مناورات باكستان بين واشنطن وطهران في ظل الصراع الإسرائيلي- الإيراني

شارك الموضوع :

استقبل الباكستانيون بارتياح إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل الذي دام اثني عشر يومًا، فمع تصاعد التوترات بين الخصمين اللدودين، لاسيما عقب الغارات الجوية الأمريكية في الحادي والعشرين من حزيران ضد المنشآت النووية الإيرانية، ارتفعت وعلى نحو مفاجئ الأهمية الجيوسياسية لباكستان...

بقلم الكاتبين: مارفن وينباوم، ونادي علي- معهد الشرق الأوسط

لقد كانت كلًا من طهران وواشنطن تتوقعان من إسلام آباد الانحياز إلى موقفيهما، فالولايات المتحدة تأمل في أن تتفهم باكستان قرارها باستخدام القوة لتدمير برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، في حين كانت إيران تعوّل على وقوف باكستان إلى جانبها في متابعة ما تزعم أنه برنامج طاقة سلمي، وقد وضع هذا الوضع الحكومة الباكستانية في موقف حساس سياسيًا ودقيق دبلوماسيًا.

فمن جهة، كانت بصدد تعزيز علاقاتها الستراتيجية مع الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى، لم تكن ترغب في التخلي عن مبدأ دعم تقرير المصير لدولة إسلامية مجاورة، على أن أي هجوم يؤدي إلى زعزعة استقرار إيران يهدد في الوقت نفسه بإشعال أزمة داخل باكستان؛ إذ قد تستغل الجماعات الإرهابية الناشطة في إقليم بلوشستان المتوتر والممتد على الحدود الإيرانية-الباكستانية، قد تستغل الوضع الخارج عن السيطرة لتكثيف الهجمات أو الاستحواذ على مناطق حدودية رخوة.

وعلى الرغم من كل هذه الاعتبارات، فإن الصراع الطويل بين إيران وإسرائيل لم يشكل من قبل تحديًا داخليًا بالغًا للمؤسسة العسكرية- المدنية الباكستانية كما فعل في هذه المرة، فقبل يوم واحد فقط من الضربات الأمريكية أقدمت باكستان على ترشيح الرئيس دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام لعام 2026، مشيدةً بـما سمته (تدخله الدبلوماسي الحاسم وقيادته المحورية) خلال الحرب الأخيرة التي دامت أربعة أيام بين الهند وباكستان، وقد كان هذا التوقيت سيئا للغاية فقد انتقدت أطياف سياسية واسعة المؤسسة الحاكمة لظهورها وكأنها تُرضي الولايات المتحدة، وتتخلى عن دولة إسلامية مجاورة! وهنا سارعت الحكومة الباكستانية إلى إدانة الضربات، ووصفتها بأنها (مقلقة بشدة) وانتهاك للمعايير الدولية، كما أعربت وزارة الخارجية عن قلقها العميق من احتمالات التصعيد، وتواصل رئيس الوزراء شهباز شريف مع الرئيس الإيراني بزشكيان مؤكدا دعم باكستان لإيران.

لكن هذا الدعم من إسلام آباد كان محسوبًا بدقة؛ إذ تجاهلت الضغوط المحلية التي تطالب بتقديم دعم أمني لإيران مقتصرة على إبداء الدعم الخطابي والرمزي، فعلى الرغم من حالة التهدئة الأخيرة في علاقات إيران مع بعض جيرانها، فإنه من المرجح -واقعيا- أن لا ترحب أي دولة في المنطقة بفكرة وجود إيران نووية، ويُعتقد أن بعض القادة في باكستان يدعمون سرًا الإجراءات الأمريكية، أما الانتقادات العلنية، فيبدو أنها ترمي إلى إدارة الرأي العام الداخلي والحفاظ على خيارات دبلوماسية مفتوحة.

لقد أجرى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو مؤخرا مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء شهباز شريف، اتفقا خلالها على العمل المشترك لتحقيق سلام دائم بين إيران وإسرائيل، وفي الوقت ذاته، اتصل القائد العسكري الإيراني اللواء عبد الرحيم موسوي، برئيس أركان الجيش الباكستاني المشير عاصم منير ليشكره على موقف باكستان الشجاع ودعمها لإيران خلال حربها التي استمرت اثني عشر يومًا مع إسرائيل.

إن قدرة باكستان على الحفاظ على علاقات بناءة مع كل من إيران والولايات المتحدة تضعها في موقع استراتيجي مهم لتجسير الفجوة والعمل بوصفها وسيطا موثوقا بين الطرفين، ولطالما برعت باكستان في هذه المناورات الدبلوماسية الدقيقة، وتمكنت على مدى عقود بالحفاظ على علاقة متوازنة بين خصمين كبيرين هما إيران والسعودية، مثلما تمكنت من البقاء على علاقات ودية مع دول عربية متعارضة بعضها مع البعض الآخر في كثير من الأحيان.

لقد دعمت الحكومات الباكستانية العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان لمدة عشرين عامًا، في حين احتفظت أيضا بعلاقات أو تحالفات مع قسم من المتمردين الأفغان، كما انها رفضت ضمنيًا، ولكن دون إنكار صريح، فكرة تصنيف برنامجها النووي بوصفه برنامجا إسلاميا، وفي التوتر الذي نشب مؤخرا بين الولايات المتحدة والصين، أظهرت إسلام آباد مهارة دبلوماسية في تجنب الانحياز لطرف ضد آخر، مستعيدةً لدورها المحوري في التقارب الأمريكي-الصيني عام 1971.

وعلى الرغم من تجذّر مشاعر العداء لأمريكا في الوجدان الشعبي الباكستاني الذي تغذيه المعارضة السياسية منذ سنوات تحت بند نظرية المؤامرة، لاسيما مع التوافق الأمريكي مع السياسات الإسرائيلية في غزة، فإن السلطات المدنية والعسكرية في إسلام آباد عملت على تطبيع العلاقة مع واشنطن قدر الإمكان، وفي عهد الرئيس الامريكي جو بايدن شعرت الحكومة الباكستانية بالضيق من سياساته التي همّشت باكستان إقليميا فضيّقت من مفهوم العلاقات الثنائية، وقد شعر كثير من الباكستانيين بالإهانة الشخصية بسبب رفض بايدن التواصل مع قادة بلدهم، ومع هذا ظل رادار واشنطن يقظا تحسبا من تجدد خطر الإرهاب العالمي في المنطقة.

في المقابل، ترى باكستان إدارة الرئيس دونالد ترامب مناسبة لبداية جديدة للعلاقات الباكستانية-الأمريكية، فقد أبدت إسلام آباد سرورها عندما خصّ الرئيس ترامب باكستان بالثناء في خطابه أمام الكونغرس في نيسان الماضي على خلفية مساعدتها في اعتقال أحد الإرهابيين، وقد استندت الحكومة والجيش الباكستاني إلى تصريحات ترامب لتصور إدارته في هيأة من يستعد للعب دور فعال في حل قضية كشمير، كما عبّر آخرون عن أملهم في أن تستغل واشنطن نفوذها لدى صندوق النقد الدولي لتخفيف شروطه الصارمة على البلد، لاسيما مع رحيل بايدن الذي منح باكستان فرصة للتخلص من الانتقادات الأمريكية المتواصلة بخصوص سجلها الخاص بحقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية.

وعلى الرغم من أن جدول أعمال ترامب الخارجية القائمة على عقد صفقات ناجحة تعزز مصالح أمريكا أولا قد خففت قليلًا من آمال باكستان بخصوص عقد علاقات دافئة مع واشنطن، فإن رد فعلها بقي هادئًا، بل عرضت على الولايات المتحدة امتيازات في المعادن النادرة وفرصا استثمارية تعزيزا لروابط البلدين بصرف النظر عن تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية عالية وقيود سفر، خاصة بعد الحرب القصيرة مع الهند، فقد وجدت إسلام آباد نفسها مسرورة بمعاملة الوسطاء الأمريكيين لها على قدم المساواة مع نيودلهي، وفي حين رفضت الهند الاعتراف بالدور الأمريكي في إنهاء النزاع، أثنت باكستان على ترامب وروبيو وغيرهما.

وكان أوضح مؤشر على تغير الأجواء الأمريكية الباكستانية ما يتمثل بزيارة واشنطن من طرف المارشال عاصم منير الذي يُعد أقوى شخصية في باكستان، لاسيما أن زيارته سبقت بأيام قليلة الغارات الأمريكية على إيران، وقد استُقبل الضيف العسكري الباكستاني في البنتاغون بحفاوة، والتقى بالرئيس الأمريكي في غداء خاص، وقد جاءت زيارته على إثر زيارة وفد دبلوماسي باكستاني أجرى لقاءات ناجحة مع مسؤولي وزارة الخارجية بخصوص تقديم رواية باكستان عن الحرب الأخيرة مع الهند، لكن تلك الزيارة تحولت إلى مصدر حرج لباكستان بعد التدخل الأمريكي العسكري في إيران؛ إذ عُدّت نكسة سياسية للائتلاف الحاكم، وسرعان ما حاولت المعارضة استغلالها على هذا الأساس، ومع ذلك، فإن وقف إطلاق النار الذي توسط فيه ترامب بين إيران وإسرائيل، قدّم استراحة مؤقتة لكل من المؤسسة العسكرية، والمؤسسة المدنية في باكستان.

إن الدفء الأخير في العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان قد يتطلب تفسيرًا أعمق من مجرد المصالح المتبادلة وإبرام الصفقات، وفي ضوء النظر إليه في سياق الانخراط الأمريكي المتزايد في الشرق الأوسط وجنوب آسيا خلال الأشهر الأخيرة، فقد تكون واشنطن بصدد إعداد باكستان لتضطلع ثانية بدور الشريك الأمني الإقليمي الوثيق، كما كان هو الحال في إطار سياسة الاحتواء خلال الحرب الباردة، والمساهمة في هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، ثم في حملة مكافحة التمرد ضد حركة طالبان الأفغانية بعد عام 2001.

وفي منطقة تتسم بعدم الاستقرار، وتصاعد التنافس بين القوى العظمى، يمكن لباكستان أن تقدم الشيء الكثير للولايات المتحدة؛ فهي ليست الدولة الإسلامية الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الشرق الأوسط الكبير فحسب، بل تمتلك أيضًا أقوى جيش في المنطقة، وهي القوة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي، وقد أعادت حرب إسرائيل وإيران تسليط الأضواء العالمية على باكستان، مما فاقم التحديات الكثيرة التي تواجهها أصلًا في سياستها الخارجية، وما يزال من غير الواضح تحديد الصورة التي ستتعامل باكستان بموجبها مع هذا المشهد الدولي المعقّد ودائم التغيّر.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.ne

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز المستقبل