على اسس تعكس متغيرات نسبية ومحدودة داخل المكونات الثلاثة الرئيسة، فقد شهدت هذه المكونات خلال الاشهر الماضية صراعات داخلية وحراكاً سياسيا محتدما بين احزابها، مهد بحذر لإعادة ضبط التوقعات وتقليص احتمال المفاجآت، في ضوء التطورات الاقليمية والدولية الجارية.
وتهدف القوى السياسية التقليدية المشاركة في العملية الانتخابية الى تجديد شرعيتها السياسية الشكلية والحفاظ على الحد الادنى من الممارسة الديمقراطية امام الرأي العام الداخلي والمجتمع الدولي، مع استمرار العمل بآليات المحاصصة والتوافق السياسي التي شكلت جوهر التجربة السياسية العراقية بعد عام ٢٠٠٣. كما تمثل الانتخابات وسيلة لحماية هذه القوى من دعوات الاصلاح والتغيير الجذري من خلال صناديق الاقتراع.
اولا/ مقدمات اعادة ضبط الصراع الانتخابي
عملت القوى السياسية التقليدية بعد تزايد الضغوطات الشعبية عليها في الانتخابات المبكرة السابقة على ضبط حدود الصراع، بعد انسحاب التيار الصدري، اذ عمدت بشكل عاجل مطلع عام ٢٠٢٣ على تعديل قانون الانتخابات والعودة الى اعتماد آلية النظام الانتخابي وفقاً لقاعدة “سانت ليغو” المعدل الذي قلص عدد الدوائر الانتخابية، واعادة احتساب الاصوات والمقاعد وفق آلية التمثيل النسبي، في خطوة تهدف إلى الحفاظ على توازن هذه القوى داخل العملية السياسية في ظل غياب التيار الصدري، وتقليل هامش المتغيرات غير المتوقعة.
فالقانون السابق لعام ٢٠٢١، الذي اعتمد نظام الفائز الاعلى اصواتاً والدوائر المتعددة، اتاح صعود كبير لعدد مقاعد التيار الصدري (٧٣ مقعد) وللمستقلين والاحزاب المدنية (نحو ٦٠ مقعد)، ما ادى الى تراجع واضح للاحزاب التقليدية، هذه التجربة شكلت معيارا لاعادة تصميم القانون الحالي الذي يُحد من المفاجآت ويُعيد التوازن إلى الاحزاب الكبيرة التقليدية.
بعدها انتهجت هذه القوى لضبط الصراع من خلال الضغط باتجاه اصدار قرارات الاستبعاد من الترشح والتي شملت مئات المرشحين لاسباب تتعلق بالاجتثاث او القيود الجنائية او “حسن السيرة والسلوك”، وهي الية جديدة غير متبعة سابقاً، يستبعد من خلالها اي مرشح يصرح بأدنى كلمة نقد او تصريح او تعبير عن رأي مخالف لها، مع ذلك فأن اثر هذا النهج فعلياً محدود التأثير في الخريطة السياسية، لكنه يعكس رغبة القوى التقليدية في ضبط المشهد الانتخابي لصالحها، اكثر من رغبتها في اقصاء مرشحين فاعلين مؤثرين.
ومن العلامات الفارقة في هذه الانتخابات، الانفاق المالي للاحزاب بشكل فاق حد الخيال، وبشكل مبالغ في حملاتها الانتخابية، وسط اتهامات متبادلة بالفساد واستغلال موارد الدولة، وعودة استخدام الخطاب الطائفي والعرقي والتخوف من عودة البعثيين.
كما سجلت هذه الانتخابات دخول واسع لرجال الاعمال والاموال المرتبطين بالاقتصادات الحزبية، وشيوخ العشائر ومشاهير التواصل الاجتماعي ومشاركة مباشرة وصريحة للفصائل المسلحة التي تواجه ضغوط مالية وامنية امريكية، في مؤشر على تحول دورها من العمل خلف الاحزاب الى خوض التنافس السياسي المباشر، ما يؤشر ان النتائج والمخرجات ستكون حاسمة في العودة الى ممارسات العمل السياسي البعيد عن المصلحة العامة للمواطن، والمتصالح مع المصالح الفئوية والحزبية والعائلية.
ثانياً/ النتائج المتوقعة
١- القوى السياسية الشيعية:
من المتوقع ان تحصل القوى السياسية الشيعية المتمثلة بقوى الاطار التنسيقي اجمالاً بما يقارب (١١٠) مقعد، اما كتلة رئيس الوزراء وهي كتلة ليست شيعية بامتياز لكن ممكن توصيفها كذلك ومن المتوقع ان تحصل على (٤٥) مقعد او اكثر بقليل، ما يشكل تحدياً وضغطاً لقوى الاطار التنسيقي في قدرته على تشكيل الحكومة القادمة بأريحية، لكن يبقى لديه قدرة في استقطاب نواب ائتلاف الاعمار والتنمية، اذ تفتقر هذه الكتلة الى هوية سياسية موحدة، فقد ضمت شخصيات متباينة اجتمعت على اساس الدعم الحكومي، لا على مشروع سياسي متماسك، وهذا يؤشر ضعف بقاء السوداني رئيساً للوزراء لولاية ثانية، والاخير يدرك ان آماله في الفوز بولاية ثانية مع اقتراب موعد الانتخابات قد تراجعت. فقد اثار اداءه الحكومي ونشاطه الحزبي والسياسي وميله إلى توسيع نفوذه، قلق شركائه في الاطار التنسيقي الذين اعتبروا سلوكه تهديداً لتوازنهم الداخلي،
ولذلك من المؤكد ان تتفق قوى الإطار على معايير ثلاثة لما بعد الانتخابات:
أ- الحفاظ على أوزان قوى الاطار التنسيقي الحالية كمجموعة شيعية كبرى بغياب التيار الصدري.
ب- اختيار رئيس وزراء توافقي من خارج الاطار سياسياً لا يمتلك طموحا سياسياً طويل الأمد.
ج- ادارة العلاقات الاقليمية والدولية مباشرة دون وساطة رئيس الحكومة.
وبحسب التقديرات والنتائج السابقة لانتخابات مجالس المحافظات وثقل ووزن المرشحين، فإن الاطار يسعى الى نيل (١١٠) تقريباً منها (٣٥) لدولة القانون، (٢٠) لصادقون، (١٦) لمنظمة بدر، ونحو (١٥) لتحالف قوى الدولة، وتحالف خدمات (١١)، وابشر ياعراق (٧) مقاعد، والبقية لكتل أصغر.
اما ائتلاف السوداني فقد تحصد قائمته (٤٥-٥٠) مقعد، الى جانب (٢٠) مقعد لحلفاء محتملين، وهو رقم لا يكفي لتأمين ولاية ثانية الا في حال تمكنه من تفكيك الاطار التنسيقي وضم بعض مكوناته الى تحالفه وهذا مستعبد لان الاطار اكثر تماسكاً من كتلته كما ذكرنا.
السيناريو المرجح، هو تفاهم بين الاطار والسوداني لتشكيل الحكومة المقبلة مع استبعاده شخصياً من رئاستها، وفي هذا السياق من المحتمل جداً ان يبرز دور رئيس مجلس القضاء الاعلى فائق زيدان كاسم توافقي محتمل لرئاسة الحكومة، أو كوسيط أساسي لترجيح أحد المرشحين من الناحية القانونية والدستورية، ولهذا يضع السوداني خطة بديلة، اذ انه يعمل على هذا السيناريو ليحصل على وزارات مهمة كشريك سياسي، بدل ان يوضع في نطاق المعارضة والخروج على الاغلبية الشيعية.
٢- القوى السياسية السُنية:
لا يخفى على احد ان الساحة السنية السياسية والانتخابية ستشهد صعود الحلبوسي مجدداً وبقاء حزب تقدم متقدم سُنياً، فرغم الانفاق المالي والاعلامي الكبير الذي يقوم به حزب السيادة بزعامة خميس الخنجر وحليفه في حزب التشريع زياد الجنابي وتقاربه مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فإن محمد الحلبوسي تمكن خلال المدة الماضية من استعادة زمام الوضع السياسي السني والعودة مجددا للواجهة بعد عزله من رئاسة البرلمان.
جاء هذا التحول نتيجة تراجع الدعم الشيعي للسوداني وتبدل موازين التحالفات داخل الإطار التنسيقي الذي تحالفت اطراف منه مع الحلبوسي، وسعوا جاهدين في اعادته وتبديد اشكالياته القضائية، مما اضعف حزب خميس الخنجر الذي استُبعد من الترشح وتعرض حزبه لانقسامات وتصدعات.
ومع بروز تحالفَي عزم بزعامة مثنى السامرائي والحسم بزعامة وزير الدفاع ثابت العباسي، اعاد الحلبوسي توطيد موقعه من خلال تحالف تقدم الذي حقق نتائج قوية في انتخابات مجالس المحافظات ٢٠٢٣. وتشير التقديرات الى حصوله بحدود (٣٤) مقعد مقابل (١٤) للسيادة، و(١٣) للعزم، و(٨) للحسم، ما يؤشر زيادة المقاعد السُنية بسبب مقاطعة التيار الصدري.
غير ان تفوق الحلبوسي الانتخابي لا يعني بالضرورة حصوله على رئاسة البرلمان المقبلة، اذ قد يتجه منافسيه السُنة إلى تشكيل تكتل سُني موازي، وهو سيناريو تفضله القوى الشيعية حفاظاً على توازن سياسي مسيطر عليه داخل البرلمان. لذلك، قد تشهد المرحلة المقبلة طرح اسماء توافقية لرئاسة مجلس النواب مثل محمد تميم، في حال دعم الاطار التنسيقي له، وزياد الجنابي في حال دعم السوداني له في حال بقاءه خارج سياق الاطار التنسيقي.
٣- القوى السياسية الكُردية:
تتنافس القوى الكُردية على نحو ٦٠ مقعد برلماني تتركز بين الحزبين الرئيسين: الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني في أربيل ودهوك، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة ابناء جلال طالباني في السليمانية وكركوك.
ورغم بروز قوى معارضة وقوى جديدة في الانتخابات السابقة مثل حركة گوران، التغيير وحراك الجيل الجديد والاحزاب الإسلامية، لكن نفوذها تراجع بشكل ملحوظ، خصوصاً بعد الازمات القانونية والسياسية التي طالت قياداتها (مثل اعتقال شاسوار عبد الواحد ولاهور شيخ جنكي)، وقبلها تعقيدات تشكيل حكومة اقليم كردستان وتعطل انعقاد جلسات البرلمان بعد انتخابات برلمانية اجريت داخل الاقليم في ٢٠/١٠/٢٠٢٤ الماضي، الذي حققت فيه بعض المقاعد.
تشير المعطيات الى احتمال عودة التوازن التقليدي بين الحزبين الرئيسين بحصول كل منهما بحدود (٢٢) مقعد لحزب الاتحاد الكردستاني (٣٣) مقعد للحزب الديمقراطي الكردستاني، و(٨) مقاعد للقوى الاخرى، ما قد يدفع باتجاه تسوية سياسية في الجانب الاتحادي بما ينعكس على تشكيل حكومة إقليم كردستان المعلقة منذ اكثر من عام، وتسوية المناصب العليا بين الطرفين في بغداد والاقليم، وخصوصاً منصب رئاسة الجمهورية، ورئاسة حكومة الاقليم وبرلمانه.
ورغم ضغوط القوى الشيعية في بغداد لحسم هذا المنصب او التنازل عنه للسنة وهو احتمال ضعيف، فان التوصل الى اتفاق كردي موحد ما زال غير مؤكد بهذا الشأن، ويُرجح ان يطرح الحزب الديمقراطي الكردستاني صفقة تمنح الاتحاد الوطني رئاسة الاقليم او الحكومة، مقابل التخلي عن رئاسة الجمهورية، وهو مقترح يواجه رفضاً مبدئياً من السليمانية، لكن قد يضطرون التنازل عن كلاهما والقبول بمنصب رئاسة البرلمان ووزارات هامشية في الاقليم، مقابل الحصول على منصب رئاسة الجمهورية.
هذه النتائج تعكس نتيجة: ان اعادة رسم الخريطة السياسية لا يحمل في طياته اي مفاجآت او تحولات مفصلية، بقدر ما ستؤول اليه المخرجات الانتخابية على اعادة تموضع منظومة القوى السياسية التقليدية من جديد، واعادة المشهد السياسي السابق لعام ٢٠١٨، والذي سيعمل على منع التغيير الجذري لا الى تحقيقه، واعادة تثبيت موازين القوى القديمة بين المكونات الثلاثة الرئيسة.
مع مفارقة ايجابية محدودة، وهو تراجع تأثير المعادلات الاقليمية والدولية المباشرة في توجيه المشهد الانتخابي، لكن يبقى التأثير غير المباشر حاضراً في مرحلة ما بعد الانتخابات خاصة في توزيع الأدوار والمواقع، لكن هذه المرة ستسعى القوى الخارجية الى دعم حكومة عراقية مستقرة سياسيا واقتصاديا عكس المراحل السابقة، وهذا متغير ممكن ان يستثمر في تقديم شيء يذكر للمواطن بدل الانغماس في تحقيق المصالح الجهوية.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!