أزمة البنية التمثيلية في العراق.. البرلمان بين غياب الأحزاب وفوضى المجتمع

أزمة البنية التمثيلية في العراق.. البرلمان بين غياب الأحزاب وفوضى المجتمع
منذ تأسيس النظام السياسي العراقي الجديد بعد سقوط النظام السابق سنة 2003، شكّل البرلمان الركن الأساس في البنية الدستورية للدولة الديمقراطية، بوصفه السلطة التشريعية والرقابية التي تعبّر عن الإرادة الشعبية..

غير أن هذه المؤسسة، بعد عقدين من التجربة، باتت تُعاني من ضعفٍ بنيويٍ عميق جعلها أقرب إلى سلطة شكلية تؤدي وظائفها الإجرائية دون امتلاك وزنٍ سياسيٍ فعلي في صناعة القرار الوطني.

تكشف التجربة العراقية أنّ الأزمة لم تعد مرتبطة بالأفراد أو بالأداء الإداري فحسب، بل تتصل بطبيعة النظام السياسي الذي وُلد من رحم المحاصصة الطائفية، وبفشل الأحزاب في أن تكون وسيطًا حقيقيًا بين الدولة والمجتمع، وهكذا أصبح البرلمان انعكاسًا لأزمة أعمق وهي أزمة التمثيل السياسي وانهيار الوسيط الحزبي.

 

من نخبة المعارضة إلى بيروقراطية الحكم

شهدت الدورتان الأولى والثانية (2005–2014) حضور نخبة سياسية خرجت من صفوف المعارضة للنظام الساب، وكانت تمتلك خبرة سياسية وفكرية ومشاريع وطنية متباينة، تلك النخبة أسست لتقاليد سياسية أولية في النقاش والتشريع رغم محدودية الظروف، وكانت ترى في البرلمان منبرًا للصراع السياسي السلمي، لكنّ هذه النخبة تراجعت تدريجيًا حين انتقلت إلى مواقع القيادة في السلطة التنفيذية والأحزاب الحاكمة، لتحلّ محلها طبقة جديدة من النواب يفتقر أغلبهم إلى الخلفية السياسية والتنظيمية، تحوّل البرلمان من ساحةٍ للجدل السياسي إلى فضاءٍ إداري خاضع لإرادة الكتل، وفقد تدريجيًا وعيه المؤسسي بوظيفته كسلطة مستقلة، ليغدو أداة تنفيذية ضمن بنية الزعامات.

 

انهيار الكفاءة الحزبية وصعود الشعبوية

فشلت الأحزاب العراقية في أداء دورها الطبيعي بوصفها مؤسساتٍ تؤطّر المجتمع وتنتج النخب، فقد بقيت بنيتها قائمة على الولاءات الشخصية والمذهبية، لا على التنظيم والفكر، ومع تصاعد النقمة الشعبية تحوّلت إلى كيانات منبوذة اجتماعيًا، ولتجاوز هذه المنبوذية، لجأت الأحزاب إلى استعارة الوجوه من خارجها من رموز عشائرية، ورياضيين، ومشاهير وإعلاميين بل وحتى من مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي لتسويق نفسها انتخابيا بعد فقدان الثقة بها، لكنّ هذا السلوك لم يكن انفتاحا ديمقراطيا بقدر ما كان هروبا من الهوية الحزبية، ومحاولة للالتفاف على الوعي الشعبي الناقم، وهكذا استُبدلت الكفاءة السياسية بالشعبوية، والمشروع الفكري بالشهرة الجماهيرية، لتتحول العملية الانتخابية إلى منافسة اجتماعية لا سياسية، والبرلمان إلى منتدى للمكانة لا لممارسة السلطة.

 

صناعة القرار خارج البرلمان

أحد أخطر مظاهر التراجع المؤسسي في التجربة العراقية يتمثّل في أنّ صناعة القرار السياسي لا تتم داخل البرلمان نفسه، فالقوانين والسياسات العامة تُحسم في اجتماعات مغلقة بين زعماء الكتل السياسية أو في مقراتها الحزبية، ثم يُستدعى البرلمان لاحقًا لمنح الشرعية الشكلية لما تمّ الاتفاق عليه، حتى وإن لم يكن النصاب متحققًا في بعض الاحيان!.

بهذا الشكل، انتقلت سلطة التشريع من المؤسسة المنتخبة إلى الكواليس الحزبية، وجرى تقويض مبدأ الفصل بين السلطات، وتحوّل البرلمان إلى مسرح تصديق على “صفقات سياسية”، لا ساحة لمداولاتٍ تشريعيةٍ حرّة، هذه الظاهرة تعبّر عما يُعرف في التحليل المؤسسي بالهيمنة الموازية، حيث تفقد المؤسسات المنتخبة سلطة القرار لصالح الزعامات غير الخاضعة للمساءلة.

 

إنهيار الوسيط الحزبي بين منبوذية الحزب واستعارة الوجوه

في التجارب الديمقراطية الراسخة، تُعدّ الأحزاب الوسيط الحيوي بين المجتمع والدولة، وهي التي تُنتج الكوادر السياسية عبر التأهيل الفكري والتنظيمي، وتُعدّ الحاضنة الطبيعية للنخب، لكن في الحالة العراقية، تآكل هذا الوسيط تمامًا، فالأحزاب فقدت شرعيتها الاجتماعية بفعل الفساد والجمود، وانكمشت قاعدتها الشعبية إلى حدّ العزلة، ما دفعها إلى الاحتماء بوجوه غير حزبية من شيوخ العشائر والرياضيين والمشاهير وغيرهم، لتستعير من شعبيتهم ما افتقدته هي من شرعية، وهكذا تحوّل الحزب من مصنعٍ للنخب إلى واجهة انتخابية منزوعة الفكرة والهوية، بينما غدا البرلمان انعكاسًا لهذا التحوّل، إذ امتلأت مقاعده بمرشحين بلا تأهيل سياسي، يمثّلون أنفسهم أو جمهورهم، لا رؤية وطنية. إن الأزمة لا تكمن في دخول الأكاديمي أو الرياضي أو العشائري إلى البرلمان، بل في غياب التأطير الحزبي والمعرفي الذي يجعل منهم سياسيين لا رموزًا عابرة.

في الديمقراطيات المستقرة، كل الفئات الاجتماعية تشارك في العمل السياسي ضمن أطرٍ حزبيةٍ تمنحها الثقافة السياسية اللازمة. أما في العراق، فهذه الفئات أُقحمت من خارج الجسد الحزبي بوصفها زينة انتخابية مؤقتة، فالتمثيل الاجتماعي من دون تأطير سياسي يتحوّل إلى فوضى مصالح، بينما التأطير السياسي من دون تمثيل اجتماعي يتحوّل إلى نخبوية معزولة، والعراق اليوم يعاني من الخللين معًا، فلا أحزاب حقيقية تُنظّم المجتمع، ولا مجتمع حزبي قادر على إنتاج السياسي، هذه الثنائية تفسّر تآكل الوظيفة التمثيلية للبرلمان، وتحوّله من مؤسسة وطنية إلى فسيفساء اجتماعية بلا مشروع سياسي جامع.

 

المستقلون.. قوة رمزية محدودة

بعد احتجاجات تشرين 2019، دخل إلى البرلمان عدد من المستقلين في محاولة لاستعادة المعنى الإصلاحي للعمل السياسي، غير أنّ غياب الإطار التنظيمي جعلهم أفرادًا معزولين داخل منظومة كتلية مغلقة، فالنظام البرلماني العراقي يعتمد على التحالفات لا على المبادرات الفردية، وبذلك تحوّل حضور المستقلين إلى عنصر رمزي أكثر من كونه تغييرًا بنيويًا حقيقيًا، لقد كشف وجودهم محدودية الإصلاح من داخل بنيةٍ تقوم أصلًا على التوافق والمحاصصة.

 

النتائج البنيوية للأزمة

1. انهيار الوظيفة التشريعية لصالح الصفقات الحزبية.

2. تآكل الهوية المؤسسية للبرلمان وتحوله إلى تجمع أفراد لا كتل سياسية.

3. فقدان الأحزاب لوظيفتها الاجتماعية والتنظيمية.

4. اتساع فجوة الثقة بين المواطن والنظام السياسي.

5. تعاظم هيمنة السلطة التنفيذية في ظل غياب رقابة برلمانية فعالة.

 

استشراف الدورة القادمة (2025–2029)

تُظهر المؤشرات السياسية أن مستقبل البرلمان العراقي مرتبط بمسار إصلاح الأحزاب والعملية الانتخابية وذلك وفقا الى:

السيناريو الأول/ استمرار النهج الحالي، بما يعني ترسيخ الضعف التشريعي والشكليّة الديمقراطية.

السيناريو الثاني/ إصلاح جزئي تدفعه الضغوط الشعبية والإعلامية دون مساس بجذور الأزمة.

السيناريو الثالث (المنشود)/ إصلاح مؤسسي شامل يعيد بناء الأحزاب على أسس فكرية وتنظيمية، ويعيد الاعتبار للعمل السياسي المنظم والتأطير الحزبي.

 

حين يغيب الحزب.. تغيب الدولة

الأحزاب هي الوسيط الذي يربط المجتمع بالدولة، والبرلمان هو انعكاس هذا الوسيط في المجال العام، وحين تنهار الأحزاب، يتفكك البرلمان، وتتحول الديمقراطية إلى إطارٍ بلا مضمون، لقد جعلت الأحزاب العراقية من نبذ المجتمع لها ذريعة لتفكيك ذاتها، واستعارت وجوهاً غير حزبية لتجميل فشلها، فكانت النتيجة برلمانا يمثل المجتمع اجتماعيًا، لكن لا يمثله سياسيا، إن إنقاذ التجربة البرلمانية يبدأ من إحياء الفكرة الحزبية، ومن إعادة الاعتبار للسياسة كممارسةٍ فكريةٍ ومسؤوليةٍ وطنية، لا كوسيلة للشهرة أو النفوذ، فمن دون حزب يصنع السياسي، لن يكون هناك برلمانٌ يصنع الدولة.

فضعف البرلمان العراقي ليس عرضا جانبيا، إنه المرآة العاكسة لأزمة النظام السياسي برمّته، فحين يكون التشريع رهين المحاصصة، والمساءلة مرهونة بالصفقات، والتمثيل منقطع الصلة بالمجتمع، يصبح البرلمان مجرّد ديكور للديمقراطية، إصلاح البرلمان يعني بالضرورة إصلاح العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، ذلك يتطلب تغييرًا في وعي النخبة والمجتمع، وفي بنية توزيع السلطة نفسها، بدون ذلك، سيبقى البرلمان العراقي دائرة مغلقة من “التمثيل بدون تمثيل”، وشكلاً ديمقراطيًا لجوهر سلطوي تقليدي.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net


سيف ابراهيم

سيف ابراهيم

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!