تمهيــد
بعد أن جرت
الانتخابات العامة في العراق بنجاح باهر، ولدت الجمعية
الوطنية بعد مخاض عسير، وأصبح العراق مقبلاً على مرحلة
ومدبراً عن أخرى، فهو مقبل على مرحلة ديمقراطية تنتقل فيها
السلطة سلمياً،وعسى أن ينعم الأفراد بحقوقهم وحرياتهم، ومدبر
عن مرحلة مظلمة امتازت بالقهر والتسلط والاستبداد، فالحمد لله
على السلامة عدد الحصى .
أن أولى المهمات
التي يجب على الجمعية الوطنية أن تقوم بها بعد تعيين الحكومة،
هي وضع دستور دائم للبلاد، والدستور كما هو معروف عرفاً،أعلى
قانون في الدولة، فهو يتربع على قمة الهرم القانوني ودونه
التشريعات الأخرى مرتبةً، وهذا السمو الذي يتمتع به الدستور
آتٍ من كونه مستودعاً للأحكام القانونية الكبرى التي تحدد شكل
الدولة ونظام الحكم فيها، والسلطات العامة واختصاصاتها وعلاقة
بعضها بالبعض الأخر والحقوق والحريات العامة، وعلى هذا فان
بناء الدولة يتخذ من الدستور عماداً. هذا ولسنا هنا في مقام
سرد أهمية الدستور والكشف عن عظمة دوره الإنشائي،فهذا ما نحيل
فيه القارئ اللبيب إلى الكتب العامة ففيها المزيد منها، بل
الذي نريد عرضه، الأفكار والطموحات التي نراها حقاً وصواباً.
ولا ريب أن الدستور آت في الموعد الذي ضربه قانون إدارة الدولة
العراقية للمرحلة الانتقالية،إلا انه يجب أن يكون جديداً في
مضمونه ومحتواه، فلسنا راغبين متحمسين لدستور يصاغ بكلام معسول
يجف عند التطبيق، بل الذي نريده أحكاماً سهلة التطبيق مضمونة
الاحترام، فلا خير في
دستور يذهب كالزبد جفاءً إذ سئمنا ومللنا من شعارات ووعود
جوفاء، فدستور عام 1970 تضمن حشداً من الحقوق والحريات العامة
ما يسر الناظرين، ولكن مَنْ منا ذاق حلاوتها واستمتع بها؟ فكل
ما تضمنه أشبه بالكتابة على ماء.
وعلى أية حال
فإننا نطمح _ وهذا من حقنا المشروع _ أن نخضع لدستور يضمن لنا
إنسانيتنا ولا يخدشها سوط جلاد، ويحقق لنا أمانينا كشعب أو
كمواطنين فرادى،نعيش كما تعيش الشعوب المتحضرة بعز وكرامة
واباء وهذا ليس عزيراً بل يسير يسير .
إن ما نطرحه في
هذا البحث يمثل وجهة نظرنا الشخصية في الدستور المزمع وضعه،
وهي تحتمل الخطأ والصواب،فان أصبنا فالحمد لله على السداد وان
أخطأنا فإننا للمقوم الناصح لمستمعون.
إن موضوع بحثنا
سيتوزع على مباحث خمسة، الأول مخصص للسلطة المختصة بوضع
الدستور، والثاني للمبادئ الأساسية له، والثالث للسلطات
العامة فيه واختصاصاتها، والرابع للحقوق والحريات العامة،
والخامس لضمانات تطبيق الدستور، تعقبها خاتمة فيها النتائج
والمقترحات ومن الله العون والتوفيق .
المبحث الأول
السلطة المختصة
بوضع الدستور
تظهر الحاجة إلى
الدستور عند نشوء الدولة ابتداءً، أو عند قيام ثورة تعصف
بالدستور القديم فيصبح هباءً منبثاً .
إن وضع الدستور
يتم من قبل سلطة مختصة تملك مكنات سياسية واسعة تسمى بالسلطة
التأسيسية وقد تتولى تعديل الدستور أيضاً. إن تحديد السلطة
التأسيسية وتنظيم عملها يختلف من دولة إلى أخرى، فإذا تولى
الدستور هذه المهمة سميت السلطة المذكورة بالسلطة التأسيسية
المنظمة أو سلطة التعديل، أما في حالة عدم وجود دستور كما في
نشوء دولة جديدة أو سقوط الدستور بثورة عارمة فان السلطة
المذكورة تكون سلطة تأسيسية أصلية تملك اختصاصات مطلقة لا
يحدها إلا قيد التعبير عن الفكرة القانونية السائدة التي تعد _
بحق _ أساس وجودها .
إن السلطة
التأسيسية الأصلية، أما أن تكون من الشعب عامة، لأن الفكرة
القانونية السائدة تتجسد فيه وتحقيقها متوقف عليه، أو تكون
فرداً أو مجموعة أفراد ماسكين بأيديهم قبضة السلطة السياسية
(1).
إن أساليب
نشأة الدساتير اثنان ولا مزيد، الأسلوب الملكي والأسلوب
الديمقراطي، فالأول يتمثل بالمنحة والتعاقد والثاني يتمثل
بالجمعية التأسيسية والاستفتاء التأسيسي.
وأسلوب
المنحة في وضع الدساتير مؤداه أن الملك وبوحي من إرادته يمنح
الشعب دستوراً يقيد من سلطاته المطلقة ويجعلها حبيسة نصوصه لا
تجد منها انفكاكاً، ومن الدساتير التي وضعت بهذا الأسلوب
الدستور الفرنسي لعام 1814 الذي أصدره لويس الثامن عشر للأمة
الفرنسية بعد أن هوى عرش نابليون، إذ جاء في مقدمته ما يأتي (
لقد عملنا باختيارنا وممارستنا الحرة لسلطاتنا الملكية ومنحنا
ونمنح ونعطي تنازلاً وهبة لرعايانا وباسمنا بالنيابة لمن
يخلفنا والى الأبد العهد الدستوري الآتي ... )
أما أسلوب
التعاقد فانه يعني صدور الدستور نتيجة اتفاق إرادة الشعب عن
طريق هيئة تمثله وتعمل باسمه مع إرادة الملك، ومن الدساتير
التي وضعت بهذه الشرعة الدستور اليوناني لعام 1844 والدستور
الروماني لعام 1864. هذا وقد اعتبر أسلوبا المنحة والتعاقد من
الأساليب غير الديمقراطية في وضع الدساتير لأن إرادة الحكام هي
السائدة والمسيطرة وليس إرادة الأمة.
وفيما يتعلق
بالأسلوب الثاني في وضع الدساتير فهو الأسلوب الديمقراطي، إذ
يتم وضع الدستور بموجبه من قبل جمعية تأسيسية أو عن طريق
الاستفتاء الدستوري، فالأول يتطلب انتخاب الشعب لهيئة تمثله
وتتولى وضع الدستور. إن هذا الأسلوب مدين في نشأته إلى
الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تم استخدامه لأول مرة في وضع
دساتيرها بعد استقلالها عن بريطانيا في عام 1776، ثم في وضع
دستورها الاتحادي، ولقد تقبلت دول كثيرة هذا الأسلوب بعد
الحرب العالمية الثانية بأحسن القبول ووضعت دساتيرها بموجبه ،
نخص منها بالذكر الدستور الإيطالي لعام 1947 والدستور الروماني
لعام 1948 والدستور المجري لعام 1949. أما أسلوب الاستفتاء
الدستوري فانه يتطلب موافقة الشعب بالأغلبية على مسودة الدستور
أياً كانت الجهة التي أعدته، جمعية نيابية أو لجنة، ومن
الدساتير التي وضعت على وفق هذا الأسلوب الدستور الفرنسي لعام
1946 والدستور المصري لعام 1956
(1)، وهذا
الأسلوب يعد من أسمى الأساليب الديمقراطية في وضع الدساتير كما
يذهب إلى ذلك بعض الفقهاء
(2).
بعد هذه
التوطئة نعود لاستقراء نصوص أحكام قانون إدارة الدولة
العراقية للمرحلة الانتقالية لنرى مَنْ هي الجهة المختصة التي
ستتولى مهمة وضع الدستور الدائم، فلقد نصت المادة الحادية
والستون من القانون، بان على الجمعية الوطنية كتابة مسودة
الدستور الدائم في موعد أقصاه 15/8/2005 على أن تعرض مسودة
الدستور الدائم على الشعب العراقي للموافقة عليها في استفتاء
عام وفي الفترة التي تسبق إجراء الاستفتاء، وتنشر مسودة
الدستور وتوزع بصورة واسعة لتشجيع إجراء نقاش عام بين أبناء
الشعب بشأنها ويكون الاستفتاء العام ناجحاً ومسودة الدستور
مصادقاً عليها عند موافقة أكثرية الناخبين في العراق إن لم
يرفضها ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر. وبعد إنعام
نظر وتدقيق في نص المادة الحادية والستين المشار اليه في أعلاه
، يمكن القول إن وضع الدستور سيتم بطريقة ديمقراطية خالصة، لأن
الجمعية الوطنية هيئة تم انتخابها طبقاً لقانون الانتخابات
والأحزاب السياسية، وبالتالي فإنها ستمثل إرادة الشعب أصدق
تمثيل، وستضع مسودة دستور يعبر عن طموحاته وعمقه التاريخي.
إلا أن المسودة
المذكورة لا تنقلب دستوراً ذا قوة قانونية ما لم يجر استفتاء
شعبي عليها وهذا بحد ذاته خطوة إضافية تعزز النهج الديمقراطي
وتجعل من طريقة وضع الدستور مثالية على الوجه الاسنى، لا بل
ويقيناً أنها ستكون أنموذجاً للدول النامية في هذا الخصوص، إلا
أن مما يعاب على قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة
الانتقالية كثيراً من انه أعطى لثلثي الناخبين في ثلاث محافظات
أو أكثر حق رفض الدستور المقترح، وهذا يعني فيما يعنيه أن
بإمكان الأقلية أن تعطل رأي الأغلبية، ومبادئ الديمقراطية من
هذا براء ثم براء، لأن حكم الأغلبية يجب أن يسود وما على
الأقلية إلا الانصياع له والرضوخ .
إن الحكم
المذكور يثير العجب والاستغراب، فهو لم يوضع إلا من أجل
الإبقاء على وضع يرفضه جل العراقيين، وعلى هذا فان المطلوب من
الجميع أن يعملوا صادقين من أجل إبطال مفعوله وإسقاطه من
الاعتبار، لأنه من صنيع الأجنبي المحتل الذي أراد لهذا البلد
المتماسك تمزيقاً ولشعبه الصابر المجاهد إذلالاً وهواناً.
وجدير بالذكر
انه تم وضع بعض الدساتير عن طريق المعاهدات الدولية ومنها على
شاكلة المثال الدستور الألماني لعام 1871، إلا أن هذه الطريقة
تتنافى وطبيعة الدستور ومهمته في المجتمع السياسي، لا بل أنها
تعترض أساس وجوده وشرعية هذا الوجود. فالدستور يجب أن يأتي
محصلة تفاعل عوامل عديدة متأتية من بطون تاريخ البلد وعاداته
وأخلاقه ومزاجه ونضجه السياسي، والأجنبي لم ولن يستطيع أن يعبر
عن ذلك لأنه لم يهضم الواقع كما ينبغي
(1) .
وبناءً على ذلك،
فإننا نحذر من الدخول في معاهدات تستلب أرادتنا وتملي علينا
أحكام الدستور.
إن وضع الدستور
الدائم يجب أن يتم بأيدي عراقية نظيفة، فلسنا بحاجة إلى مشورة
مشاور،لأن لدينا الخبرات والكفاءات، نعم لا بأس أن نستمع لآراء
الناصحين الذين يأتونا بالحكمة والموعظة الحسنة. إن الجمعية
الوطنية تملك الاختصاص المطلق في وضع مسودة الدستور، وعليها أن
تكتسح كل العقبات المادية والقانونية حتى تكون إرادتها صافية
كالبلور، فهي ليست ملزمة من الناحية القانونية بنصوص قانون
إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية المتهالكة، فلتمض
قدماً في إنجاز مهمتها ولتعرض مسودة الدستور على الشعب ليقول
كلمته الفصل فيه وبالأغلبية، فإرادته هي التي تسود وتتعالى،
ولا يعلو عليها شيء إلا إرادة الله تعالى.
المبحث الثاني
المبادئ الأساسية للدستور
من المعلوم أن
قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تضمن
بعض النصوص الايجابية التي تستحق الاحترام، وما على الجمعية
الوطنية
إلا الأخذ بها عند وضع مسودة الدستور الدائم، فلقد وكّد
القانون المذكور
على أن نظام الحكم في العراق جمهوري (فيدرالي) ديمقراطي تعددي
(1).
إلا أن لدينا ملاحظات حول نظام الفيدرالية الذي تبناه القانون،
وقبل سوق الملاحظات نقول تذكيراً: إن الدول تنقسم من حيث
تكوينها إلى دول بسيطة ودول مركبة، ففي الدولة البسيطة توجد
سلطة واحدة لا منافس لها، تمارس مظاهر السيادة من خلال توزعها
على سلطات ثلاثة فرعية تهيمن على التشريع والتنفيذ والقضاء.
أما الدولة المركبة ومنها على وجه الخصوص الدولة الفيدرالية،
فإنها تضم دويلات أو ولايات، لا تتركز مظاهر السيادة فيها
بالحكومة المركزية وحدها بل تكون شركة بينها وبين الولايات،
فهناك سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية اتحادية تنبسط اختصاصاتها
على إقليم الدولة بأسره وسلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في
الولايات تستمد اختصاصاتها من الدستور الاتحادي
(2).
إن الفيدرالية
لا تنبت ولا تعطي ثمراً جنياً إلا في أرض خصبة وظروف سياسية
واجتماعية مواتية، وهذا ما لا نحسبه متوافراً في العراق لأنه
بلد محدود المساحة والسكان.
لقد بين قانون
إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في تضاعيف نص المادة
الثانية والخمسين منه، السبب الموجب للأخذ بالنظام الفيدرالي،
وهو منْع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية، ذلك التركيز الذي
جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام
السابق. وهذا السبب لوحده غير كافٍ لتبني النظام الفيدرالي،
لأن بالامكان منع تركيز السلطة بيد الحكومة المركزية عن طريق
الأخذ بنظام اللامركزية الإدارية في ذروته، وبالتالي توزيع
السلطة بين الحكومة المركزية في العاصمة والمجالس المحلية في
المحافظات والاقضية والنواحي، إن الأخذ بالدرجة القصوى من
درجات اللامركزية الإدارية يقتضي في رأينا المقتضيات الآتية :
1)سن قانون يحدد
تشكيلة المجالس المحلية على نحو جلي ويرسم حدود اختصاصاتها على
وفق أدق معيار، وبهذا يمكن تجنب وقوع نزاعات بين السلطة
المركزية والمجالس المحلية حول عائدية هذا الاختصاص لهذه الجهة
أو تلك.
2) لابد للمجالس
المحلية من أن تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، بحيث تستطيع
أن تتخذ القرارات الداخلة في اختصاصاتها بالمبادأة، وان تكون
لها ميزانية مستقلة تمام الاستقلال، تستطيع فيها استجلاب
الموارد المالية بمبادرة تلقائية منها حتى تتمكن من النهوض
بأعبائها وإصابة الأغراض المحددة لها في أول الرمي.
3) إن عمل
المجالس المحلية ليس سائباً يسبح في الفضاء، بل هو محكوم
يقيناً بنصوص القانون، ولكفالة هذا بقوة فانه يجب أن تكون هناك
رقابة وصائية على أعمال المجالس المحلية تتولاها السلطة
المركزية، وتنظم على خير مثال، وان يعطي الحق للسلطة المركزية
ومثله للمجالس المحلية في أن تطعن بالإلغاء في كل قرار يصدر من
أي منهما إذا آنست منه الأخرى خرقاً لأحكام القانون .
نخلص مما تقدم،
أن اللامركزية الإدارية المتقدمة تصلح أسلوباً للإدارة في
العراق في الوقت الحاضر
(1)، على أنه إذا
توافرت مقومات الحكم الفيدرالي فلا أحد عندها يتنكر له ويجحد،
فالفيدرالية المرجوة هي الفيدرالية التي تعزز وحدة العراق لا
أن تكون خطوة نحو التقسيم والتمزيق، فهذا ما يرفضه جل
العراقيين .
بعد أن فرغنا من
بحث موضوع الفيدرالية، ننتقل إلى موضوع آخر انشقت فيه الآراء
واعتبره القادحون غرضاً سهل الإصابة، ألا وهو موضوع اعتبار
الإسلام دين الدولة الرسمي ومصدراً للتشريع.
لقد نص الدستور
العراقي لسنة 1970 الملغى في المادة الرابعة منه على أن
الإسلام دين الدولة
(1). أما قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية
فانه قضى في المادة السابعة منه على أن الإسلام دين الدولة
الرسمي ويعد مصدراً للتشريع ولا يجوز سن قانون خلال المرحلة
الانتقالية يتعارض مع ثوابت الإسلام المجمع عليها، ولنعم ما
قضى.
إلا أن هذا
النص لم يرق للكثيرين الذين ابدوا تخوفهم من أن يتحول العراق
إلى دولة دينية، وبالتالي فان العراقيين من غير المسلمين
سيتجرعون سوء العذاب
(2).
إن ما يعتقده
أولئك الواهمون باطل، لأن اعتبار الإسلام ديناً رسمياً للدولة
لا يعني أنها أصبحت مسلمة تمارس الشعائر الدينية كالأفراد، لا
بل انه تسجيل لحقيقة لا يماري فيها أحد، وهي أن الغالبية
الساحقة من الشعب العراقي مسلمون، وان الدولة شخص معنوي اعتبره
القانون هكذا ليدخل في عداد الأشخاص القانونية ويتمتع بالحقوق
المقررة لها، إلا أن ذلك لا يعني أنها تتمتع بحرية العقيدة
وممارسة الشعائر الدينية، فهذه لا تثبت إلا للإنسان وعليه فان
اعتبار الإسلام ديناً رسمياً للدولة لم ولن يعني أنها أصبحت في
عداد المسلمين ، فالدولة يجب أن تبقى على الحياد الدائم تاركة
للأفراد حرية اتخاذ الدين الذي يعتقدون وممارسة شعائره دون
تدخل منها (1).
وبناءً على ما
تقدم فلقد أخطأ المصوبون على هذا الغرض،لأنهم أرادوا بالسهام
التي رموها الطعن بالإسلام ليس إلا، وبخصوص اعتبار الإسلام
مصدراً للتشريع فهو عين الحق والصواب، لأنه ليس صحيحاً اعتباره
المصدر الأوحد للتشريع.
وتسبيب ذلك أن
هناك أوصافاً تلحق كلمة مصدر في مجال القانون فهناك المصدر
التاريخي والمصدر المادي والمصدر الرسمي والمصدر التفسيري،
فالأول هو المرجع الذي استقى منه المشرع أحكام التشريع ولهذا
يصح القول بان الشريعة الإسلامية هي المصدر التاريخي للقانون
المدني العراقي، أما المصدر المادي فيراد به الأصول الواقعية
والفكرية في المجتمع التي تزود القاعدة القانونية بمضمونها، في
حين يقصد بالمصدر الرسمي الطريق الذي تنفذ منه القاعدة
القانونية وتخرج إلى حيز الوجود، وأخيراً يراد بالمصدر
التفسيري المرجع الذي يستعان به لإزالة الغموض واستكمال النقص
في القواعد القانونية وهو يشمل الفقه والقضاء
(2).
وبناءً على ما
تقدم فإننا إذا اعتبرنا الشريعة الإسلامية المصدر الأوحد
للتشريع فإننا نكون قد قطعنا القانون عن جذوره الواقعية ومنعنا
الاجتهاد في تأويل نصوصه وهذا محال يقيناً للأسباب المذكورة،
فإننا نوصي بان يتضمن الدستور الدائم نصاً يجعل من الشريعة
الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع وليس المصدر الأوحد، كما
نوصي بالإبقاء على النص الوارد في قانون إدارة الدولة العراقية
للمرحلة الانتقالية الذي منع سن قانون خلال المرحلة الانتقالية
يتعارض مع ثوابت الإسلام المجمع عليها، وهذا لا ينال من حقوق
غير المسلمين يقيناً، لأنهم بقوا خاضعين لأحكام دياناتهم
ومذاهبهم فيما يتعلق بمسائل الأحوال الشخصية
(1). كما أنهم
يتمتعون بعطلات رسمية في أعيادهم إضافة إلى العطلات المقررة
للمسلمين (2).
لقد ورد في عجز
المادة السابعة من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة
الانتقالية أن القانون يضمن الحقوق الدينية لجميع الأفراد في
حرية العقيدة والممارسات الدينية، وهذا نص فائق الحسن،لأن
اعتبار الإسلام ديناً رسمياً للدولة لا يبطل مفعول الأديان
الأخرى ولا يمنع معتنقيها من ممارسة شعائرهم الدينية شرط أن
تكون في حدود النظام العام والآداب، وهذا قيد موجود في كل دول
العالم، وختماً لهذا المبحث فإننا نوصي بان يأتي الدستور
الجديد معلناً جهاراً بان العراق دولة ديمقراطية موحدة تأخذ
بالنظام اللامركزي، دينها الرسمي الإسلام وهو المصدر الرئيسي
للتشريع فيها، وهي جزء من الأمة العربية والشعب مصدر السلطة
فيها.
المبحث الثالث
السلطات العامة
واختصاصاتها
حدد قانون إدارة
الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية السلطات العامة في العراق
خلال المرحلة الانتقالية وهي الجمعية الوطنية ومجلس الرئاسة
ومجلس الوزراء وبضمنه رئيس الوزراء والسلطة القضائية
(1) وهذا
التحديد حسن في ذاته لأنه يمنع تركيز السلطة.
إن أنظمة الحكم
أما أن تكون رئاسية أو نيابية، ففي النظام النيابي يوجد مجلس
من جهة وحكومة (وزارة) من جهة أخرى، وهناك تأثير متبادل بين
الجهتين من حيث مسؤولية الوزارة أمام المجلس وامكان الأخير سحب
ثقته منها فتضطر إلى الاستقالة كلاً أو جزءاً، وكذلك إمكانية
الحكومة من حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة
(2). هذا وقد
اقترب قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية كثيراً
من النظام النيابي، لأنه قرر مسؤولية الوزارة أمام الجمعية
الوطنية ولكنه لم يعط الحق للأولى في حل الثانية، فالجمعية
الوطنية لا تحل إلا في حالة رفض مسودة الدستور المستفتى عليها
كما نصت على ذلك المادة الحادية والستون/ هـ من القانون.
كما أن القانون
المذكور تبنى مبدأ الفصل بين السلطات، هذا المبدأ الذي كثر فيه
الشقاق واختلفت بل تنافرت فيه وجهات النظر، فأول من نادى
بالمبدأ المذكور (مونتسكيو) في كتابه روح القوانين، معتبراً
الاستبداد نتيجة لتركيز السلطة في يد واحدة. هذا ولقد احتلت
نظرية الفصل بين السلطات مكاناً مهماً في الفقه المعاصر وأصبحت
جزءاً من الثورتين الأمريكية والفرنسية ودخلت دساتيرها في
القرن التاسع عشر، إلا أن التطورات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والتكنولوجية أثبتت عدم امكان وضع حدود فاصلة بين
هيئات الدولة بحيث تمارس كل منها اختصاصاتها بصورة منفصلة عن
الأخرى، فتقسيم العمل بين السلطات ما وضع إلا لتنسيق العمل
(1) كما أن
الفقهاء الفرنسيين بدأوا يفرقون بين الفصل المرن والفصل التام،
ففي ظل الأول هناك تعاون بين السلطات، فكل سلطة تكمل الأخرى
وهذا ما باركه الفقيه (دفروجيه) حينما قال أن النظام الأكثر
شيوعاً ليس نظام الفصل بين السلطات بل التعاون، إذ انه في ظله
تنفذ كل سلطة وظائفها وهناك صلاحيات مشتركة بينها وتأثير
متبادل (2).
إن التجربة التي
خاضها العراق في ظل النظام البائد لتدعو إلى تبني نظام الفصل
بين السلطات،لأن الاستبداد الذي كان سمة ذاك النظام هو نتيجة
جمع السلطات في يد رئيس الدولة، فلقد كان القانون في فمه وسره
كامن في صدره والسلطة التنفيذية طوع يديه، والقضاء تحت هيمنته
المباشرة وهكذا تداخلت السلطات واندمجت لتصبح في قبضة رئيس
الدولة يستعملها بدون حسيب ورقيب.
وبناءً على ما
تقدم فانه يجب أن يتبنى الدستور الجديد مبدأ الفصل بين السلطات
ولكن بصورته المرنة لا المطلقة، أي بعبارة أوفى يجب أن يحدد
الدستور اختصاصات السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية
والقضائية دون أن يلغي التعاون والرقابة المتبادلة بينها لأن
هذا لن يكون، فلكل دولة فلسفة ورسالة وهما لا يتحققان إلا بعمل
صادق وتعاون بناء من سلطات الدولة الثلاث حتى تدور عجلة التطور
سراعاً.
وبخصوص استقلال
القضاء، فان من المعلوم انه يقوم بتفسير القانون وتطبيقه على
المنازعات الثائرة أمامه، وهو يتألف من القضاة وأعضاء الادعاء
العام، هذا ولقد ثار الشقاق حامياً بين الفقهاء حول مسألة
استقلال القضاء وهل يعتبر ثالث ثلاثة من سلطات الدولة. وحسب
رأي ( مونتسكيو واسمان ) فان القضاء سلطة مستقلة قائمة بذاتها،
في حين أن الفقيه ( دكي ) اعتبره فرعاً للسلطة التنفيذية لأن
المنازعات عقبات تقام في طريق تنفيذ القانون. إن اعتبار القضاء
سلطة مستقلة قائمة بذاتها أثقل في ميزان المنطق لأنه الحامي
لمبدأ المشروعية والذائد عن حقوق الأفراد وحرياتهم ولهذا أصاب
قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية وجه الحق
عندما قضى في المادة الثالثة والأربعين منه بان القضاء مستقل
ولا يدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها
وزارة العدل، وهذا ما يجب أن يتضمنه الدستور الجديد. فمطلوب
منه أن يحافظ على استقلال القضاء ويمده بأسباب القوة التي
تجعله قادراً على إمضاء حكم القانون وترسيخ دعائم دولته
المنشودة.
إن ضمان استقلال
القضاء يقتضي أيضاً الأخذ بمبدأ عدم قابلية القضاة للعزل
المطبق في كثير من الدول والذي ينأى بالقاضي عن أساليب العزل
والفصل الكيفي والنقل التعسفي، كما يضمن له راتباً يتناسب
وجلال المنصب الذي يشغله. هذا وقد نص قانون إدارة الدولة
العراقية للمرحلة الانتقالية على المبدأ المذكور في المادة
السابعة والأربعين منه، وهو ما نرجو أن يتضمنه الدستور الجديد
أيضاً.
بقيت ملاحظة
عالقة بموضوع استقلال القضاء تخص مجلس شورى الدولة، فمن
المعلوم أن المجلس يمارس في الوقت الحاضر وحسب قانونه المرقم
(65) لسنة 1979 المعدل وظيفتين اثنتين، وظيفة الإفتاء
والتدوين ووظيفة القضاء الإداري، فهناك جهتان قضائيتان تتبعان
المجلس هما: مجلس الانضباط العام ومحكمة القضاء الإداري، وتوجد
على رأسيهما الهيئة العامة لمجلس شورى الدولة والتي تمارس
اختصاصات محكمة التمييز فيما يتعلق بالطعون التي ترفع إليها في
القرارات الصادرة من الجهتين المذكورتين، ومع ذلك فان مجلس
شورى الدولة مازال جزءاً من وزارة العدل، وبالتالي فانه من
المحتمل أن يخضع لضغوط وتدخلات السلطة التنفيذية، وهذا لا
يستقيم ومبدأ استقلال القضاء ولا يتوافق معه، علاوة على ذلك
فان اختصاصات القضاء الإداري وبالأخص محكمة القضاء الإداري
مازالت متواضعة كل التواضع، وهي أضيق من الاستثناءات عليها.
وبناءً على ما تقدم فإننا نقترح إجراء توسيع حقيقي في اختصاصات
القضاء الإداري بحيث تشمل المنازعات الإدارية كلها تأسياً
بالأقضية الإدارية في الدول الأخرى، هذا مقترح، أما المقترح
الثاني
فإننا ندعو إلى فك مجلس شورى الدولة من ارتباط وزارة العدل
وجعله جزءاً من مجلس القضاء حتى تمارس جهاته القضائية
اختصاصاتها بصورة مستقلة أسوة بمحاكم القضاء العادي.
المبحث الرابع
الحقوق والحريات
العامة
سبق للإعلان
الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في العام 1789 أن قرر
بان الناس يولدون أحراراً، وكرر نفس الحكم الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام
1948 (1) وقد
اعتبر ذلك فتحاً مبيناً في مجال الحقوق والحريات العامة، ولكنه
ليس كذلك في واقع الأمر لأن الشريعة الإسلامية سبقت القوانين
الوضعية بقرون في تقرير المبدأ المذكور وتثبيته، حتى غدا أصلاً
مؤصلاً، إذ يروى عن الإمام علي (ع) انه قال (أيها الناس إن آدم
لم يلد عبداً ولا أمة وان الناس كلهم أحرار ولكن الله خول
بعضكم بعضاً) وكذلك قوله (لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً)(2).
يترشح مما تقدم،
أن الناس أحرار وهو متساوون في الحقوق والواجبات وان على
الدساتير ضمانها وتسخير الوسائل الكفيلة لحمايتها من تغوّل
السلطات العامة. لقد لجأت الدساتير الحديثة إلى تعداد الحقوق
والحريات العامة وإعطاء المشرع سلطة تنظيمها ووضع القيود عليها
إنْ تطلب الصالح العام ذلك، إلا أنها يقينا لم تبلغ الشأن الذي
بلغته الشريعة الإسلامية في هذا المضمار، فلقد ازدهرت الحقوق
والحريات العامة فيها وأينعت ثمارها حتى غدت قطوفها دانية لكل
إنسان. ولقد أحصى بعض الفقهاء الحقوق والحريات في الشريعة
الإسلامية فوجدها تزيد على الآلف، فيا لها من سعة وعظيم شأن.
لقد سبق القول
بأن الدساتير أحصت الحقوق والحريات العامة ومنها الدستور
العراقي لسنة 1970 الملغى
(1)، إذ خصص
الباب الثالث منه للبحث فيها وتحت عنوان الحقوق والواجبات
الأساسية، ولكنها ما نفعت المواطن لأنه كان بينه وبينها بعد
المشرقين، أجل لقد كانت في صلب الدستور كلاماً معسولاً ينقلب
إلى زبد عند ملامسته للواقع فيذهب جفاءً.
أما قانون إدارة
الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية فانه خصص الباب الثاني منه
لبحث الموضوع المذكور، فجاء تحت عنوان (الحقوق الأساسية)
وحسناً فعل عندما أورد تعداداً مسهباً في بعض الأحيان لتلك
الحقوق، ثم قضى بان التعداد المذكور لم يأت على شاكلة الحصر بل
المثال، وبالتالي فان أبناء الشعب يتمتعون بالحقوق المنصوص
عليها في المعاهدات والاتفاقيات الدولية وغيرها من وثائق
القانون الدولي التي وقعها العراق أو انضم إليها أو غيرها التي
تعد ملزمة له وفقا للقانون الدولي.
وعلى أية حال
فان الدستور الجديد يجب أن يأتي مقراً ومعترفاً بالحقوق
والحريات العامة للمواطنين جميعاً دون النظر إلى أي اعتبار
قومي أو ديني أو طائفي، نعم يجب أن يتساوى العراقيون في التمتع
بالحقوق والحريات العامة بناءً على معيار المواطنة الصالحة،
وما على القوانين التي تشرع استناداً إلى الدستور الجديد، إلا
أن تلتزم بهذا المبدأ وتتعلق به، كما انه يجب إعادة النظر في
التشريعات النافذة التي تعترض المبدأ المذكور حتى يستوي النظام
القانوني على أسس سليمة لا مطعن عليها. إن تسطير الحقوق
والحريات العامة في صلب الدستور ليس كافيا ولا شافياً، كما انه
ليس بالدليل الدامغ والحجة البالغة على أن الدولة التي شرعته
دولة قانون، فلقد تضمن الدستور العراقي لسنة 1970 الملغى
إحصاءً للحقوق والحريات العامة يسر الناظرين، ولكن هل طبقت تلك
النصوص في مجال العمل؟ دعونا نسوق لكم مثالاً على النصوص
الجوفاء التي احتواها الدستور المذكور، فلقد ورد في المادة
العشرين/ آ منه على أن (المتهم برئ حتى تثبت أدانته في محاكمة
قانونية) انه نص جميل تطمأن النفوس إليه وتأمن، ولكن أين كان
مفعوله يوم اعدم النظام مئات الآلاف من العراقيين بدون محاكمة
في مجزرة حلبجة والانتفاضة الشعبانية، وأين كان مفعوله يوم دفن
النظام الناس الأبرياء أحياءً، فلله دُركَ أيها الشعب العراقي
على الحلم والصبر والتحمل، فلو صبت مصائبك على الأيام لصرن
ليالياً.
نعود فنقول
تكراراً: إن سرد الحقوق والحريات العامة في الدستور ليس بلسماً
يشفي النفوس الجريحة، بل إننا نحتاج إلى ضمانات فاعلات تضمن
تطبيق نصوص الدستور بقضها وقضيضها، وتقف سداً بوجه تغوّل
الحكام المارقين، ومن المعلوم أن خير الضمانات وأقواها مفعولاً
وأثراً رقابة القضاء على أعمال السلطة التنفيذية، فهذه الرقابة
إذا ما مورست من قبل قضاء مستقل نزيه لا تأخذه في إقامة صرح
الحق لومة لائم أو عذل عاذل، فإنها ستكون درعاً حصيناً للمواطن
يلوذ به من كل قرار يصدر من الإدارة يفتأت فيه على حقوقه
وحرياته، إلا أن هذه الرقابة لا تؤتي آكلها كل حين إلا بإبطال
مفعول أعمال السيادة وشطبها من اللوح القانوني، فمن المعلوم أن
الدول الديمقراطية تدّعي التمسك بأهداب القانون وتنزّله في
النفوس منزلة عظيمة، ولهذا تصف نفسها بـ (دول القانون) ولكنها
من جهة أخرى تقر بوجود أعمال السيادة وهي طائفة من أعمال
السلطة التنفيذية لا تخضع لرقابة القضاء إلغاءً وتعويضاً وفحص
مشروعية، فالسلطة التنفيذية فيها مطلقة اليد كل الإطلاق، ولهذا
فانه من المحتمل جداً أن تصدر عن نزوات شخصية للحاكم أو بقصد
الانتقام أو لتحقيق مطامع شخصية لا تمت للصالح العام بأضعف
صلة. لقد نشأت نظرية أعمال السيادة على يد مجلس الدولة الفرنسي
لأسباب تاريخية خاصة بفرنسا، ولكنها تسللت إلى قوانين دول أخرى
تلقفتها بقبول حسن فأصبحت أصلاً مؤصلاً في التشريع المعاصر لا
تحركه العواصف السياسية. إن نظرية أعمال السيادة لم تُسْلم من
الرمي العنيف عليها حتى أثخنت جراحاً، فبدأ الفقه ينادي
بإلغائها أو على الأقل تقليص نطاقها إلى أدنى حد ممكن وتبعه في
ذلك القضاء أيضاً، إذ طفق يقبل دعوى التعويض بشأنها ويحد من
إطلاقها المطلق، حتى أصبح إلغاؤها في المستقبل القريب احتمالاً
قوياً.
إن أعمال
السيادة تستوعب عدداً كبيراً من أعمال السلطة التنفيذية،
فإعلان الحرب ووقفها وعقد الصلح وإقامة العلاقات الدبلوماسية
والاعتراف بالدول وسحبه وما يتعلق بالسياسة العليا للحكومة
وإجراءات الآمن الداخلي وغيرها الكثير الكثير،كلها تعد من
أعمال السيادة وبالتالي لا تنقاد لرقابة القضاء،لأن هناك
نصوصاً تمنع ذلك على وجه الحتم والإلزام
(1).
لقد وردت عندنا
نصوص في قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979 المعدل
وقانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل تمنع
القضاءين العادي والإداري من النظر في أعمال السيادة
(1)،لا بل أن
القانون الأخير اعتبر من الأعمال المذكورة، المراسيم والقرارات
التي يصدرها رئيس الجمهورية
(2). وهكذا سدت
أبواب الطعن بالأعمال المذكورة أمام القضاء وأصبحت بنجوى من
أية رقابة،مما شجع النظام السابق على الاستمساك بعروتها
ومعالجة القضايا المهمة بوساطتها، فكان ما كان من ظلم ومصادرة
للحقوق والحريات.
إن أعمال
السيادة أشبه بالدم المسفوح على ثوب أبيض، لأن مبدأ المشروعية
يقتضي خضوع أعمال الدولة لأحكام القانون فكيف يمكن بعد ذلك
السماح لها بضرب الأحكام المذكورة بالجدار والتصرف على وفق ما
تشتهيه نفوس الحكام المنحرفين؟
لقد جاء قانون
إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بنصوص نعتقدها كافية
لإسقاط أعمال السيادة، منها انه قضى في المادة السابعة/ أ بان
الإسلام دين الدولة الرسمي ويعد مصدراً للتشريع ولا يجوز سن
قانون خلال المرحلة الانتقالية يتعارض مع ثوابت الإسلام المجمع
عليها... الخ ،كما قضى في المادة الرابعة والعشرين/ ج منه
برفع الحصانة عن أي مسؤول أو موظف في الحكومة العراقية
الانتقالية عن أفعاله الجنائية التي يرتكبها خلال قيامه
بوظيفته، وكذلك منح في المادة الثانية والعشرين منه الحق لكل
شخص أو جماعة تم تجريدهم من الحقوق التي ضمنها القانون أو أية
قوانين عراقية سارية المفعول، بالمطالبة بالتعويض عن الأضرار
الناشئة عن فعل التجريد ولتثبيت الحق وابتغاء أية وسيلة
قانونية أخرى.
فإذا علمنا بأنه
لا عين لأعمال السيادة ولا أثر في الشريعة الإسلامية
(1)
لأن أعمال
الحكام كلها تخضع لرقابة القضاء والشعب، وهذا مبدأ لا يهتز،
وان النصوص القانونية التي أوردناها لتَقطع باليقين في مسؤولية
جميع العاملين في الدولة أياً كانت مناصبهم ووظائفهم، وانه لا
توجد إشارة لا من قريب ولا من بعيد لأعمال السيادة في نصوص
القانون المذكور، فانه بالترتيب على ذلك لا توجد أعمال سيادة
في العراق بعد اليوم، فأعمال الدولة كلها وبدون استثناء تخضع
لرقابة القضاء وصور الرقابة الأخرى، وهذا أعظم مكسب وأكبر ضمان
لأنه سيوفر الأجواء المناسبة للمواطنين في التمتع بحقوقهم
وحرياتهم، وإذا ما عنَّ للسلطات العامة مصادرتها أو تقييدها
على غير وفاق مع أحكام القانون فان القضاء سيقف بوجه هذا
التغوّل ويعيد المسؤول المنحرف في استعمال سلطته خائباً
مذموماً.
إن إسقاط أعمال
السيادة من اللوح القانوني سيمكن الأفراد من التمتع بحقوقهم
وحرياتهم على الوجه الأسنى، ويدفع السلطات العامة إلى التأني
والتروي في اتخاذ القرارات الماسة بالحقوق والحريات لأنها تعلم
أنها ستقف متهمة أمام القضاء وهذا عليها عزيز ثم عزيز.
المبحث الخامس
ضمانات تطبيق
الدستـور
إن أهم ضمانات
تطبيق الدستور ما يأتي :
أولاً. احترام
السلطات العامة للدستور
سبق منا القول _
ونعيده تذكيراً _ أن الدستور هو القانون الأعلى للدولة،
وبالتالي فانه يجب على السلطات العامة والأفراد احترامه وعدم
الخروج على أحكامه تحت أية ذريعة
(1).
وليس من ريب أن
احترام الأفراد لأحكام الدستور سهل وميسور، لأن بإمكان الدولة
معاقبة كل من يخرق قوانينها وإنزال الجزاء الوفاق بحقه، إلا
أن احترام السلطات العامة للدستور أمر تكتنفه الصعاب إنْ لم
يكن شبه محال، خصوصاً في الدول الاستبدادية التي يرى الحكام
أنفسهم فيها فوق القانون علواً كبيراً. إن المطلوب من السلطات
العامة في الدولة أن تتقيد بأحكام الدستور وتجعله ناظماً
منظماً لنشاطاتها وسنداً فذاً لكل قراراتها، وحتى يتحقق ذلك
وهو ليس محالاً فان الأمر يقتضي :
أ. بالنسبة
للسلطة التشريعية:
من المعلوم أن
السلطة التشريعية وظيفتها تشريع القوانين، وهي إذ تؤدي وظيفتها
هذه، ليست حرة طليقة من كل قيد، بل تنقاد لأحكام الدستور من
الوجهتين الشكلية والموضوعية، فمن الوجهة الموضوعية فانه يجب
أن تتقيد بمضمون نصوص الدستور فلا تخرج عليها وتنطلق، بل يجب
أكيداً أن تكون تشريعاتها متطابقة مع أحكام الدستور من حيث
المضمون كل التطابق، أما إذا لم تكن كذلك وهذا احتمال وارد،
فان التشريع الذي أصدرته يكون غير دستوري ويحق الهجوم عليه
أمام القضاء كما سنرى ذلك لاحقاً، فلو أن الدستور نص على حرية
العمل وأجاز للسلطة التشريعية تنظيمها، فاذا بها تصدر قانوناً
يصادر الحرية المذكورة، فان مثل هذا القانون يكون غير دستوري
ولا يجوز العمل به لأنه خارق مخترق لأحكام الدستور. أما من
الوجهة الشكلية، فانه يلزم عند إصدار التشريع استيفاء الشكليات
التي نص عليها الدستور، فإذا استوجب الدستور لإصدار التشريع
الحصول على أغلبية نسبية مثلاً، فانه لابد من استيفاء هذه
الشكلية والا اعتبر التشريع الصادر غير دستوري من الناحية
الشكلية حقيقاً مستحقاً للطعن. ولكن كيف السبيل لضمان دستورية
القوانين، أي مطابقتها شكلاً ومضموناً لأحكام الدستور؟ إن
السبيل الأوحد للضمان المذكور هو الرقابة على دستورية القوانين
والرقابة المذكورة قد تكون سياسية أو قضائية، والأخيرة أما أن
تكون رقابة إلغاء أو رقابة امتناع، ففي النوع الأول فان
القضاء يستطيع إلغاء القانون المخالف للدستور واعتباره كأن لم
يكن، أما في النوع الثاني فانه يكتفي بالامتناع عن تطبيقه على
المنازعة الثائرة أمامه وبالتالي يبقى القانون نافذاً مؤثراً
في مواجهة الآخرين
(1).
ومن المعلوم أن
الدول ليست على نسق واحد في تبنيها للرقابة على دستورية
القوانين، كما أن البعض منها يتنكر لها ويجحد، وعلى أية حال
فلقد أخذ القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 بالرقابة على
دستورية القوانين
(1) وكذلك دستور عام 1968 الملغى، إذ نص على تشكيل محكمة
دستورية عليا بقانون تتولى مهمة الرقابة على دستورية القوانين،
وقد صدر فعلاً قانون تشكيل المحكمة وهو القانون رقم (159) لسنة
1968 إلا أنها لم تشكل في حينه، فبقي القانون المنشيء أثراً
على ورق.
أما دستور عام
1970 الملغى فانه لم يشر إلى موضوع الرقابة على دستورية
القوانين، فكان مجلس قيادة الثورة (المنحل) وهو السلطة
التشريعية الأصيلة ورئيس الجمهورية الذي تم تفويضه الاختصاص
التشريعي بقرار المجلس المذكور رقم (15) لسنة 1993 طليقَي اليد
كل الإطلاق في ممارسة الوظيفة التشريعية فتوالت التشريعات
المخالفة للدستور والمنتهكة لحرمته، ولكن أحداً لم يعترض
عليها، لأنها كانت معصومة من أية رقابة.
أما قانون إدارة
الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية فانه أخذ بنظام الرقابة
على دستورية القوانين، فنص في المادة الرابعة والأربعين منه
على تشكيل محكمة في العراق بقانون تسمى المحكمة الاتحادية
العليا، كما انه حدد اختصاصاتها ومن بينها النظر في دستورية
القوانين والأنظمة والتعليمات التي تصدر من الحكومة الاتحادية
والحكومات الإقليمية وإدارات المحافظات والبلديات والإدارات
المحلية وذلك بناء على دعوى من مدع أو إحالة من محكمة أخرى.
وإذا استبان
للمحكمة بياناً مبيناً بان التشريع المطعون فيه غير دستوري
فإنها تقرر اعتباره ملغياً.
إن تنظيم قانون
إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية للرقابة على دستورية
القوانين بالشكل الذي عرضناه يمتاز بالميزات الآتية :
1) إن الطعن
بعدم الدستورية يوجه إلى القانون والنظام والتعليمات وهذا توسع
محمود، لأن الأنظمة والتعليمات وهي قرارات إدارية ستخضع
لطريقين من طرق الطعن، الأول هو الطعن أمام المحكمة الاتحادية
العليا فيما إذا كانت خارقة للدستور، إذ بإمكان المحكمة
إلغاءها إذا ما تبين لها الخرق مبيناً، والثاني هو طريق الطعن
أمام محكمة القضاء الإداري فيما إذا كانت مخالفة لمبدأ
المشروعية بمصادره المختلفة ومنها الدستور وللمحكمة المذكورة
أيضاً إلغاء الأنظمة والتعليمات المطعون فيها والتعويض عن
الأضرار الناشئة عنها وذلك بالاستناد إلى أحكام المادة ( 7 /
ثانياً) من قانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل.
2) إن تحريك
الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة والتعليمات، يتم بناءً
على دعوى من مدع أو طلب من محكمة أخرى، وهذا يعني أنه إذا وجدت
المحكمة المختصة أياً كانت مدنية أو جنائية أو إدارية أن
قانوناً أو نظاماً أو تعليمات على غير وفاق وأحكام الدستور فان
لها أن تحيل الأمر على المحكمة الاتحادية العليا لتفصل فيه
بحكم فيصل، وهذا أيضاً توسع في هذا النوع من الرقابة سيضمن إلى
حد كبير احترام أحكام الدستور.
3) سبق منا
القول ونعيده تذكيراً، أن مآل الرقابة على دستورية القوانين
إلغاء القانون المخالف للدستور أو الامتناع عن تطبيقه، ولا
مشاحنة أن النتيجة الأولى أخطر من الثانية، ولهذا كانت غرضاً
تجمعت عليه نقود الفقه، وعلى هذا فان قانون إدارة الدولة
العراقية للمرحلة الانتقالية كان جريئاً في تقريره هذه النتيجة
لأنها تؤدي إلى إعدام القانون أو النظام أو التعليمات
واعتبارها كأن لم تكن شيئاً مذكوراً.
زبدة ما تقدم،
أن نظام الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة والتعليمات
الذي تبناه قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية،
نظام محكم حصيف، وما على الدستور الجديد إلا أن يأخذ به كاملاً
غير منقوص وبذلك يسمو الدستور ويعلو، فلا تستطيع السلطات
العامة النيل منه والمساس بحرمته.
ب. بالنسبة
للسلطة التنفيذية:
إن وظيفة السلطة
التنفيذية تنفيذ القوانين وإدارة المرافق العامة، وتعد السلطة
المذكورة من أخطر سلطات الدولة على حقوق الأفراد وحرياتهم،
بحكم تماسها المباشر واليومي معهم وما تملكه من امتيازات خارقة
تجعل كفتها راجحة في مواجهة الأفراد رجحاناً كبيراً.
إن مبدأ
المشروعية في معناه الضيق يقتضي من الإدارة أن تخضع في كل
أعمالها القانونية والمادية لأحكام القانون فلا تخرج عليها ولو
قيد أنملة، وبذلك يأمن الأفراد على حقوقهم وحرياتهم ويطمأنون،
إلا أن تحقيق ذلك لا يكون بنفخة ساحر، بل يقتضي وجود رقابة
قضائية صارمة تتولى تمحيص أعمال الإدارة المطعون فيها وبالتالي
إلغاء ما كان منها مخالفاً للدستور، إلا أن وضع العقبات
والممنوعات أمام القضاء يحول دون تحقيق الغرض المرتجى فلقد
كثرت الاستثناءات عندنا على اختصاصات القضاء العادي والإداري
وتم تحصين العديد من الأعمال الإدارية وهذا شر مستطير، لأنه
سيجعل يد السلطة التنفيذية طليقة من كل قيد، فتتصرف على هواها
وما تشتهي نفوس أعضائها.
بناءً عليه ومن
أجل ضمان مبدأ المشروعية واحترام أحكام القانون، فانه يجب أن
يأتي الدستور الجديد بنص صراح يقضي بمنع تحصين أي عمل تقوم به
السلطة التنفيذية من رقابة القضاء، وبهذا وليس بغيره تحفظ
الحقوق وتصان الحريات من عبث الموظفين المنحرفين .
ج. بالنسبة
للسلطة القضائية:
من المعروف أن
السلطة القضائية تختص في الفصل في المنازعات المرمية أمامها،
سواء كانت هذه المنازعات بين الأفراد أنفسهم أو بينهم وبين
الدولة، إلا أن السلطة المذكورة وهي تطبق أحكام القانون على
المنازعات، قد تصيب وجه الحق وقد تخطيء، فإن هي أصابت ما رمت
إليه تطابقت الحقيقتان القانونية والواقعية واتحدتا، وبخلافه
تنافرت فكانت الواحدة منهما بوادٍ والأخرى بواد آخر.
والذي يزيد
الأمر تعقيداً، أن القاضي يستنفد ولايته بمجرد إصدار الحكم
فلا يحق له أن يعيد النظر فيه تقليباً، وهكذا ينقلب الباطل حقاً
والحق باطلاً وهذا يشكل طعنة نجلاء في قلب العدالة. وللسبب
المذكور فان القوانين أوجدت طرق الطعن في الأحكام ونظمتها على
خير مثال حتى يمكن تجنب الأخطاء في الأحكام القضائية، بحيث
تكون أدنى من قاب قوس من صميم العدالة.
إلا أن بعض
القوانين لم تحدد طرقاً للطعن في جميع الأحكام القضائية، أي
بعبارة أوضح أنها قررت اعتبار بعض الأحكام باتة فيما إذا صدرت
من محكمة أول درجة وبالتالي يمتنع الطعن فيها بأي طريق(1)،
وهذا مؤذٍ للعدالة ولهذا ترى الفقه والقضاء ينتفض فيقرر بان
التقاضي على درجتين مبدأ من مبادئ القانون العامة لا يملك
المشرع من تقريره مهرباً.
بناءً على ما
تقدم فان من ضمانات احترام السلطة القضائية لأحكام الدستور
والقوانين ابتداع طرق للطعن بالأحكام القضائية، فلا يكتفى
بالحكم الصادر من محكمة أول درجة، بل لابد أن يكون هذا الحكم
قابلاً متقبلاً للطعن فيه بطريق الاستئناف والتمييز وحتى بطرق
الطعن غير العادية.
إننا نقترح في
هذه الخصوصية أن يعيد المشرع العراقي النظر في النصوص التي
تحصن بعض الأحكام القضائية من الطعن فيها أمام المحاكم الأعلى،
وبالتالي يقرر لتلك الأحكام طرقاً للطعن تضمن تصحيح الأخطاء
والاجتهادات وبذلك تعود الحقوق إلى أربابها سالمة سليمة وتصان
من أي عدوان عليها.
ثانياً. استقلال
القضاء
مما لا ريب فيه
أن القضاء لا يستطيع القيام بمهمته الجبارة في تحقيق الآمن
والآمان القانوني وصيانة حقوق الأفراد وحرياتهم ما لم يكن
مستقلاًَ في عمله تمام الاستقلال،لأنه إذا كان خاضعاً لتوجيهات
السلطة التنفيذية ونفوذها التسلطي، فانه سيتعثر في أداء مهمته
ويكبو، وعلى هذا فانه بات حتماً لازماً منح القضاء استقلالاً
حقيقياً وجعله بنجوى من تدخل السلطات العامة الأخرى، وبذلك
يستطيع أداء رسالته العظيمة. لقد نص الدستور العراقي لسنة
1970 الملغى في المادة الثالثة والستين/ أ منه على أن القضاء
مستقل لا سلطان عليه لغير القانون، كما قضى في الفقرة (ب) من
ذات المادة بان حق التقاضي مكفول لجميع المواطنين.
إلا أن النصوص
المذكورة لم تر النور لأنها بقيت حبيسة الورق فلقد كان النظام
السابق يتدخل بأعمال القضاء ويصدر الأوامر إليه ويقيل كل قاضٍ
لم يستجب لتوجيهاته الخرقاء، لا بل انه نصب قضاةً يحكمون له
على وفق نزواته الشريرة، كما أن كفالة حق التقاضي لجميع
المواطنين كانت واهنة أضعف من نسيج العنكبوت فكم من حصانة
قررها لأعمال وقرارات، ومنع القضاء من النظر في صحتها وتحت
ذرائع هزيلة؟
لقد جاء قانون
إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ليقرر في المادة
الثالثة والأربعين منه بان القضاء مستقل، وفصم علاقته بوزارة
العدل وانشأ مجلساً أعلى للقضاء، وقرر مبدأ عدم قابلية القاضي
للعزل، ولم يحصن عملاً أو قراراً من رقابة القضاء، وهذا كله
يمثل مكاسب جديدة ومغانم عظيمة لصالح الأفراد.
إن الدستور
الجديد يجب أن يأتي متضمناً المبادئ الآتية في مجال القضاء:
1) أن ينص على
استقلال القضاء استقلالاً تاماً ويبقي على المجلس الأعلى
للقضاء ويجعل المحاكم الموجود في الدولة تحت خيمته، وبهذه
المناسبة نكرر اقتراحنا السابق بضرورة ربط مجلس شورى الدولة
بالمجلس الأعلى للقضاء، لأن أهم وظيفتين له، وظيفة القضاء
الإداري.
2) أن ينص على
مبدأ عدم قابلية القاضي للعزل لأنه يحصن القاضي من تدخل السلطة
التنفيذية ويجعله في مأمن من قراراتها الجائرة ويهيئ المناخ
الملائم له لكي يطبق حكم القانون خير تطبيق فلا يلتفت إلى لوم
اللائمين.
3) يجب أن يكفل
حق التقاضي للمواطنين قولاً وفعلاً، فلا حصانة لعمل أو قرار
يصدر من الدولة، فكلها تخضع وتنقاد لرقابة القضاء وبذلك يرتفع
عامود مبدأ المشروعية وتصبح الدولة دولة قانونية حقاً وصدقاً.
4) يجب طي فكرة
أعمال السيادة وإبطال مفعولها نهائياً،لأنها مصدر شر مستطير
فلا داعي لوصف بعض أعمال السلطة التنفيذية بأعمال سيادة
وبالتالي تحصينها من رقابة القضاء، لأنها ستكون فرصة للشطط في
استعمال السلطة وأداة لتحقيق مصالح شخصية للحاكم لا تمت
للمصلحة العامة بصلة.
ثالثاً. تنشيط
الرقابات على أعمال الإدارة.
من المعلوم أن
الإدارة تخضع لصور من الرقابة على أعمالها،
فهناك الرقابة الإدارية والرقابة البرلمانية ورقابة الرأي
العام وغيرها، ومن أجل ضمان احترام الدستور والقوانين فانه
لابد من تنشيط الرقابة الإدارية أي رقابة الإدارة على نفسها
بحيث يتابع الرئيس الإداري أعمال الموظفين المرؤوسين تلقائياً
أو بناء على تظلم فيصحح ما وقع منها خارقاً للقانون.
وبخصوص الرقابة
البرلمانية، فإنها تشكل ضمانة قوية لحماية الدستور والقوانين
وقد أخذ بها قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية،
وبالتالي فانه لابد من تبنيها من قبل الدستور الجديد أيضاً حتى
تبقى سلاحاً فذاً بيد الجمعية الوطنية تواجه به طغيان السلطة
التنفيذية وتغوّلها حقوق الأفراد وحرياتهم.
أما بشأن رقابة
الرأي العام فانه لامناص من تفعيل دور الصحافة والأحزاب
السياسية وإسقاط القيود على أنشطتها، شرط أن تبتغي تحقيق
الصالح العام وتكون عوناً للدولة لا خصماً لدوداً لها.
رابعاً. الأخذ
ببعض وسائل الديمقراطية غير المباشرة
الديمقراطية على
أنواع ثلاثة، فهي أما أن تكون مباشرة ، يتولى المواطنون الحكم
فيها بأنفسهم دون وسيط، وأما أن تكون شبه مباشرة ، وهي
تستلزم قيام هيئة نيابية منتخبة مع تخويل المواطنين حق
المشاركة في بعض سلطات الحكم أو تكون ديمقراطية نيابية.
فالديمقراطية
شبه المباشرة إذن، تمنح المواطنين الحق في المشاركة بالحكم من
خلال الوسائل الآتية:
1) الاستفتاء
الشعبي، ويعني الرجوع إلى الناخبين لأخذ رأيهم في موضوع معين
كأن يكون دستوراً أو قانوناً أو عملاً سياسياً.
2) الاعتراض
الشعبي، وهو سلطة مخولة لعدد معين من الناخبين في الاعتراض على
قانون سنته السلطة التشريعية، فإذا حصل أوقف تنفيذ القانون
وتوجب إجراء استفتاء عليه، فإذا وافق الناخبون عليه بقي نافذاً
والا سقط.
3) الاقتراح
الشعبي، وفيه يقترح الناخبون بعدد يحدده الدستور مشروع قانون،
فتلتزم الهيئة النيابية بمناقشته، فإذا وافقت عليه صدر والا تم
عرضه على الاستفتاء الشعبي.
4) طلب إعادة
الانتخاب، وفيه يعطى لعدد من الناخبين حق طلب إعادة انتخاب
نائب يعتقدون بعدم صلاحيته، فإذا جرى الانتخاب وفاز النائب
مجدداً، تحمل الناخبون الذين طلبوا إعادة الانتخاب مصاريفه.
5) طلب حل
الهيئة النيابية، وهذه وسيلة خطيرة ولهذا لم تأخذ بها إلا
القلة من الدساتير، وبعد أن وضعت شروطاً مشددة لاستعمالها.
6) طلب عزل رئيس
الجمهورية، وفيه يجوز لعدد معين من الناخبين طلب عزل رئيس
الجمهورية، فإذا صادف هذا الطلب أغلبية خاصة من مجلس النواب،
تم توقيف الرئيس عن مباشرة عمله وعرض الأمر على الاستفتاء
الشعبي، فإذا وافق الناخبون على طلب العزل تم، وإلا اعتبر ذلك
تجديداً لانتخاب الرئيس مدة أخرى وتم حل المجلس النيابي الذي
طلب عزله(1) .
إن الوسائل التي
ذكرناها ليست وصفات جاهزة للتطبيق في كل دولة، بل إن ذلك رهن
ظروفها السياسية والاجتماعية، ولكن ليس هناك ما يمنع من الأخذ
ببعضها خصوصاً وان من شأنها ضمان احترام الدستور والقوانين من
جانب سلطات الدولة فلا تخرج عليها والا كانت عاقبة أمرها خساراً.
إننا ندعو واضعي
الدستور الجديد إلى النظر الدقيق إلى تلك الوسائل وانتقاء
الصالح المناسب منها وتضمينه في الدستور، وهذا يعزز النهج
الديمقراطي ويجعل من هيئة الناخبين سلطة رابعة إلى جانب
السلطات الثلاث في الدولة.
الخاتمـــة
بعد أن نفد مداد
كلماتنا في موضوع البحث حق علينا ووجب، أن نسجل النتائج
والمقترحات تلخيصاً. لقد استبان لنا من حيثيات البحث أن
الدستور قانون الدولة الأعلى، لا تنصب أحكامه عليها من السماء
صباً صباً، بل انه ينشأ ويترعرع في تربتها ولحمه وسداه من
قيمها وتراثها وعاداتها وأخلاقها، وعلى هذا فان الدستور يجب أن
يأتي ملبياً لحاجات المجتمع وطموحاته وتطلعاته نحو غد مزدهر،
يصنعه أهل البلد بأيديهم، لا أن يملى عليهم فيقروا به إقرار
العبيد، كما أن الدستور باعتباره قانوناً أسمى، يجب أن يأتي
بأحكام واقعية ليست من نسج الخيال، والا استحال تطبيقها فاصحبت
كالكتابة على ماء. والنصوص الدستورية وان سمت في مضمونها
وعظمت فانه لا قيمة لذلك ما لم تسخر الضمانات الكفيلة لتطبيقها
على أرض الواقع، فخير المقال ما صدقه الفعال.
إن الدول ليست
مقطوعة الصلة فيما بينها، بل هي شعوب خلقها الله سبحانه وتعالى
لتتعارف وتتبادل الخبرات وتعمل سوية لتحقيق رسالة الإنسان في
الحياة وعمارة الأرض وتحقيق العيش الرغيد، وعلى هذا فانه لا
ضير ولا ضرر من الاقتباس من تجارب الدول في مجال الدساتير، شرط
أن يكون ذلك متوافقاً مع واقع المجتمع العراقي غير متنافر.
إن مهمة وضع
الدستور بعد سقوط النظام البائد المظلم وانبجاس الديمقراطية،
ينابيع خير على المجتمع ليست سهلة ميسورة بل إنها أعظم مهمة
واجل عمل، فلتتكاتف جهود كل العراقيين الخيرين وتتوحد
إسهاماتهم من أجل إنجاز هذا العمل الجبار حتى يكون منطلقاً
صلداً نحو البناء والأعمار وإقامة صرح دولة عصرية تصبح أنموذجاً
لامعاً للدول النامية وما هذا على العراقيين الشرفاء بعزيز.
عميد كلية الحقوق/ جامعة النهرين*
أهم المصــادر
أولاً. باللغة العربيــة
أ. الكتب العامة
- د. اسماعيل مرزة – مبادئ القانون الدستوري والعلم
السياسي – النظرية العامة في الدساتير – الطبعة الثالثة 2004
– دار الملاك للفنون والآداب والنشر.
- د. داود الباز – أصول القضاء الإداري في
النظام الإسلامي – أساسه وتميزه – دار الفكر الجامعي 2004.
- د. سعدون ناجي القشطيني – شرح أحكام
المرافعات – الجزء الأول 1971.
- السيد صادق الحسيني الشيرازي – السياسة من واقع
الإسلام – الطبعة الرابعة – مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر –
بيروت / لبنان 2003.
- د. صالح جواد كاظم و د. علي غالب خضير و د.
شفيق عبد الرزاق – النظام الدستوري في العراق 1980 – 1981.
- د. علي غالب خضير و د. نوري لطيف – القانون
الدستوري.
- د. فؤاد العطار – القضاء الإداري – دراسة مقارنة
لأصول و رقابة القضاء على أعمال الإدارة وعمالها ومدى تطبيقها
في القانون الوضعي – دار النهضة العربية 1962-1963.
- د. محسن خليل – النظم السياسية والقانون الدستوري –
الجزء الثاني – الدستور اللبناني والمبادئ العامة للدساتير –
دار النهضة العربية 1966 / 1967.
- د. منذر الشاوي – القانون الدستوري ( نظرية
الدولة ) بغداد 1981.
- د. منذر الشاوي – القانون الدستوري ( نظرية
الدستور ) بغداد 1981.
ب. الدساتير والقوانيــن:
- الدستور اللبناني
- الدستور العراقي لسنة 1970 الملغى
- الدستوري الجزائري لسنة 1996.
- قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004.
- قانون المرافعات المدنية لسنة 1969 المعدل.
- قانون العطلات الرسمية لسنة 1972 المعدل.
- قانون مجلس شورى الدولة لسنة 1979 المعدل.
- قانون التنظيم القضائي لسنة 1979 المعدل.
ثانياً: باللغة الفرنسية
- Vedel – Manuel elementaire de droit constitional.
(1) راجع
د. اسماعيل مرزة – مبادئ القانون الدستوري والعام
السياسي - النظرية العامة في الدساتير – الطبعة
الثالثة 2004 – دار الملاك للفنون والآداب والنشر – ص
78- 79.
(1) لمزيد
من التفصيل حول هذا الموضوع راجع المصادر الآتية :
- د. محسن خليل – النظم السياسية
والقانون الدستوري – الجزء الثاني – الدستور اللبناني
والمبادئ العامة للدساتير – دار النهضة العربية 966 /
1967 - ص 14 وما بعدها.
- د. علي غالب خضير و د. نوري لطيف –
القانون الدستوري – ص 181 وما بعدها.
- د. صالح جواد كاظم و د. علي غالب
خضير و د. شفيق عبد الرزاق – النظام الدستوري في
العراق 1980 – 1981 ص 18.
- د. اسماعيل مرزة – المرجع السابق – ص
78 وما بعدها.
(2) انظر:-
Vedel – Manuel elementaire de droit constitional .
P. 114
(1) أنظر
د. اسماعيل مرزة – المرجع السابق – ص 89.
(1) أنظر
المادة الرابعة من القانون.
(2) للمزيد
من التفصيل راجع د. منذر الشاوي – القانون الدستوري (نظرية
الدولة) بغداد 1981 ص200 وما بعدها.
(1) وإذا لم
يرق ذلك للأخوة الأكراد فلا بأس من الأخذ بفكرة الحكم
الذاتي بالنسبة لمنطقة كردستان بديلاً، والحكم الذاتي
كما يقول الفقهاء أعلى مراحل اللامركزية الإدارية
ولكنه لا يدخل في تدرجها، لأن أساسه يختلف عنها،
فاللامركزية الإدارية تطبق في جميع أنحاء الدولة في
حين أن الحكم الذاتي يمنح لمنطقة أو مناطق تتميز
بخصائص قومية أو جغرافية أو تاريخية، هذا وتتمتع
المنطقة التي تمنح حكماً ذاتياً باختصاصات واسعة تصل
إلى حد التشريع على أن لا يتعارض ذلك مع دستور الدولة
وقوانينها، كما أن لها ميزانية خاصة واستقلالاً مالياً
وإدارياً وان كانت تخضع لرقابة الحكومة المركزية ضمن
حدود معينة. راجع د. علي غالب العاني و د. نوري لطيف
– المرجع السابق – ص 112 – 113.
(1) وهذا
النص موجود في دساتير عربية أخرى ومنها الدستور
الجزائري لسنة 1996. انظر المادة (2) منه.
(2) وهذا
ما لمسناه من ممثلي بعض الدول في المؤتمر الذي عقدته
جامعة بلكنت التركية يومي 22 و 23/3/2004 حول الوضع في
العراق إذ كنا ضمن الوفد العراقي، فتم الرد على تلك
الأقاويل الباطلة فعادت سهام النقد إلى أقواسها.
(1) وهذا
ما وكده الدستور اللبناني في المادة (9) منه. أنظر د.
محسن خليل – المرجع السابق – ص 180.
(2) راجع
محاضراتنا في أصول القانون الملقاة على طلبة قسم
المحاسبة في كلية الإدارة والاقتصاد/ جامعة بغداد.
(1) إذ
تختص محكمة البداءة بنظر مواد الأحوال الشخصية لغير
المسلمين وذلك حسبما نصت عليه المادة (33) من قانون
المرافعات المدنية لسنة 1969 المعدل، والمواد المذكورة
تشمل دعاوى الحالة الزوجية والحضانة والنسب والنفقات
وغيرها. للتفصيل راجع د. سعدون ناجي القشطيني – شرح
أحكام المرافعات – الجزء الأول – 1971 ص 143- 144.
(2) انظر
المادة الثانية من قانون العطلات الرسمية رقم (110)
لسنة 1972 والتي نصت على منح المسيحيين والموسويين
والصابئة واليزيديين عطلاً في مناسباتهم الدينية.
(1) انظر
المادة الرابعة والعشرين من القانون.
(2) انظر
د. صالح جواد كاظم وآخرين – المرجع السابق – ص 20.
(1) د. علي
غالب العاني و د. نوري لطيف – المرجع السابق – ص 67
وما بعدها د. سعد عصفور – المرجع السابق – ص 159 وما
بعدها.
(2) د. علي
غالب العاني و د. نوري لطيف – المرجع السابق ص 76.
(1) اذ تنص
المادة -1- منه على أن (يولد جميع الناس أحراراً
متساويين في الكرامة والحقوق ذوي عقل وضمير يتعاملون
فيما بينهم بروح الاخاء).
(2) راجع
أية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي –
السياسة من واقع الإسلام – الطبعة الرابعة – مؤسسة
المجتبى للتحقيق والنشر – بيروت – لبنان – 2003 - ص
157-158.
(1) وكذلك
الدستور الجزائري لسنة 1996 انظر الفصل الرابع منه.
(1) انظر
د. فؤاد العطار – القضاء الإداري – دراسة مقارنة لأصول
ورقابة القضاء على أعمال الإدارة وعمالها ومدى تطبيقها
في القانون الوضعي – دار النهضة العربية 1962 – 1963
ص86-87 وكذلك محاضراتنا في القضاء الإداري الملقاة على
طلبة الصف الثالث في كلية الحقوق / جامعة النهرين.
(1) انظر
المادة ( 10) من القانون الأول والمادة (7/ خامساً/ أ
) من القانون الثاني.
(2) انظر
المادة ( 7/ خامساً/ أ) من القانون.
(1) ومن
الأمثلة التي يسوقها الفقهاء للتدليل على عدم أخذ
الشريعة الإسلامية بأعمال السيادة واقعة دخول قتيبة بن
مسلم الباهلي مدينة سمرقند غدراً دون التقيد بالقواعد
التي قررها الإسلام وقيام أهل المدينة بالشكوى إلى
الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي طلب بدوره من القاضي
في الولاية المجاورة التحقيق في الموضوع ، فتبين بعده
صحة الشكوى ، فأمر الخليفة بإخراج جيش المسلمين من
المدينة وإعادة الحال إلى ما كان عليه، انظر د. داود
الباز – أصول القضاء الإداري في النظام الإسلامي
(أساسه تميزه) دار الفكر الجامعي 2004 ص 100 وما
بعدها.
(1) راجع
د. اسماعيل مرزة – المرجع السابق – ص 165.
(1) لمن
أراد الاستزادة في موضوع الرقابة على دستورية القوانين
فليراجع المصادر الآتية:
- د.اسماعيل مرزة – المرجع السابق
– ص 169 وما بعدها.
- د. محسن خليل – المرجع السابق –
ص 103 وما بعدها.
- د. منذر الشاوي – القانون
الدستوري ( نظرية الدستور ) بغداد 1981 .
(1)
للتفصيل راجع – د. اسماعيل مرزة – المرجع السابق – ص
220 وما بعدها .
(1) انظر
على سبيل المثال المادة (15/ رابعاً) من قانون انضباط
موظفي الدولة والقطاع الاشتراكي رقم (14) لسنة 1991.
(1) انظر
د. سعد عصفور – المرجع السابق – ص 169 وما بعدها.
|