تتصاعد وتيرة الهجمات الجوية الاسرائيلية على قطاع غزة تزامنا مع حصار شامل استنزف قطاع الوقود والكهرباء والغذاء والماء في مشهد يتجاوز كل معايير حقوق الانسان وقواعد الاشتباك في اي حرب تقليدية. بالمقابل تواصل حماس وباقي الفصائل الفلسطينية اطلاق صواريخ على الاراضي المحتلة ودخل حزب الله بشكل محدود في هذه الحرب في موقف الرد على استهداف الجنوب اللبناني في شبعا ومناطق حدودية اخرى.
ومن المحتمل اتساع دائرة الحرب في لبنان اذ يحاول نتنياهو جر حزب الله للحرب لتكون مدعاة لتنفيذ هجوم بري شامل على لبنان والحزب، يشرعن ويمهد لاقتحام قطاع غزة، التي يتردد من خوضها في الوقت الحالي بسبب الرهائن المحتجزين لدى حماس وضغوطات الداخل من حيث التكلفة والرفض الاجتماعي للتجنيد والممانعة الدولية والاقليمية، مع تصاعد احتمالات الاقتحام بعد قطع الاتصالات والانترنيت بشكل تام في غزة، وتزايد قصف كتائب القسام على تل ابيب وتصاعد هجمات حزب الله كذلك، في حين أعلن الجيش الإسرائيلي الجمعة ١٠/٢٧، عن توغل بري محدود في قطاع غزة تحت حماية مروحيات عسكرية وطائرات مسيرة، وهذا مؤشر حقيقي لعدم استبعاد توسع عمليات الاقتحام البري الشامل، لكن لهذا الخيار ثمن قد تدفعه اسرائيل قد ينتج عنه وقوع تحولات ديمغرافية غير مسبوقة، كما قد يحدث هجرة واسعة من الإسرائيليين للخارج، وحالة عجز عن هزيمة حماس والقضاء على بنيتها العسكرية، وتكبد خسائر فادحة.
في ضوء ذلك تتقاطع المواقف الاقليمية من الحرب على غزة، ولنبدأ بالمواقف الدولية، فالموقف الامريكي يذهب باتجاه دعم اسرائيل لوجستياً وعسكرياً واستخبارياً اضافة الى دعم مفتوح بكل المجالات مع بحث فرص تسوية وتهدئة وايقاف الحرب والعودة الى المفاوضات من خلال مجلس الامن وتم طرح اكثر من مشروع قرار حول ذلك وتم رفض اخرها الاربعاء ٢٥/١٠/٢٠٢٣، مع ذلك هنالك فتور امريكي ازاء دعم اسرائيل حاليا على خلاف الايام الاولى من الحرب، فالرسالة التي اوصلها بلينكن في جولاته العربية كانت واضحة وحازمة، وهي أنه لا يمكن السماح لإسرائيل بالاستمرار في حملة إبادة وتهجير سكان غزة.
اما الموقف الفرنسي مثله الرئيس ايمانويل ماكرون بالدعوة الى تشكيل تحالف دولي ضد منظمة حماس وهو خيار عسكري بحت يطرح جانب تصعيدي فيه ضغط مباشر على القطاع ودعم مفتوح للكيان الصهيوني، مع انه طرح مؤخرا تشكيل تحالف انساني لإغاثة المدنيين في قطاع غزة بعد عدم التجاوب مع طرحه العسكري.
في المقابل الموقف الاوربي المتمثل بالاتحاد الاوربي الذي يبحث عن موقف متوازن في بروكسل يطرح حلا سلميا يتمثل بوقف العمليات ضد القطاع والسماح بإدخال المساعدات الانسانية لغزة عبر معبر رفح مع ادانة بالإجماع لعملية طوفان الاقصى، وتقود المانيا هذه الجهود من خلال المستشار الالماني اولاف شولتز، رغم ان المانيا لديها مقاربة فردية وتريد ان تضع مسارات الحل عبر البعد الاقليمي (مصر- الاردن).
اما المملكة المتحدة فهي تتماهى بالموقف مع الولايات المتحدة وتواجه احراجا خاصة حزب العمال الذي انتقدته الجاليات الاسلامية في المملكة.
روسيا ورغم علاقاتها الدافئة مع نتنياهو خاصة بعد موقف اسرائيل من الحرب ضد اوكرانيا فلم تُدِن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والتقى بوتين ونتنياهو مرات عديدة. كما انها لم تنساق للرغبات الامريكية والاوربية بتسليح اوكرانيا ونأت بنفسها عن العقوبات الغربية ضد روسيا، الا ان بوتين ادان بقوة الحرب الاسرائيلية ضد غزة وشبه الحصار الإسرائيلي لغزة بالحصار النازي للينينغراد، ما اعتبره الكيان موقفا معاديا للسامية، الموقف الروسي، اعتبر هذه الحرب هبة من السماء وقدمت خدمة كبيرة في تحويل انظار العالم عن حربها ضد اوكرانيا وشغلت العالم الغربي المضاد لمصالحها عنها واعطتها مبررات في الاستمرار فيها كما اعطتها مساحة للمقارنة في دعم الغرب لاسرائيل وانتهاكاتها وصورته بالتغاضي عن ما يحصل والظهور بمظهر الكيل بمكيالين، فضلا عن التداعيات الاقتصادية المترتبة لصالح روسيا في هذا المضمار المتولد من الحرب على صعيد الغاز واسعار النفط، مع ذلك قدمت روسيا اكثر من مشروع قرار في مجلس الامن لإنهاء الهجوم الاسرائيلي على غزة والذهاب الى مسار التهدئة والسلام، وتعرضت هذه المواقف للفيتو الامريكي.
الصين موقفها حيادي برتوكولي لم تطرح اي مبادرة او قرار فقط تصريحات وبيانات داعية للسلام وايقاف الحرب مع دعمها للحقوق الفلسطينية في موقف لا يرقى لدولة كبرى صاعدة ومؤثرة في النظام الدولي والاقليمي، خاصة ان استمرار هذه الحرب او تزايد رقعتها يضر بالمصالح الاقتصادية الخارجية للصين.
اما المواقف الاقليمية فيبدو ان العالم اكثر اهتماما بالحرب من جيران غزة، اذا ما استثنينا ايران والعراق، فالموقف العربي لم يرقى للمستوى المطلوب واصبحت القضية الفلسطينية قضية ثانوية بسبب مسارات التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وبالتالي لا مؤشر او موقف اقليمي عربي اسلامي قوي قادر على تبني مبادرة ضاغطة لإيقاف الحرب ضد غزة، كانت مصر مدخلا اساسيا للمفاوضات والتهدئة الان شهدت مواقفها تراجعا ملحوظا حتى على مستوى الخطاب القومي العربي، لم تطرح اي مبادرة ولم تتحرك ازاء فتح معبر رفح، وهذا ناشئ من مصالحها وتقاربها مع اسرائيل ومخاوف من حركة حماس ومستقبل القضية الفلسطينية حينما طرح دوليا ان تكون سيناء وطناً بديلا للفلسطينيين اضافة الى مخاوف امنية اخرى.
اما الاردن رغم ان شعبها متعاطف مع غزة وشهدت المملكة احتجاجات واسعة داعمة لفلسطين شاجبة للقصف الاسرائيلي، الا ان قيادتها السياسية الحاكمة خاضعة خضوعاً مطلقاً للكيان الصهيوني كما هو معروف وهي اشبه بمستوطنة يهودية صهيونية مرتبط استقرارها وبقاء ملكها وعائلتها بالسلطة بالدعم المفتوح لاسرائيل.
دول الخليج ذهبت للتطبيع (الامارات، البحرين، والان السعودية) قطر تمتلك خطوط تواصل مباشرة مع الاسرائيليين وايضا علاقات رسمية، رغم ان الموقف القطري داعم بذات الوقت لحركة حماس وتمثل مظلة اساسية للنهج السياسي لها وفتحت لها مكاتب وممثليات في الدوحة ووظفت لها قناة الجزيرة بشكل كامل خلال هذه الحرب، في موقف متناقض وغير واضح من الطرفين ويبدو انه بضوء اخضر اسرائيلي امريكي.
في حين تنأى الكويت وعُمان بنفسهما عن هذه الحرب وهذا الصراع ولا تتعدى مواقفها اكثر من الادانات والتحفظات غير الحاسمة، دول المغرب العربي كذلك رغم موقف تونس بعد وصول قيس سعيد للسلطة اصبح لجانب القضية الفلسطينية لكنها لا تمتلك اي تأثير جيوسياسي في المنطقة ممكن ان يستخدم في التأثير على القضايا الاقليمية والدولية، في حين ان المغرب رتبت علاقاتها مع اسرائيل ولم تصدر اي موقف مضاد لها او داعم لغزة لا في السلوك ولا في الممارسة ولا في الخطاب، وهذا الحال ايضا ينسحب على الجزائر، رغم انها طرحت خطة لوقف اطلاق النار وايجاد طريق للتفاوض والسلام لكنه رفض من قبل الدول الخمسة الاعضاء الدائميين في مجلس الامن.
اما تركيا فقد تريثت وتأخرت بالتصريح عن موقفها الداعم لغزة والمندد بالقصف الاسرائيلي في مشهد مغاير لموقفها عام ٢٠٠٩ حينما ارسلت سفينة مرمرة حملت مساعدات لغزة اعترضها الكيان الصهيوني بالاستهداف وشكل ذلك ازمة دبلوماسية بين الطرفين، ويبدو ان الفتور التركي كان بسبب اللقاء الاخير في نيويورك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بين اردوغان ونتنياهو، حيث يسعى اردوغان إلى تقليص الخسائر، واستعادة العلاقات مع دول المنطقة من دون شعارات ومزايدات، بما في ذلك إسرائيل، فاردوغان يريد إنشاء علاقة وطيدة مع نتنياهو وتحالفه اليميني، من أجل تأمين موافقة إسرائيلية على السماح لتركيا بلعب دور مهم في نقل غاز شرق المتوسط عبر أراضيها، وتشمل قضية حرب غزة في هذا الوقت خسارة لاردوغان لكنها خسارة مرغوب فيها.
اما ايران فهي الداعم الاساس لحماس والراعي الاول لعملية طوفان الاقصى رغم انها لم تعلن ذلك، لكن مواقفها معلنة بدعم المقاومة الفلسطينية والتصعيد ضد الكيان الصهيوني، ورغم كل ذلك لا زلت الولايات المتحدة وحتى اسرائيل تتفادى رسميا الاعتراف بتورط إيران بذلك، لكن في الحقيقة ايران في الوقت الحاضر تسعى إلى تفجير الوضع الإقليمي بأكمله لإنهاء التوجه المتزايد والمتسارع نحو التطبيع العربي بين إسرائيل وجيرانها العرب ودول إسلامية أخرى، أو على أقل التقديرات تجميد هذا المسار وإيقافه ولو مرحلياً، واستخدام المكاسب المتحصلة من هذه الحرب لتقوية وضعها في النظام الاقليمي والدولي واعتبارها ورقة واحدة من الاوراق التي تمتلكها في التأثير على الاستقرار العالمي.
يبقى الموقف العراقي شعبيا داعما بشكل مطلق للقضية الفلسطينية ومتعاطف معها ومندد بالقصف الصهيوني لغزة، اما على الصعيد السياسي الرسمي لم يؤشر وجود دعم سياسي مطلق يتوافق مع المواقف الشعبية التي مثلتها الاحتجاجات الداعمة لفلسطين والمنددة بالمجازر ضد قطاع غزة ويبدو ان هنالك اعتبارات سياسية واقليمية ودولية مانعة لتبني مواقف اكثر قوة وحسم في هذا الجانب، رغم الكلمة الايجابية التي طرحها رئيس الحكومة في اجتماع القاهرة حول غزة لكنها لم تترجم لمواقف وبيانات رسمية لغاية الان.
في الحقيقة يمتلك العراق قدرة على طرح حلول لمسارات الحرب القائمة لما له من علاقات مباشرة مع ايران والولايات والمتحدة وهكذا قطر والاخيرة لديها علاقات متطورة مع حماس فبالإمكان ان يؤديا دورا محوريا في حلحلة هذه الازمة عن طريق المحادثات وزيادة الضغط الاقليمي والدولي لوقف العنف المفرط ضد قطاع غزة.
ان تداعيات هذه الحرب وخيمة على النطاق الاقليمي والنظام الدولي انسانيا وعسكريا خاصة اذا ما اتسعت رقعتها وطالت امدها، نظرة إلى هذه المواقف المتعارضة والمتباينة والمتغيرة والمعايير المزدوجة حسب معطيات المصالح ومسارات الصراع والتنافس بين الدول العظمى والكبرى سواء داخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن او في المحافل الاخرى تؤشر إلى مرحلة صعبة من مراحل عرقلة التعاون الدولي وسيادة مشهد الصراع والتوتر في العلاقات الدولية، لأن النزاع الحالي لا يتعلق بحقوق الانسان او دفاع عن طرف والتنديد بطرف اخر انما هو انعكاس لصراع قائم على كيفية تشكيل نظام عالمي جديد، وتهديد جدي للنظام القائم، قد يفرض على الدول الصغيرة الانحناء للعاصفة.