اعلن السيد مقتدى الصدر قبل مدة وجيزة عن اطلاق تسمية التيار الوطني الشيعي في العراق في توجه واضح ليكون بديلا عن تسمية (التيار الصدري)، ورغم عدم التصريح لغاية الان عن رغبة الصدر في العودة للعملية السياسية، الا ان مؤشرات العودة باتت موجودة وحاضرة، اذ ارسل الصدر عدة رسائل مختلفة حول عودته، من بوابة الانتخابات القادمة، واعتبر اطلاقه هذه التسمية اشعاراً صريحاً بذلك، وبهذه الخطوة يسعى الصدر الى توحيد تياره من جهة، وتوسيعه سياسيا من جهة اخرى داخل النطاق الشيعي؛ ليكون مشروعاً سياسيا موازياً ومنافساً للاطار التنسيقي الشيعي الحاكم.
سبق اطلاق هذه التسمية خطوات عدة اتخذها الصدر بمثابة اجراءات تنشيطية لعودته للساحة السياسية، بعد انسحابه منها في آب ٢٠٢٢، ولم يشترك على اثرها في انتخابات مجالس المحافظات التي اقيمت في ١٨/١٢/٢٠٢٣، بل قاطعها ودعا الى مقاطعتها. ومن هذه الاجراءات والخطوات: قيامه بغربلة اصلاحية للتيار من خلال استبعاد وتجميد وطرد بعض الجهات والشخصيات المتطرفة داخل التيار، ممن يسمون (اصحاب القضية)، ثم تبع ذلك تنظيم حملات عديدة تعد بمثابة تعهدات باتباع النهج الصدري ومنها حملة (بصمة دم)، ثم اعقب ذلك استمرار عمليات الطرد لعناصر في سرايا السلام، وعدد من اتباعه وممثليه في المحافظات ممن ادينوا بتهم مختلفة، ثم ركز الصدر على تفعيل مشروع (البنيان المرصوص) وهو مشروع تكافل اجتماعي داخل التيار اهتم به الصدر بشكل كبير معتبرا اياه من المشاريع الاساسية التي تربط مفاصل التيار بعضها مع البعض الاخر.
ومع اندلاع حرب غزة في ٧/١٠/٢٠٢٣، انخرط الصدر بشكل متزايد ومتفاعل مع الاحداث ونظم تظاهرات داعمة لغزة وعقد صلاة موحدة وحملات تبرع لسكانها، وبدت هذه الخطوات كمؤشرات سياسية واضحة في هذا المجال، خصوصاً مع تراخي قوى الاطار التنسيقي في شعاراتهم بهذا الجانب، خاصة ان اتباعهم كانوا يتهمون الصدر بأنه يحمل مشروعاً غير معادِ لأمريكا والكيان الصهيوني واستخدموا تلك المساجلات بينهم وبين الصدر باختلاف المراحل من اجل اهداف انتخابية بحتة.
واستثمر الصدر واتباعه هذا التحول واطلق في منصات الصدريين اتهامات للخصوم بتقديم تنازلات للولايات المتحدة والكيان الصهيوني وتخاذلهم لدعم غزة واستخدمت مصطلحات معبرة عن ذلك مثل (الاطار الامريكي)، ويفهم من هذا التصعيد عادة بوصفه تنافس سياسي شيعي-شيعي، بكل الاحوال تكون حلبته الانتخابات وتشكيل الحكومة في المرحلة القادمة.
اذ تلعب مسألة التطرف والتصعيد ضد واشنطن وتل ابيب والموقف من ايران، مسار محوري سياسي انتخابي في استقطاب القوى الشعبية والسياسية صوب هذه الجهة او تلك.
من جانب اخر، خرج الصدر بشكل متكرر في جولات عامة وظهر بلقاءات مع انصاره وعقد لقاءات اجتماعية، واعاد الكتلة النيابية الصدرية المستقيلة للواجهة السياسية والاجتماعية قامت بسلسلة من اللقاءات والاتصالات مع أطراف مدنية ونواب، فحواها الاستعداد للعودة السياسية للصدر، فهمت هذه الخطوات بانها استعداد منه للعودة سياسياً، وكان لزيارته مكتب المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني الممتنع منذ اكثر من عشر سنوات استقبال السياسيين العراقيين، مؤشر بارز واثر بالغ في استعادة حيوية الصدر سياسياً، فقد قرأت الزيارة على انها اشعار واستئذان الصدر للسيد السيستاني في العودة للحياة السياسية، خاصة ان اطلاق تسمية التيار الوطني الشيعي، وتفعيل عمل الكتلة النيابية الصدرية المستقيلة، جاءت مباشرة بعد عدة ايام من هذه الزيارة.
وبهذه الخطوات عمل الصدر على توحيد تياره واصلاحه وتوسيع من يرغب بالالتحاق به، لتهيئته للعودة السياسية والاستعداد لهذا الخيار من خلال ضم بعض القوى المستقلة اليه، وتوسيع تحالفاته الشيعية وامكانية حدوث تقارب وانفتاح على بعض القوى السياسية الشيعية التقليدية التي تشعر بالتهميش في الحكومة وتتخوف من نتائج الانتخابات القادمة، اذ تبرز كتلة صادقون على انها الاقرب من رئيس الوزراء وتبنيها طروحات داعمة للحكومة لا تحقق رؤية ومصالح اقطاب اخرى داخل الاطار التنسيقي، مثل دولة القانون بزعامة المالكي وكتلة بدر بزعامة العامري والعقد الوطني بزعامة فالح الفياض، ولا يستعبد ان يحصل تقارب بين هؤلاء، وبين الصدر خاصة مع ترطيب الاجواء وتراجع حدة التوتر اعلامياً بينهم في الوقت الحاضر، وعدم التعقيب بالرفض من التفاهم والتحالف مستقبلاً حينما تطرح هذه الاحتمالات في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، ما يعني امكانية حصول ذلك تحت المسمى الذي طرحه الصدر (التيار الوطني الشيعي) في خطوة تضع مصدات امام التبريرات التي طرحتها قوى الاطار التنسيقي سابقاً امام الصدر حينما اراد المضي بمشروع الاغلبية الوطنية العابرة للطوائف من خلال التحالف الثلاثي مع الحلبوسي والبارزاني.
ومع كل هذه المؤشرات والرسائل الدالة على عودة الصدر الى الواجهة السياسية لا يمكن افتراض انه قرر بالفعل العودة والمشاركة السياسية، رغم وجود ضغوطات داخلية وخارجية شعبية وسياسية باتجاه عودة الصدر، وهو يدرك ان انسحابه شكل ضررا بالغاً في العملية السياسية ولم تعد تخضع للضوابط والتوازنات المطلوبة، الا ان لهذه الخطوة عواقب وتحديات تتمثل في عدم الاتفاق على من سيقود الزعامة الشيعية السياسية القادمة، اذا ما توسع نطاق هذا التيار الجديد او برز تحالف سياسي فيه اقطاب كبيرة وفاعلة، فضلا عن من سيكون المرشح لرئاسة الحكومة القادمة ومن سيتبناه، اضافة الى المواقف الايرانية والامريكية من عودة الصدر وتشكيله هذا التيار الجديد، ومصير الاطار التنسيقي الشيعي وموقف هذين الدولتين منه وكيفية الموازنة بينهما.
ومن المتوقع ان ترحب ايران بعودة الصدر وستحاول اعادة التوازنات معه حتى لو كان ذلك على حساب انصارها في الاطار التنسيقي، لكن ثوابتها ازاء ضمان الاحتفاظ بفصائل ما يسمى (فصائل المقاومة)، سيعد احد المعضلات بين ايران والصدر في اعادة هذا التوازن، اما الولايات المتحدة فعلى الارجح انها ستحافظ على مقاربتها الحالية ازاء الوضع السياسي وقد لا ترحب بعودة الصدر الذي لا يجامل في جانب التعامل البراغماتي معها سياسياً، ومن المتوقع أنها ستتخذ موقفاً أكثر تشدداً في حال نجح الصدر في تشكيل تحالف سياسي حكومي بعد الانتخابات المقبلة، لكنها ستدعم جهود التهدئة عموماً في النهاية، لخلق وضعٌ يسمح لها بفرض اشتراطات على الحكومة العراقية، وهذا ما يرفضه الصدر، ويعزز احتمال اعراض الصدر عن المشهد السياسي خاصة في حال لم تكن الحسابات والرؤية الصدرية حول النتائج والتحالفات وطريقة الحكم قد حققت الحدود المقبولة من اهدافها المطلوبة عملياً.
ومع كل ذلك فأن الهامش لا يزال متوفراً لعودة الصدر للساحة السياسية، لان هامش الانسحاب والمعارضة الشعبية والعودة الى ما كان اليه الوضع خيار يملكه الصدر ويستخدمه بشكل مستمر.