اعادت الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، عقب احداث طوفان الاقصى في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، التأكيد على ضرورة مناقشة انهاء الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي عبر مايعرف بحل الدولتين،
وتتحرك فرنسا والمملكة العربية السعودية ودول اخرى وفق هذه الرؤية، في حين تتحرك مصر وقطر على العمل من أجل وقف الحرب في القطاع، والخوض بمسارات انهاء الحرب.
وفي هذا الإطار، بادرت السعودية بالتعاون مع فرنسا في تنظيم مؤتمر دولي بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وطرح موضوعة حل الدولتين ووضع مسار موثوق لإقامة دولة فلسطينية، بمقر الأمم المتحدة في نيويورك يومي ٢٨ و٢٩ تموز ٢٠٢٥، وهو ما اعاد الامل للفلسطينيين بإمكانية قيام دولة خاصة بهم "رغم صعوبة ذلك"، خاصة مع اعلان عدد من الدول الغربية الحليفة لاسرائيل عن نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية على هامش المؤتمر.
هذا الحراك الدبلوماسي ادى الى توسيع خريطة الاعتراف الغربي والعالمي بالدولة الفلسطينية قبيل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول المقبل، في خطوة من شأنها خلق زخم سياسي ودولي تجاه القضية الفلسطينية، ومع ذلك، يظل الاعتراف ناقصاً من الناحية القانونية ما لم تحصل فلسطين على العضوية الكاملة في الأُمم المتحدة، وهو أمر يصطدم بعقبة الفيتو الأمريكي كما هو معروف.
غابت اسرائيل والولايات المتحدة عن مؤتمر نيويورك، وجاء الرد الاسرائيلي متوقعاً برفض الاعلان الصادر عنه، والذي تضمن التزاماً باتخاذ خطوات ملموسة ومرتبطة بإطار زمني لا رجعة فيه نحو التسوية السلمية وحل الدولتين، اضافة الى الدعوة لوقف الحرب في غزة واعادة ادارتها الى السلطة الفلسطينية، وترفض اسرائيل هذه البنود بشكل قاطع، في ظل سيطرة اليمين المتطرف على الحكم منذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة عام ١٩٩٦، وتجميده للعملية السلمية وتنكره لاتفاقات اوسلو.
ويزيد المشهد تعقيداً التصويت الاخير للكنيست على رفض قيام دولة فلسطينية، وقراره الاخير حول ضم الضفة الغربية -وان كان غير ملزماً-، مع تصاعد المخاوف من توجه اسرائيل نحو ضم اجزاء من قطاع غزة وفق الخطة الاخيرة، وهي خطوة تُعد تحولاً استراتيجياً يهدد ما تبقى من اي فرص لتحقيق حل الدولتين، ويعكس نزوعاً اسرائيلياً نحو اعادة احتلال القطاع، خاصة مع دعوات وزير المالية سموتريتش لعودة المستوطنين الذين انسحبوا من غزة عام ٢٠٠٥.
هذا التحول الإسرائيلي، الى جانب الرفض الشعبي الواسع بين الاسرائيليين لأي انسحاب من الضفة الغربية، يؤكد ان المعارضة الاسرائيلية لحل الدولتين باتت راسخة، وهو ما تدعمه الإدارة الامريكية الحالية التي تنسق مواقفها مع حكومة نتنياهو، بل وتعمل على عرقلة اي اعتراف غربي بدولة فلسطين، وصولاً الى التهديد بعقوبات اقتصادية، وتُضاف الى ذلك خطوات رمزية استفزازية، مثل زيارة رئيس مجلس النواب الأمريكي لمستوطنات غير شرعية وتصريحاته بأن الضفة الغربية (ارض يهودية).
ورغم قتامة الوضع، فأن الجهود الدبلوماسية والحراك الاوربي، وخاصة اعلان فرنسا وبريطانيا وكندا نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في ايلول المقبل، تمنح الفلسطينيين قدراً من الامل، وان كان مشروطاً في بعض الحالات بإصلاحات داخلية في السلطة الفلسطينية، لكنه مسار مهم يدعم خيار حل القضية الفلسطينية او على الاقل يضغط باتجاه تحقيق السلام وايقاف الحرب، اذ طرحت مسألة اصلاح السلطة الفلسطينية وضمان بقائها ضمن نقاشات مؤتمر نيويورك، وتمثلت بتحرك الرئيس الفلسطيني وتعهده للرئيس الفرنسي بإجراء إصلاحات عميقة، وهو مسار مطلوب لتعزيز شرعية السلطة داخلياً وقطع الطريق على الحجج الاسرائيلية التي تشكك في قدرة الفلسطينيين على ادارة دولتهم ان اقيمت.
وبالتوازي مع هذا السياق فهو غير كافِ، ويتعين على المجتمع الدولي ممارسة ضغط اكبر على الحكومة الاسرائيلية لوقف سياساتها الرامية الى اضعاف السلطة الفلسطينية عبر الحملات العسكرية، وتوسيع الاستيطان، واحتجاز اموال الضرائب، وقطع التعاون المصرفي، وهي اجراءات اعلن وزير المالية الاسرائيلي صراحةً انها تهدف الى انهيار السلطة الفلسطينية.
وفي ضوء ذلك، ونتيجة لتصاعد الضغوطات الدولية لتعزيز المسار الدبلوماسي لحل القضية الفلسطينية اتجهت حكومة نتنياهو نحو اعداد خطة لاحتلال غزة بانتظار المصادقة عليها، واستمرت بالتعنت صوب تنفيذ هذا الخيار، حتى مع انعقاد جلسة مجلس الامن يوم الاحد 3 اغسطس/آب وطرح مواقف رافضة لهذا التوجه، لكن هذا التحول يعد مناورة واضحة لتقويض اي جهود دبلوماسية لانهاء الحرب على قطاع غزة، او الحديث عن حل القضية الفلسطينية، ما يشكل متغيراً استراتيجياً ينذر بخراب ما تبقى من اي بصيص امل في حل الدولتين.
اذ اعلنت اسرائيل انها ستسيطر على قطاع غزة بالكامل واطلقت حملة عسكرية مكثفة لاسترجاع الارض التي استولت عليها منذ بداية الحرب، ورغم عدم وضوح ما اذا كانت السيطرة مؤقتة، فان التصعيد العسكري والتحشيد على الارض، بالإضافة الى تصريحات رسمية، تُشير الى ان اسرائيل تمضي نحو احتلال طويل الامد لغزة، وواضح ان هدف السيطرة على القطاع لايرتبط بسياقات تحرير الرهائن الاسرائيليين او حتى القضاء فقط على حركة حماس واذرعها العسكرية او تقييدها، بل تمهيد الطريق لدفع السكان نحو الهجرة عن القطاع، كما تشير المؤشرات، ثم قطع اي صلة سياسية بين غزة والضفة الغربية وصولاً الى قطع اي تحرك لاستئناف المسار السياسي عبر حل الدولتين.
ان استمرار الوجود العسكري الاسرائيلي في قطاع غزة واحتلاله سيزيد من التوتر مع دول المنطقة واحتقانها ويعقد علاقات اسرائيل الدبلوماسية معها بل ممكن ان تتصاعد التوترات حتى مع الحلفاء التقليديين في أوروبا، هذا التوجه سيسبب قلق دولي يعزز عدم الاستقرار واستمرار الصراع في المنطقة والعالم، بل يعمل على جعله متجددا.
في خضم هذه الازمة، لا تزال خطوة الاعتراف بدولة فلسطينية، التي تدرسها فرنسا والمملكة المتحدة ودول اخرى، قد تمثل نافذة اخيرة لإحياء مسار السلام، اذ ان الاعتراف الرسمي لن يكون رمزياً فقط، بل له آثار قانونية واستراتيجية قد تتيح استعادة مسار استقرار سياسي وامني مؤكد ان وافقت عليه اسرائيل.
ان خطة نتنياهو للسيطرة العسكرية الشاملة على غزة ليست مجرد عملية عسكرية مؤقتة، بل هي خطة لاحتلال طويل الامد ستعمل على مفاقمة الازمة، ويقصي الفلسطينيين، وبالمقابل سيعمق من عزلة اسرائيل الدولية، ولهذا يعتقد المجتمع الدولي "عدا الولايات المتحدة والمانيا"، أن الاعتراف الدولي بفلسطين قد يكون أحد الخيارات القليلة المتبقية لاعادة المسار السياسي والدبلوماسي المؤدي للسلام في المنطقة وانهاء الحرب والصراع الذي تقوده حكومة نتنياهو حالياً، لكن بدون قبول اسرائيل وموافقة امريكا على اي خطة سلام ونقاشات جادة لحل القضية الفلسطينية، لا يمكن ان يكون اي حراك دبلوماسي لحل الدولتين او غيره قريباً من الواقع، وهذا مستبعد حالياً.
اضافةتعليق