عقد البرلمان العراقي يوم الاربعاء ٣٠ آذار جلسة اخرى لانتخاب رئيسا للجمهورية، وأرجئت الجلسة بسبب تعطيل النصاب، في تجاوز واضح للمهلة المحددة دستورياً لانتخاب الرئيس، وحتى كتابة هذه السطور، ما من شيء يشير إلى أن مصير الجلسات القادمة سوف يكون مختلفاً عن سابقاتها، وإذا بقي تعطيل النصاب هو اللازمة، فإن الشلل السياسي والانسداد على مستوى العملية السياسية آتٍ لا محال، وقد يفتح الباب أمام تعطيل المؤسسات وآليات الحكم كافة.

ولا بد هنا من التوقف عند الملاحظات الآتية:

أولاً: إن فريق الاطار التنسيقي الذي يلجأ إلى سلاح تعطيل الجلسات يحاول قطع الطريق أمام وصول أي مرشح لا يحظى بموافقته، وذلك تحت عنوان (الشراكة والتوافق). هكذا سيتحول الثلث النيابي إلى أقلية فاعلة تقوم مقام الأكثرية الفعلية، بمعنى أن الإمساك بثلث المجلس المعطل للنصاب يمنحها حق الفيتو على أي موضوع أو بند سجالي يستوجب نصاب الثلثين على مستوى الانعقاد او التشريع، او اي قرار سياسي وحكومي جوهري إلى حين التوافق عليه، وفي الواقع أن استمرار تكريس مبدأ الثلث المعطل على المستوى النيابي، سيمنحه قدرة تعطيلية على اغلب القرارات الهامة، التي لا تحظى بموافقته.

ثانياً: العنوان الآخر لتعطيل الجلسات والذي يرفعه الاطار التنسيقي والقوى الاخرى هو أنه يرفض مرشح التحالف الثلاثي المعلن (ريبير بارزاني) بحجة أن هذا الأخير مرشح استفزازي، ومن المفارقة بمكان أن الفريق المعطل للجلسات يرفض إلى الآن المرشحين المعلنين، وهو ليس لديه مرشح معلن لرئاسة الجمهورية. طبعاً يفسر هذا الموقف التقارب بين الاطار وحزب الاتحاد الوطني، لكن اصرار الاطار على التعطيل ليس دعما للتحالف مع حزب الاتحاد الوطني، انما خشية من مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي اذا ما مرر سيكلف دون ادنى شك مرشح الكتلة الصدرية لرئاسة الوزراء الذي يحتاج الى نصف + واحد لنيل ثقة كابينته الوزارية، ما يعني استبعاد الاطار من هذه الكابينة، وحتى ان لم يستبعدوا، فان مجرد انتصار ارادة التحالف الثلاثي في تسمية الرئاسات الثلاث يشكل انتكاسة وضربة قوية للاطار التنسيقي ولقادته وجماهيره.

ولهذا يصر الاطار على أن يكون الرئيس توافقياً. وتدور هنا تساؤلات: ماهو السيناريو الذي يجب التحضير له لتلافي الشلل والانسداد، إذا لم يتم التوافق على مرشح توافقي لرئاسة الجمهورية؟، هل يستمر التعطيل ويصبح سيد الموقف؟ وفي هذه الحال ما هي تداعياته؟.

الانسداد على المستوى الرئاسي سوف يضيف على أزمات البلد أزمة أخرى دستورية هذه المرة، قد تقود إلى شلل المؤسسات كافة، والبرلمان في هذه الحال سيتحول إلى هيئة عاجزة، بمعنى آخر لا يستطيع التشريع أو اداء أي عمل آخر مثل مراقبة الحكومة أو مناقشة السياسات، بسبب اعتراض الثلث المعطل على دستورية هذه الاجراءات بدعوى عدم شرعية الحكومة الحالية وانتهاء ولايتها وولاية رئيس الجمهورية، لانهم يصرون على أن هذا الأمر مناف للتوافق والشراكة في ادارة البلد ناهيك عن تداعيات هذا الوضع امنيا. وهذا الحال قد يفتح الباب أمام أزمة سياسية تترجم بمقاطعة النواب المستقلين وانضمام كتل اخرى للثلث المعطل لجلسات مجلس النواب، مع ما يستتبع ذلك من مزايدات وارتفاع في وتيرة الخطاب الطائفي وتوتير الاوضاع.

قد يُدخل شبح تعطيل الاستحقاق الرئاسي، البلد في دوامة تزيد من عمق أزمته في وقت يحاول لملمة أنفاسه، فلم يخرج بعد من ازمة الاحتجاجات والانتخابات المبكرة فضلا عن ازمات وباء كورونا، وازمة الخدمات والمطالب الشعبية، واستمرار التحديات من هشاشة الوضع الأمني المتمثلة بانتهاك سيادة البلد بشكل مستمر التي فاقت كل تصور، إلى تدهور الوضع الاقتصادي بسبب ارتفاع الاسعار للمواد الغذائية والسلع كافة نتيجة رفع سعر الصرف وتداعيات الحرب الروسية الاوكرانية، وآخر ما يحتاجه العراق، هو الدخول في الانسداد وشلل مؤسساته.

الحل إذا كانت هنالك رغبة في الخروج من الليل الطويل، يكمن باستفاقة قادة البلد والعودة إلى منطق التوافق الحقيقي، ليس القائم على اساس توزيع المناصب والنفوذ وتقاسم السلطة، بل التوافق الذي يقوم على احترام المؤسسات وبناء دولة يحكمها الدستور والقانون من أجل حسم الخلافات، وعدم العودة الى نقطة اللاعودة الخطرة.

تشكيل حكومة اغلبية مقابل معارضة برلمانية يمثل احد الخيارات السياسية للعراق للخروج التدريجي من ازماته المتلاحقة، ويعد فرصة لتجريب نمط سياسي جديد قد يعول عليه في تحقيق شيء يذكر افضل من السابق، اما العودة الى التوافقية والشراكة على اساس المحاصصة الطائفية والحزبية وهي الآن متأصلة في الروح الجماعية والسلوك السياسي للأسف، فيعني لاشيء جديد، الا تكرار التجارب المريرة والفاشلة التي ادخلت البلد في ازمة مشروعية شعبية ناقمة قد تتفاقم وتستغل خارجيا وداخليا لإحراق ما تبقى من رمق في النظام السياسي الحالي، فالتوافقية يجب أن تتضمن شروطاً معينة كي تعمل بطريقة مستدامة، وتتمثل بوجود بيئة إقليمية مستقرة ومسالمة، فضلاً عن نمو اقتصادي وآليات إعادة توزيع تتمتع بالكفاءة، تضمن التوازن الاجتماعي والاقتصادي بين مختلف فئات البلد، وهذا غير حاصل حاليا في العراق، وبالتالي سيكون البلد محكوم بصورة دائمة بسياق التخبط من أزمة إلى أخرى، طالما أنه مبتلى بنظام يُسبب الاستياء في الداخل، ويستدعي التدخل الدائم من الخارج.

جرت العادة في العراق ولغاية الان أن تأتي أيادي من الخارج لتتدخل في اللحظة الأخيرة وتضع الحلول التي تتوافق مع مصالح هذه الايادي، لكن هذه المرة، قد لا تأتي تلك الأيادي أو تأتي متأخرة، فهي مشغولة بأزمات أخرى وهي كثيرة، ايران منشغلة بالاتفاق النووي مع الغرب، وسوريا واليمن الحرب مستمرة فيها، ولبنان يحتضر، وعوائق تسويق التطبيع الخليجي الاسرائيلي، والحرب الروسية الاوكرانية، والولايات المتحدة بدأت تفكر بمصالحها خارج منطقة الشرق الاوسط وتدير الازمات من بعيد وعبر الوكلاء،  لكل ذلك تداعياته وسياقاته الاقليمية والعالمية، وقد لا يكون العراق على رأس أولويات هذه الايادي الخارجية للمحافظة على تماسك النظام السياسي العراقي.

امام قادة العراق خيارات محدودة لتجاوز تبعات التعطيل والشلل والتراجع السياسي:

فإما الذهاب الى صيغة سياسية جديدة في ادارة الدولة بعيدة عن منطق التوافق والمحاصصة وتقاسم السلطة، او التفاوض على نظام جديد للحكم، او ينشدوا قادته العزاء على البلد، والذهاب الى الفوضى والبقاء كدولة فاشلة بكل المعايير.

...........................................

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2022 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات