هجمات الطائرات المسيرة في العراق: استمرار ديناميكيات الصراع الاقليمي

شارك الموضوع :

لم ينتهي الصراع بين ايران واسرائيل والولايات المتحدة بعد حرب ال ١٢ يوم، واستمرت ديناميكيات الصراع بينهم، عبر التفاعلات والتغيرات المستمرة التي تحدث بين هذه الأطراف كالردود غير المعلنة والهجمات بالوكالة،

ومحاولات كل طرف لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي، دون الدخول في مواجهة مباشرة، فبعد وقف إطلاق النار يتضح بأن استمرار الصراع ليس خرقاً مباشراً له، بل استمرار للمواجهة بوسائل غير تقليدية كحرب الظل، هجمات الطائرات المسيرة، الحروب السيبرانية، واستغلال الملفات الاقليمية وغيرها.

تل ابيب تتموضع الان في الجنوب السوري، وترد على هجمات انصار الله في اليمن، وواشنطن مستمرة بتحييد الملف اللبناني فيما يخص نزع سلاح حزب الله بالكامل، وتضغط باتجاه نزع سلاح فصائل المقاومة في العراق وقد تتوسع الضغوطات على الحكومة العراقية لتشمل ضربات عسكرية مباشرة ضد قيادات ومواقع هذه الفصائل، بالمقابل تستغل ايران الان نفوذها عبر فصائل المقاومة في العراق وحركة انصار الله في اليمن لإحلال توازن لاستمرار ديناميكيات الصراع مع امريكا واسرائيل.

فيما يخص العراق، فإن الهجمات بالطائرات المسيرة ضد مواقع واهداف حيوية ليست مجرد أحداث معزولة، بل هي جزء من حركة ديناميكية متغيرة ومستمرة، في صراع النفوذ بين القوى الثلاث: ايران، اميركا، واسرائيل. اذ شهد العراق في الاسابيع الاخيرة، سلسلة هجمات نفذتها طائرات مسيرة مجهولة المصدر، استهدفت مواقع عسكرية حساسة ومطارات ومنشآت نفطية، ما أثار تساؤلات واسعة حول توقيتها، الذي تزامن مع إعلان وقف إطلاق النار بين ايران واسرائيل، ودوافعها، والجهات التي تقف وراءها.

 

اولا: تفاصيل ومواقع الهجمات

بعد اقل من ساعة على دخول وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل حيز التنفيذ يوم ٢٤/٦/٢٠٢٥، وفق اعلان الرئيس الامريكي دونالد ترامب، هاجمت طائرات مسيرة مواقع عسكرية عراقية، اهمها قاعدة التاجي شمالي بغداد وقاعدة الامام علي في محافظة ذي قار، حيث توجد منظومتان من الرادارات الامريكية الصنع من طراز “تي بي أس 77” تابعتان للجيش العراقي، وقد اسفرت الهجمات عن تدمير المنظومتين بشكل كامل، وفي الوقت ذاته، فشلت محاولات مماثلة لاستهداف قاعدة فكتوريا التابعة للقوات الأميركية قرب مطار بغداد الدولي، والتي تحتوي على رادارات تابعة لمنظومة الدفاع الجوي الامريكية (C-RAM).

تنوع الأهداف وتزامن الهجمات مع تصاعد التوترات الإقليمية دفع المراقبين إلى البحث عن تفسيرات متعددة بشأن الجهة المنفذة، وفي الايام التالية، استهدفت ١٠ طائرات مسيرة اخرى مصفاة بيجي شمالي بغداد، ومطار كركوك، إلى جانب مواقع عسكرية ومدنية في محافظة السليمانية، ومن ثم مطار اربيل، كما استهدفت الطائرات المسيرة حقلي سرسنك في دهوك وخورماله في اربيل، ما تسبب بتوقف الانتاج فيهما، وتوسعت الهجمات لتشمل حقلي طاوكي وبشكابير في منطقة زاخو على الحدود مع تركيا، اللذين تديرهما شركة (دي إن أو النرويجية)، والتي قررت تعليق العمل مؤقتاً فيهما.

 

ثانياً: المواقف والردود والتفسيرات

تشكل هذه الهجمات تحدياً ماثلاً امام الحكومة العراقية واختبار لموقفها الداخلي والخارجي، فقد ادانت هذه الهجمات منذ بدايتها، وشكلت لجنة تحقيق بشأن استهداف الرادارات، واخرى بخصوص هجوم مطار كركوك، ولاحقاً لجنة موسعة للتحقيق في الهجمات على حقول نفط كردستان، ومع ذلك، لم تعلن هذه اللجان عن الجهات المنفذة او عن دوافع الهجمات، او حتى ما إذا كانت مترابطة وتعود لطرف واحد أم لعدة جهات.

من جهتها، ادانت السفارة الأميركية في بغداد الهجمات، وطالبت الحكومة العراقية بممارسة سلطتها لمنع تكرار مثل هذه الاعتداءات، والتحقيق بشفافية، ومحاسبة المسؤولين عنها، اما حكومة إقليم كردستان، فأصدرت بياناً شديد اللهجة مطلع تموز، اتهمت فيه الحكومة الاتحادية بالتستر والتنصل عن مسؤوليتها في مواجهة الهجمات المتكررة على الاقليم، مشيرة الى ان الجهة والمصدر معروفان في اشارة الى الفصائل المسلحة، وعقب الهجمات على الحقول النفطية، عادت حكومة الاقليم لتحمل بغداد مسؤولية اتخاذ الإجراءات العاجلة لكشف الجهة المنفذة.

في استجابة لتلك الضغوط، اعلن الناطق العسكري بأسم القائد العام للقوات المسلحة، في ١٩ تموز/ 2025، أن التحقيقات توصلت إلى ان الطائرات المستخدمة في الهجمات مصنعة خارج العراق لكنها أُطلقت من قواعد داخل البلاد، وانها من نوع واحد، ما يشير إلى ان جهة واحدة تقف وراءها. ومع ذلك، لم يحدد البيان الجهة المعنية، وفي تصريحات غير رسمية نُشرت في وسائل اعلام محلية، تم الحديث على ان الجهة المنفذة هي طرف سياسي يمتلك جناحاً عسكرياً مهماً داخل العراق، دون الافصاح عن اسمه.

قبل ايام اتصل وزير خارجية الولايات المتحدة ماركو روبير برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، تمحور هذا الاتصال في جزء كبير منه حول هذه الهجمات وضرورة ايقافها والاشارة الى حل قضية الفصائل المسلحة حسب الرؤية العراقية عبر تعديل قانون الحشد الشعبي ودمج الفصائل بالقوات الامنية والسيطرة عليها، يقع الان على عاتق الحكومة العراقية التحرك لحسم هذا الملف او على الاقل تحييده لما بعد الانتخابات البرلمانية القادمة، كما ان تعدد الأهداف وتوقيتها دفع إلى ظهور تفسيرات متعددة بشأن الجهات المنفذة، خصوصاً في ظل عدم تبني اي جهة مسؤولية العمليات، ومحاولة الفصائل المسلحة نفي مسؤوليتها عبر وسائل إعلامها.

وقد وُجهت اتهامات الى ايران والفصائل المسلحة المرتبطة بها في العراق، استناداً الى دلائل عديدة، منها ان بقايا الطائرات التي جُمعت من مواقع الاستهداف ايرانية الصنع، وان المواقع ذاتها استُهدفت سابقاً، مثل معسكر التاجي الذي اعلنت بعض الفصائل مسؤوليتها عن استهدافه في عام ٢٠٢٠. كما ان ايران، خلال الحرب الاخيرة مع اسرائيل، اتهمت جهات عراقية وكردية بالتعاون مع اسرائيل عبر شبكات تجسس داخل ايران، بينما أُطلقت بعض الصواريخ الايرانية من داخل العراق، او تم اعتراضها هناك، ما يُرجح فرضية ان الرادارات العراقية استخدمت لرصد الصواريخ الإيرانية، ما قد يفسر قصف تلك المنظومات، بعد وقف اطلاق النار مباشرة بين ايران واسرائيل.

كما ان مطار كركوك المستهدف ايضاً، يُعد موقعاً لتثبيت منظومة رادار اميركية، اضافة إلى ان الهجمات طالت حقول نفطية تديرها شركات امريكية، ابرزها شركة HKN التي ابرمت اتفاقاً مع بغداد لتطوير حقول حمرين، وهو ما قد يضع هذه الهجمات في اطار رفض وجود هذه الشركات من قبل الفصائل المسلحة العراقية.

 

ثالثا: الترجيحات والاحتمالات

وفقاً لطبيعة ديناميكية الصراع المستمرة بين ايران والولايات المتحدة واسرائيل، فإن الساحة العراقية ستكون مفتوحة للمواجهة غير المباشرة، وتشير الترجيحات الى احتمال استمرار هذا النوع من الهجمات غير المعلنة واتساع نطاقه، في اطار استراتيجية طويلة الامد، وليس مجرد رد فعل آني، ومع ترجيح وقوف الفصائل العراقية المسلحة وراء الهجمات، اذ تطرح تساؤلات حول ما اذا كانت هذه الهجمات مرتبطة باستراتيجية ايرانية استباقية لحرب محتملة جديدة تشنها اسرائيل وامريكا ضد ايران؟، ام ان تلك الفصائل تتحرك لحماية وجودها في مواجهة ضغوط امريكية متزايدة تدعو لحلها ودمج الحشد الشعبي في المؤسسة العسكرية. 

فرضيات ترجيح الاحتمال الاول

من المعطيات التي تدعم الاحتمال الاول:

١- ان ايران تشعر بالتهديد الوجودي، ولا زالت تريد ان تثبت ان لها مجالات نفوذ في المنطقة وقدرات فاعلة تستهدف من خلالها المصالح الامريكية والاسرائيلية في المنطقة ومنها واهمها واقربها اليها العراق وما يحصل الان ليس الا هجمات ايرانية محدودة من خلال الفصائل المسلحة المعروفة، وتريد ايصال رسائل بأن نفوذها اكبر من ذلك.

٢- قد تمتد هذه الهجمات ليس فقط في العراق واقليم كردستان؛ بل ابعد من ذلك في المنطقة تعويضاً عن تراجعها في لبنان وسوريا، وساحة اليمن ايضا تشكل مسار تصعيدي يخدم الاهداف الايرانية في موازنة كفة الصراع والمواجهة، فضلاً عن الخيارات الاقليمية الاخرى المتعلقة بنفوذها في حركة النقل البحري والقرب الجغرافي للمصالح الاميريكية في منطقة الخليج. 

فرضيات ترجيح الاحتمال الثاني

من المعطيات التي تدعم الاحتمال الثاني:

١- تصاعد الضغوطات الامريكية على الحكومة العراقية لحل الفصائل ودمج الحشد الشعبي، ما يعتبر تهديداً وجودياً لمكتسباتها، ويدفع بعض الأوساط داخلها للترويج لسيناريو السيطرة على الحكم على غرار النموذج الحوثي في اليمن، في حال فشلت التسويات بين بغداد وواشنطن.

٢- السعي للسيطرة على المشاريع الاقتصادية خصوصاً النفطية، من خلال التأثير على الشركات المستثمرة، مع تفضيل الشركات الصينية الاكثر مرونة، على حساب الشركات الامريكية.

٣- ضمان استمرار حالة اللااستقرار الامني، وتكريس صورة الفصائل المسلحة كقوة اكثر قدرة وفاعلية من الدولة، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات البرلمانية المقبلة. 

هذه العوامل تدعم فرضية ان الفصائل المسلحة في العراق، سواء من تلقاء نفسها او بتنسيق مع اطراف ايرانية، لا تمثل الدولة، وتسعى لتثبيت نفوذها وتأمين مصالحها في سياق اقليمي مضطرب، غير ان التجربة العراقية خلال العقدين الماضيين تشير الى ان سلوك هذه الفصائل غالباً ما يأتي وفق استراتيجية ايرانية مباشرة، وما يدعم هذا التقدير هو غياب اجندة استراتيجية وطنية واضحة لدى الفصائل المسلحة فيما يخص وجودها السياسي والامني، وتركيزها على الالتزام بنهج المقاومة المرتبط مع المصالح الايرانية بشكل مباشر، وإذا كانت القيادة الايرانية تقف فعلاً خلف هذه الهجمات، فهي بذلك تفرض نمطاً جديداً للمواجهة مع اسرائيل والولايات المتحدة، وتجعل من العراق ساحة اساسية في هذا الصراع.

في المقابل، لا يُستبعد تورط اسرائيل قيامها بهذه الهجمات من خلال شبكة عملاءها المنتشرة في المنطقة حتى داخل ايران لخلط الاوراق، خاصة مع تكرار استهدافها من قبل الفصائل المسلحة خلال الشهور الماضية، وقد تسعى عبر هذه الهجمات إلى عزل العراق عن النفوذ الايراني، او خلق حالة من الفوضى الأمنية لدفع واشنطن لإعادة ترتيب الوضع الداخلي العراقي.


رابعاً: الخلاصة والاستنتاجات

ان خطورة استمرار هجمات الطائرات المسيرة الاخيرة في العراق لا تكمن في الاضرار المباشرة فحسب، بل في دلالاتها الاستراتيجية التي تؤكد استمرار ديناميكيات الصراع بين ايران والولايات المتحدة واسرائيل، حيث يُتوقع ان تستمر وتتسع وتستهدف مواقع اكثر حساسية، ما يهدد بتعميق الازمات الامنية والسياسية والاقتصادية في البلد، ويهيء لسيناريوهات تصعيدية معقدة مع قرب اجراء انتخابات نيابية غير واضحة المعالم لغاية الان، وحدوث ازمات وتصعيد اعلامي ومواقف سياسية تسقيطية متشجنة.

اذ في ظل حكومة تشكلت بتوازنات حزبية دقيقة وتسويات معقدة، وتستعد لانتخابات برلمانية نهاية العام، تبقى قدرتها على كبح الفصائل المسلحة موضع شك، رغم مطالبات محلية واقليمية ودولية بكشف المسؤولين عن الهجمات ومحاسبتهم.

ويبدو ان الحكومة ستسعى من خلال علاقاتها مع الفصائل المسلحة وطهران، الى ضبط التوتر الداخلي حتى موعد الانتخابات، محاولة الحفاظ على حالة التهدئة التي سادت خلال الحرب الإيرانية-الاسرائيلية الاخيرة وهذا اقصى ما يمكن ان تعمل عليه الحكومة حالياً، بعد تهدئة الاوضاع مع اقليم كردستان بدفع رواتب موظفيها، وعقد اتفاق مبادئ عمل شركات امريكية واجنبية نفطية واستثمارية في الاقليم ومناطق اخرى، مقابل ضبط ايقاع الفصائل بتأخير حسم ملف ادماجها او حلها او تعديل قانون الحشد الشعبي، ومحاولة احتواء التيار الصدري والشارع لابقاء الوضع على ما هو عليه، لحين اجراء الانتخابات البرلمانية القادمة، وهذا التوقع مرتبط بردود الفعل الاسرائيلية والامريكية اذا ما شعرت بتراجع التهديدات الماسة بمصالحها، ويرتبط ايضا بالموقف الايراني فيما لو شعرت بتهديد او عمل عسكري او تقويض نفوذها في العراق واستهداف اليمن والتوغل في غزة، بشكل يضعف من هذا النفوذ ما يدفع بالتصعيد بشكل اكبر وغير مباشر في العراق والاقليم كأوراق اخيرة تبقت لديه على امل الوصول الى اتفاق عمل مشترك شامل بخصوص البرنامج النووي يُهدأ الاوضاع الاقليمية ويعيد الامور الى طبيعتها ولو بشكل مؤقت.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز المستقبل