جاءت العملية التي أطلقت عليها حركة حماس اسم (طوفان الأقصى) على خلفية الاعتداءات المستمرة التي تقوم بها حكومة اليمين الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، فبدأ الصراع عندما شنت حماس هجوم مفاجئ متعدد الجوانب في السابع من تشرين الأول 2023 استهدف مواقع للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وإطلاق وابل من الصواريخ والتسلل إلى داخل إسرائيل عبر البر والبحر والجو، ثم أطلق الجيش الإسرائيلي عملية (سيوف من حديد) وإعلان حالة حرب، وفي اقتراب أولي لقراءة هذه الأحداث أسفرت هذه العملية غير المسبوقة وفق المعطيات التي أعلنها الجيش الإسرائيلي حتى الآن، عن مقتل أكثر من (1200) عسكري ومدني إسرائيلي، فضلاً عن مقتل ما يقارب الـ(2300) فلسطيني وإصابة (3000) جريح، كما أسرت حماس وفصائل أخرى أكثر من (130) إسرائيلي.
ومن هذا المنطلق ثمة سياقات موضوعية أدت إلى هذا الهجوم الذي سعت من خلاله حركة حماس إلى تحقيق أهداف استراتيجية بدرجة أولى تتجمع في تغيير قواعد الصراع، وبناء قواعد جديدة تتناسب مع المفهوم الجديد الذي قدمته الحرب الأخيرة، وأيا كان التحليل الاستراتيجي لما حدث، فإنّه أعاد ترصيص حلف الممانعة في المنطقة، بعدما شهد انقسامات وخلافات بين حماس وبقية الفصائل المسلحة، على إثر الأحداث في سورية منذ عام 2011، وبالتالي الإفادة من ذلك في تعزيز مكانة حماس في الحسابات الداخلية والإقليمية والدولية بوصفها الرقم الأصعب الذي لا يمكن تجاوزه بعد أن تطورت حماس من جماعة احتجاجية إلى قوة مسلحة.
وفي المحصلة الاستراتيجية تعكس متغيرات المشهد السياسي الراهن بعض النتائج والتداعيات المحتملة للحرب في عدة أصعدة وذلك على النحو الاتي:
ا- صعيد السياسات الفلسطينية: أكدت الحرب أنّ السلطة الفلسطينية عاجزة وضعيفة؛ مما أسهم في تعزيز قبضة حركة حماس على قطاع غزة بعد أن أحدثت عملية طوفان الأقصى أصداء إيجابية في الشارع الفلسطيني، وعززت الحاضنة الشعبية لمسار المقاومة المسلحة، ومن شأن ذلك أن يعزز من شعبية وقبضة حماس على القطاع.
2- صعيد السياسات الإسرائيلية: من المؤكد ستكون هنالك محاسبة بعد انتهاء غبار الحرب وفيما إذا كانت ستؤدي إلى تعديل السياسات الإسرائيلية المتطرفة لاسيّما في القدس والمستوطنات والسياسات الداخلية في إسرائيل بعد انكشاف الردع الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، وهو ما سيضع على إسرائيل عبئاً نفسياً وأمنياً قد يمتد لسنوات بغض النظر عن النتائج النهائية لتلك الحرب، فمن المحتمل تكون هذه الحرب هي نهاية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية، مهما كانت نتائجها المحتملة.
3- صعيد السياسات الإقليمية: من الواضح أن الحرب من جانب أثبتت قوة إيران في المنطقة، وتصاعد دور الفاعلين من دون الدول والجماعات المسلحة، مع التحول في أنماط الحروب ومفاهيم المواجهات المسلحة، ليس فقط في فلسطين بل في لبنان وسورية والعراق، ومن جانب أخر اعادت الزخم للقضية الفلسطينية الى الأجندة الإقليمية.
4- صعيد السياسات الدولية: من الواضح أنه أيا كانت النتائج فإن الأحداث الحالية أعادت القضية الفلسطينية إلى أولويات الأجندة الدولية فضلاً عن ذلك فإن الحرب قد توفر فرصة لقوى دولية مناوئة من أجل محاولة الحصول على مكاسب منها، وهذا السياق بعد أن تحدث الرئيس الأمريكي بايدن عن الدعم الكامل لإسرائيل، وبدأت روسيا بدورها في توجيه رسائل تفيد بأنها ليست بعيدة عن الحسابات الإقليمية والدولية لما يجري في غزة، إذ لا يمكن استبعاد أن تحاول استثمار ذلك في إدارة صراعها مع الدول الغربية في أوكرانيا، وهو ما يوحي في النهاية بأن الحرب الحالية دشنت مرحلة جديدة سوف يكون لها تأثير مباشر على مسار التفاعلات التي تجري على الساحتين الإقليمية والدولية على المديين المتوسط والبعيد.
ومن جهة اخرى يمكن الحديث عن مستقبل القضية الفلسطينية في ضوء معطيات المشهد الراهن وحالة التـأزم والحلول السياسية الممكنة لها، وذلك من خلال عدة سيناريوهات تتمثل عبر الآتي:
السيناريو الأول: اقتصار الصراع على غزة
في هذا الاحتمال تظل الأعمال العدائية محصورة إلى حد كبير في غزة وإسرائيل، بيد أن فرص تحقيق هذا الخيار تظل مقيدة بعدة عوامل ومحددات يفرضها السياق الراهن للأزمة التي تشهدها غزة.
السيناريو الثاني: الحرب بالوكالة
قد يمتد الصراع إلى الدول المجاورة مثل لبنان وسوريا لاسيّما في حالة توسع القتال بانضمام حزب الله الذي يعد لاعباً قوياً في لبنان إلى الحرب، وإن كان ذلك مرهوناً بحسابات معقدة للحزب في الداخل اللبناني، فقد تبادل إطلاق النار بالفعل مع القوات الإسرائيلية على الحدود، وإذا امتد الصراع إلى لبنان وسوريا؛ يحولها بشكل رئيس إلى حرب بالوكالة وكلما اتسع نطاق الصراع، أصبح تأثيره عالميًا وليس فقط إقليميًا.
السيناريو الثالث: الحرب بين اسرائيل وإيران
وفي هذا السيناريو ينطوي التصعيد إلى تبادل عسكري مباشر بين العدوين الإقليميين اسرائيل وإيران، إذ أن تزايد التوترات بين القوى العظمى من شأنه أن يزيد من المزيج المتقلب فالولايات المتحدة حليف وثيق لإسرائيل، في حين تعمل الصين وروسيا على تعميق العلاقات مع إيران عبر بناء تحالف عسكري، وفي حالة المواجهة بين إسرائيل وإيران من المرجح أن تسعى إيران إلى تفعيل شبكتها الكاملة من الوكلاء والشركاء في سوريا والعراق واليمن، إلا إن الصراع المباشر بين إيران وإسرائيل هو سيناريو منخفض الاحتمال ولكنه خطير ويمكن أن يكون سبباً لركود عالمي.
ختاماً، عكست المعطيات السابقة أن هذه الحرب ادت إلى خلق واقع مأزوما مركباً من التداعيات على كلا الطرفين، وفي جميع الخيارات فإن اسرائيل ستكون امام وضع جديد في صراعها مع فلسطين وفقاً لمعطيات تفرضها عمليات التصعيد الاخيرة.