذا ما يصعد من ظاهرة التمايز بين المكونات، وهذا يؤدي إلى تأخر وشل عملية صنع القرار لأنها تخضع لآلية التوافق والترضية بين الأطراف المتمايزة أصلا، لتبقى تدور في فلك الهرمية النخبوية دون الوصول الى تحقيق مطالب القاعدة الجماهيرية.
ما أفرزته نتائج الانتخابات المبكرة في العراق التي اجريت اساسا نتيجة اخفاق تجربة التوافقية طيلة ١٨ عام من الاختلالات مع بروز قوى سياسية جديدة وتراجع اخرى تقليدية واختلاف في التوازنات السياسية القائمة سابقا، تجعل من التوجه نحو نموذج حكم الاغلبية فرصة لتجاوز ازمات تعطيل بناء المؤسسات والاستناد الى الدستور في تشريع القوانين المهمة، والاهم من ذلك تعديل الدستور نفسه، فبروز ائتلاف سياسي يحصل على اكبر عدد من المقاعد النيابية وتتوزع فيه القدرات الحزبية يوفر فرص مهمة لاختيار حكومة تتحمل المسؤولية منفردة بتطبيق مواد الدستور وتشريع القوانين الدستورية وتقديم الخدمات والامن للمواطنين.
كما انه يسهم الى حد كبير في تطبيق اركان النظام النيابي فيما يتعلق بالمعارضة البناءة مما يفعل الرقابة السياسية والمالية ويحفز حكومة الاغلبية بتطبيق برامجها الانتخابية والاضطلاع باعباءها وواجباتها الدستورية من خلال الاستجابة للمحاسبة، كما انه يشجع ويحفز على الشفافية عبر الممارسة السياسية التنفيذية والتشريعية للأغلبية ازاء المجال العام.
ان اصرار الاطار التنسيقي على فكرة وحدة المكون الشيعي كحجة للتمسك بالتوافقية له اكثر من دافع، أولاً: لأنه لا يمتلك حجة دستورية او قانونية تفرض ضرورة اعادة انتاج حكومة توافقية شاملة، مع ما صار واضحاً من فشل مثل هذه الحكومات، فيلجأ الى الحديث عن (الأعراف) التي انتجت اخفاقات هائلة وفشل ذريع قاد الى احتجاجات عارمة. وثانياً: لأن أطراف الاطار التنسيقي تحاول التركيز على ورقة محرجة للكتلة الصدرية، بحجة تقسيمها للطائفة وتمزيق وحدة المذهب، وقد سبق ان استخدمت هذه الحجة عام ٢٠١٠ لإجبار التيار الصدري على التجديد للسيد نوري المالكي.
المفارقة هنا هي ان قادة الاطار يتناسون امرين، الاول: ان معظمهم سبق وان طالبوا بقوة بحكومات أغلبية واعتبروا التوافقية سبباً في فشل التجارب السابقة، والثاني: ان نفس الانقسام موجود ايضاً في المكون الكردي حيث ان "التحالف الثلاثي" يضم الحزب الديمقراطي الكردستاني فقط ولا يشمل حزب الاتحاد الوطني والجيل الجديد والقوى الاسلامية الكردستانية (فلم تتحدث القوى الكردية بأن الحزب الديمقراطي الكردستاني يفرط بحقوق المكون الكردي).
كما ان الانقسام موجود في المكون السني عند بعض النواب المنشقين من تحالف عزم ونواب اخرين ومرشح التزايد بعد تشكيل الحكومة، مع ذلك لم يتم الحديث عن تفكيك المكون وتمزيقه وحقوقه بالطريقة التي يطرحها الاطار التنسيقي.
ان حجة حقوق المكون الشيعي، تعني هنا امرين، الاول: انه يجب ان يكون هنالك توافق بين الاطراف الشيعية يحفظ لكل منها مصالحها وامتيازاتها وحصصها وفصائلها المسلحة، وبالتالي مهمة رئيس مجلس الوزراء ستكون ارضاء جميع هذه الاطراف والخضوع لها، والا فأن المكون سينقسم ويذهب الى التناحر والاصطدام، الثاني: ان التشيع وهو مفهوم تحتكر تلك القوى تعريفه وتوظيفه بما ينسجم مع مصالحها ومصالح حلفائها الاقليميين، ونلاحظ هنا ان فكرة وحدة المكون واستحقاقاته لم تبرز عام ٢٠١٨ حيث ذهبت معظم اطراف الاطار التنسيقي الى تشكيل تحالف البناء مع القوى السنية جميعها تقريبا.
هنالك ترجيحات تميل الى الاعتقاد بأن اتفاقاً ما سيحصل كمخرج ثالث يمازج بين خيار الاغلبية والتوافقية، لكن موقف قوى الاطار التنسيقي واستخدامها الحالي للورقة المذهبية والمكوناتية، سيعمل على الاجهاز على ما تبقى من قيمة للعملية الانتخابية، تماماً كما ان تفسير مفهوم الكتلة الأكبر الذي برز بعد الانتخابات عام ٢٠١٠ اجهز على عنصر مهم في التنافس الانتخابي.
كل هذا سيدفع دون ادنى شك نحو التوجه الى صيغة سياسية لا يمكن تصورها على انها صيغة توافقية محضة كما في السابق، وانما الذهاب نحو خيار الاغلبية الوطنية وهذا اصبح صعب في ظل عقبات التعطيل والانسداد، او الى الممازجة بين الاغلبية كاطار عام حاكم للعملية السياسية ولو شكليا خاصة في تسمية رئيس مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية، والتوافقية في تقسيم الوزارات والمناصب والمواقع العليا من وكلاء ومدراء عامين ومحافظين.