جاء هذا التحول في سياق سياسي وأمني بالغ التعقيد، تزامن مع ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية التي حقق فيها ممثلو الفصائل المسلحة قرابة ٨٠ مقعداً، ومع تصاعد الضغوط الأمريكية المرتبطة بتشكيل الحكومة المقبلة، والتهديد بتوسيع العقوبات الاقتصادية، وإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري، كما تزامن ذلك مع تراجع نسبي في الدور الإيراني المباشر في إدارة المشهد العراقي الداخلي.
تهدف هذه الورقة إلى مناقشة دوافع هذا التحول، وحدود جديته، وإمكانات تطبيقه عملياً، إضافة إلى ارتباطه الوثيق بطبيعة الحكومة العراقية القادمة، التي ستواجه استحقاق تحويل هذه التصريحات والمواقف إلى إجراءات عمل ملموسة، والتعامل مع احتمالات الصدام مع الفصائل الرافضة لنزع سلاحها.
أولاً/ مواقف الفصائل المسلحة من حصر السلاح بيد الدولة
تبنّى قادة خمسة فصائل مسلحة معروفة خلال فترة قصيرة مبدأ حصر السلاح بيد الدولة، وهم الشيخ قيس الخزعلي زعيم عصائب أهل الحق، وشبل الزيدي زعيم كتائب الإمام علي، وأحمد الأسدي زعيم كتائب جند الإمام، وأبو آلاء الولائي زعيم كتائب سيد الشهداء، وحيدر الغراوي زعيم أنصار الله الأوفياء، ترافقت هذه المواقف مع تصريحات داعمة من قوى الإطار التنسيقي، ومع إشارات إيجابية من مؤسسات رسمية، أبرزها موقف رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي عدّ هذه الخطوة استجابة لدعوات دعم سيادة القانون والانتقال إلى العمل السياسي.
من حيث المبدأ، يمثل هذا الاعتراف تطوراً مهماً في الخطاب السياسي والأمني، إذ يكسر سردية سادت لسنوات حول قدسية سلاح الفصائل، ويفتح الباب أمام تصور جديد لدور الدولة، كما يمكن قراءته بوصفه ابتعاداً نسبياً عن منطق المحاور الإقليمية التي تقوم على وجود قوى مسلحة خارج إطار الدولة.
في المقابل، رفضت فصائل أخرى، أبرزها كتائب حزب الله وحركة النجباء هذه الدعوات بشكل قاطع، متمسكة بخطاب يربط استمرار السلاح بوجود القوات الأمريكية في العراق، هذا التباين أفرز انقساماً واضحاً داخل بيئة الفصائل المسلحة، وطرح مسارين أساسيين:
١- إن الانقسام حقيقي وقد يتطور إلى مواجهة بين فصائل مندمجة في الدولة وأخرى رافضة، بدعم إقليمي متعارض.
٢- إن الانقسام شكلي ومسيطر عليه، يهدف إلى توزيع الأدوار وكسب الوقت بانتظار تغيرات محتملة في السياسة الأمريكية خلال السنوات المقبلة.
ثانياً/ الحسابات السياسية والانتخابية
جاءت تصريحات حصر السلاح بعد نجاح انتخابي ملحوظ لقوى سياسية مرتبطة بفصائل مسلحة، رغم الاعتراضات القانونية والدستورية والشعبية نوعاً ما، على مشاركة أجنحة مسلحة في العملية السياسية. هذا النجاح، إلى جانب توسع النفوذ الاقتصادي لتلك الفصائل، خلق حافزاً مزدوجاً: من جهة، الرغبة في حماية المكتسبات السياسية والاقتصادية من الضغوط والعقوبات الأمريكية؛ ومن جهة أخرى، الخشية من أن يؤدي التخلي الكامل عن السلاح إلى انكشاف قانوني وأمني، وفقدان أدوات النفوذ والضغط.
لذلك، يمكن فهم المواقف الأخيرة باعتبارها محاولة لتحقيق توازن دقيق بين الاندماج في الدولة والحفاظ على أوراق القوة، وهو ما يجعل مسألة الجدية والتطبيق العملي مفتوحة على احتمالات متعددة.
ثالثاً/ اسباب تصاعد الضغط الامريكي على العراق
تشير تسريبات سياسية إلى وجود حوارات غير معلنة منذ أشهر بين بعض الفصائل المسلحة والجانب الأمريكي، ركزت على ضمانات الانتقال من العمل المسلح إلى السياسي، ورغم غموض نتائج هذه الحوارات، فإنها تعكس حقيقة التواصل المستمر بين الطرفين.
تزامن تصاعد الضغوط مع متغيرات إقليمية كبرى، أبرزها تداعيات الحروب في غزة ولبنان، والتوترات المرتبطة بإيران وسوريا، ما دفع واشنطن إلى توسيع دائرة الضغط من استهداف الفصائل المسلحة فقط، إلى تحميل الحكومة العراقية والقوى السياسية مسؤولية حماية هذه الفصائل، وقد تُرجم ذلك بتهديدات بعقوبات أوسع قد تطال مؤسسات مالية ونفطية رسمية.
لكن هذا السياق لا يكتمل من دون العودة إلى التفاهمات التي أعقبت اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس عام ٢٠٢٠، وما تبعها من حوارات استراتيجية بين بغداد وواشنطن، فقد ارتبطت جداول الانسحاب الأمريكي دائماً، ولو بشكل غير معلن، بقدرة الدولة العراقية على ضبط السلاح وإنهاء دور الفصائل المسلحة خارج مؤسساتها.
الاتفاق المعلن في تشرين الثاني ٢٠٢٤، والقاضي بانسحاب مرحلي من قواعد عسكرية حتى عام ٢٠٢٦، وضع الولايات المتحدة أمام استحقاق الحفاظ على مصداقيتها، وفي الوقت نفسه ضمان عدم ترك فراغ أمني تملؤه قوى مسلحة خارج سيطرة الدولة. من هنا، يمكن تفسير الضغوط الحالية بوصفها محاولة لتهيئة بيئة عراقية تسمح بتنفيذ الانسحاب، أو إعادة جدولة هذا الانسحاب وفق مسار حل ملف الفصائل.
رابعاً/ النفوذ الإيراني في العراق ومساراته القادمة
أظهرت التطورات الأخيرة تراجعاً نسبياً في الحضور السياسي الإيراني العلني في العراق، خصوصاً خلال مشاورات تشكيل الحكومة، إلا أن هذا التراجع لا يعني بالضرورة انحسار النفوذ داخل الفصائل المسلحة، نظراً لعمق الارتباط التنظيمي والعقائدي والاقتصادي، يمكن تفسير الموقف الإيراني المحتمل عبر سيناريوهين:
١- تراجع حقيقي في القدرة على ضبط الفصائل، ما يسمح لبعضها باتخاذ خيارات مستقلة.
٢- قبول إيراني بإعادة توزيع الأدوار، بحيث تندمج بعض الفصائل التي حققت مكاسب انتخابية في العملية السياسية، مقابل احتفاظ فصائل أخرى بدور عسكري كأداة ضغط مستقبلية.
اما السيناريو الثاني فأنه يبدو أكثر انسجاماً مع المعطيات الحالية، خصوصاً مع التغير في الخطاب الإيراني من التركيز على الاحتلال الأمريكي إلى التحذير من الاختراق الإسرائيلي.
خامساً/ تشكيل الحكومة القادمة ومقارباتها من ملف حصر السلاح
يمثل تشكيل الحكومة المقبلة الحلقة المفصلية في هذا المسار، فثمة توجه داخل قوى الإطار التنسيقي نحو تشكيل حكومة ذات مواصفات خاصة، قادرة على إدارة صفقة انتقال معقدة تشمل حصر السلاح بيد الدولة، والحوار مع واشنطن، وتسوية ملف الحشد الشعبي.
من المرجح أن تسعى هذه القوى إلى اختيار رئيس وزراء لا يمتلك ثقلاً حزبياً أو طموحاً سياسياً طويل الأمد، بما يطمئن الفصائل المسلحة إلى أن التنازلات المقدمة لن تُستثمر ضدها سياسياً في المستقبل. وفي المقابل، ستُستبعد الشخصيات الجدلية أو المرتبطة بصراعات حزبية حادة، فالحكومة المقبلة ستواجه مهام شديدة الحساسية، أبرزها:
١- وضع تعريف واضح لطبيعة السلاح المطلوب تسليمه (كامل، أم ثقيل ومتوسط فقط).
٢- تحديد جداول زمنية واقعية للتسليم أو الدمج.
٣- حسم الجهة التي تستلم السلاح (القوات المسلحة، أم إعادة تنظيمه ضمن إطار رسمي).
٤- معالجة مستقبل الحشد الشعبي، بين خيارات الحل، أو الدمج، أو إعادة الهيكلة.
ويزداد تعقيد هذه المهمة في ظل أزمة اقتصادية خانقة، تجعل من استمرار التوتر مع واشنطن، وتوسع العقوبات، خطراً وجودياً على النظام السياسي والمالي، وقدرة الدولة على دفع الرواتب وتأمين الاستقرار الاجتماعي.
اما مقاربات تعامل الحكومة العراقية المقبلة مع ملف سلاح الفصائل المسلحة، فيمثل الحلقة الأكثر حساسية في مسار حصر السلاح بيد الدولة، إذ ستكون مطالبة بإدارة ملف مركّب يتقاطع فيه الأمن بالسياسة، والسيادة بالاقتصاد، والعلاقات الداخلية بالتوازنات الإقليمية والدولية. ويمكن رسم عدد من السيناريوهات المحتملة لطبيعة تعامل هذه الحكومة مع ملف سلاح الفصائل المسلحة، وانعكاس ذلك على علاقتها بكل من الولايات المتحدة وإيران.
السيناريو الأول: الاحتواء التدريجي والتفاهم المتوازن
من المحتمل ان تتبنى الحكومة القادمة مقاربة براغماتية تقوم على الاحتواء التدريجي للفصائل المسلحة، من خلال جداول زمنية مرنة لنزع السلاح الثقيل والمتوسط، ودمج بعض التشكيلات ضمن أطر رسمية، أو إعادة هيكلة الحشد الشعبي، بما يقلص استقلاليته العسكرية، يترافق ذلك مع حوار سياسي– أمني مستمر مع الفصائل، وتفاهمات غير معلنة مع واشنطن وطهران.
فرضيات تأكيد هذا السيناريو يقوم على التزام الفصائل التي أعلنت دعمها لحصر السلاح بتطبيق تدريجي فعلي، مع رغبة أمريكية حقيقية في الانسحاب المنظم وتجنب المواجهة، وقبول إيراني بإعادة توزيع أدوار الفصائل بدلاً من المواجهة.
اما فرضيات عدم التأكيد: تقوم على اعتراض الفصائل الرافضة وعرقلة التنفيذ ميدانياً بمجرد تشكيل الحكومة نيلها مواقع ومناصب، وكذلك في حال حصول تصعيد أمريكي أو إسرائيلي خارج حسابات الحكومة، وتغيير مفاجئ في الموقف الإيراني نحو التشدد بدعم الفصائل نحو عدم التخلي عن سلاحها.
السيناريو الثاني: الاستمرار الهش: الإدارة الشكلية والمراوحة السياسية
من المحتمل ان تعتمد الحكومة خطاباً داعماً لحصر السلاح، لكنها تفتقر إلى القدرة أو الإرادة السياسية لتطبيقه عملياً، وتقتصر الإجراءات على خطوات رمزية، أو دمج إداري محدود، دون المساس بالبنية العسكرية الفعلية للفصائل المسلحة.
فرضيات التأكيد: ضعف التوافق السياسي الداخلي، مع خشية الحكومة من الانقسام أو الانهيار المبكر، فضلاً عن قبول أمريكي مؤقت بإدارة الأزمة بدل حلها.
اما فرضيات عدم التأكيد: نفاد صبر واشنطن وتوسيع العقوبات الاقتصادية او التوجه صوب الخيار العسكري، مع تدهور اقتصادي أو احتجاجات شعبية، كذلك فقدان الحكومة مصداقيتها داخلياً وخارجياً.
السيناريو الثالث: المخاطرة العالية: المواجهة المباشرة وفرض الدولة
من المحتمل ان تقرر الحكومة القادمة، بدعم سياسي داخلي وخارجي، المضي بخطوات أكثر حزماً تجاه الفصائل الرافضة لحصر السلاح، تشمل إجراءات قانونية وأمنية، وربما مواجهات مباشرة محدودة لفرض سلطة الدولة.
فرضيات التأكيد: وجود قيادة حكومية قوية ومتوافقة داخلياً، دعم أمريكي واضح ومستمر، مع استعداد بعض الفصائل للانشقاق أو الالتزام او التراجع لعدم الفائدة من بقاء سلاحها ازاء مواقعها السياسية ونفوذها الاقتصادي الذي يجلب التأييد الشعبي ويخلق الولاء.
اما فرضيات عدم التأكيد: انزلاق الوضع إلى صراع داخلي واسع، او تدخل إيراني مباشر أو غير مباشر، واخيراً انهيار التوافق السياسي والأمني وتراجع الاهتمام الامريكي بموضوعة حصر سلاح الفصائل.
السيناريو الرابع: الانهيار والتدويل
من المرجح ان تفشل الحكومة القادمة في إدارة الملف، ويتصاعد الخلاف بين الفصائل المسلحة، مع توسع الضغوط الأمريكية أو الضربات العسكرية، ما يؤدي إلى تدويل الأزمة الأمنية العراقية.
فرضيات التأكيد: فشل الحوار مع الفصائل، وتصعيد خارجي غير محسوب، وبروز أزمة اقتصادية خانقة تفقد الحكومة السيطرة على مواجهة وحسم هذا الملف.
اما فرضيات عدم التأكيد، حصول تدخل إقليمي ودولي لاحتواء الأزمة، مع توافق داخلي طارئ لإعادة ضبط المسار.
تُرجّح المعطيات الحالية كفة سيناريو الاحتواء التدريجي والتفاهم المتوازن، بوصفه الخيار الأقل كلفة لجميع الأطراف، والأكثر انسجاماً مع توازنات الداخل العراقي وحسابات واشنطن وطهران، غير أن هشاشة البيئة السياسية والأمنية تجعل من أي انزلاق غير محسوب عاملاً كفيلاً بنقل العراق سريعاً إلى سيناريوهات أكثر خطورة، ما يضع على عاتق الحكومة المقبلة مسؤولية إدارة ملف السلاح بوصفه استحقاق بقاء للدولة لا مجرد ملف تفاوضي.
اخيراً، تشير المعطيات إلى أن اعلان بعض الفصائل المسلحة حصر السلاح بيد الدولة تحمل قدراً من الجدية، وإن كانت محكومة بحسابات معقدة ومخاوف من فقدان النفوذ، وهي خطوة متقدمة في الخطاب السياسي العراقي، لكنها تظل محفوفة بتحديات كبيرة، أبرزها موقف الفصائل الرافضة، وقدرة الحكومة المقبلة على فرض أو التفاوض على مسار جامع.
نجاح هذا المسار سيعتمد على توازن دقيق بين الحوار والضغط، وعلى مواقف الأطراف الإقليمية والدولية، خصوصاً الولايات المتحدة وإيران. وفي كل الأحوال، فإن مجرد الإقرار بمبدأ الدولة واحتكارها للسلاح يشكل نقطة انطلاق مهمة، قد تفتح نافذة لإعادة بناء السيادة العراقية، أو تنغلق سريعاً إذا تعثرت الحكومة المقبلة في تحويل الأقوال إلى أفعال.
.............................................
الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها
*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ
http://mcsr.net
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!