بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برحلة إلى إسرائيل ومصر للاحتفال بوقف إطلاق النار في غزة والإفراج عن آخر الرهائن الإسرائيليين المحتجزين، وفي هذه الزيارة الخاطفة، قام ترامب بما يجيده تماما فقد استحوذ على الأضواء في الوقت المناسب ليهيمن على الإعلام في بداية أسبوع مزدحم بالأخبار مستمتعا بثمار هذا الإنجاز..
بقلم الكاتب: برايان كاتوليس- معهد الشرق الأوسط
إن اتفاق وقف إطلاق النار يعدّ إنجازًا ملموسًا ومهمًا للسياسة الخارجية في وقت مبكر من الولاية الثانية لترامب على الرغم من أنه ما يزال في المرحلة الأولى من عملية طويلة ويُتوقع أن تواجه العديد من التحديات في التنفيذ، وفي حين كانت هذه التطورات الإيجابية تتوالى في الشرق الأوسط كانت الإدارة الأمريكية مثقلة بالمشكلات على جبهات أخرى:
فإغلاق الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة دخل أسبوعه الثالث كما أن التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين أثّرت في الأسواق العالمية والجغرافيا السياسية مذكرةً بأن أسس السياسة الأمريكية ما تزال قلقة على عدد من الجبهات الستراتيجية المهمة.
لقد خصصت إدارة ترامب الثانية وقتًا وجهدًا أكبر للشرق الأوسط مقارنة بأي إدارة أمريكية حديثة في أشهرها الأولى ربما باستثناء إدارة أوباما في فترته الرئاسية الأولى عام 2009، ويعكس ذلك الاهتمام رؤية الرئيس ترامب لما يحمله الإقليم من وعود وإمكانات رغم ما ينطوي عليه من مخاطر.
لقد كان سجل إدارة ترامب الثانية خلال الأشهر الستة الأولى مختلطًا وغير حاسم في الملفات الستراتيجية الكبرى، مثل الملف الإيراني والصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، ولهذا يُعدّ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة خطوة مهمة تحمل إمكانية تغيير المسار السلبي الإقليمي.
لقد كانت صور مئات آلاف الفلسطينيين العائدين إلى منازلهم المدمَّرة بعد عامين من الحرب، والرهائن الإسرائيليين المحرَّرين الذين استُقبلوا بترحيب حار من عائلاتهم كانت جزءًا أساسيًا من المشهد العام لهذا الأسبوع، وقد منحت لحظة وجيزة من الأمل بعد عامين مظلمين.
لكن ما تزال أسئلة كثيرة دون إجابة، وتفاصيل كثيرة غير محددة، مثل ما إذا كانت حماس ستتخلى عن سلاحها وسيطرتها على غزة، وما إذا كانت الدول الإقليمية ستلتزم بتعهداتها بالمساعدة في تأمين القطاع وإعادة إعماره، غير أن هذه أمور سيتولى صانعو السياسات والمحللون دراستها في الأسابيع والأشهر المقبلة.
من المهم أيضا ألا يُغفل عن مسألة أن الرئيس ترامب كرّس وقتًا وطاقة كبيرين في مستهل ولايته الثانية لإعادة تشكيل الديناميكيات العربية– الإسرائيلية أكثر من أي رئيس أمريكي منذ تسعينيات القرن الماضي.
فأسلافه حاولوا غالبًا خفض أولوية الصراع ضمن أجندة واشنطن الشاملة وانتهى بهم الأمر في موقع ردّ الفعل وإدارة الأزمات في وقت يمتلك ترامب الطموح والغرور السياسي اللذين يدفعانه إلى التفكير والتحدث بصورة أوضح عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، ومن الأمثلة الملموسة على التزامه الشخصي بالمنطقة إصراره على القيام بهذه الرحلة إلى إسرائيل ومصر برغم ازدحام جدول أعماله المحلي.
لقد أمضى دونالد ترامب وقتًا أطول في طائرته الرئاسية (إير فورس ون) في الذهاب والإياب إلى الشرق الأوسط مقارنة بالوقت الذي قضاه فعليًا على الأرض أي نحو أربع وعشرين ساعة في السفر مقابل اثنتي عشرة ساعة من النشاط الفعلي، وكان معظم برنامجه في البلدين مخصصًا لإلقاء خطابات عامة في الكنيست الإسرائيلي، وفي قمة شرم الشيخ بمصر مما يؤكد أن التركيز كان على الصورة الإعلامية والاتصال الستراتيجي.
وهذا بطبيعة الحال جزء أساسي مما يقوم به القادة وكون ترامب يحب أن يظل في دائرة الضوء فهذه ميزة محتملة لتشكيل التصورات العامة عندما تزداد الاضطرابات لاحقًا، فترامب يدرك جيدًا أن صياغة الرواية الإعلامية جزء جوهري من عمله وهو يؤدي هذا الدور بطريقته الخاصة، وللتذكير فاثناء زيارة الرئيس السابق جو بايدن إلى إسرائيل والسعودية عام 2022، ترافقت الأنشطة العلنية مع عمل كثيف خلف الكواليس.
وحينها ألقى بايدن خطابًا مهمًا حول سياسة واشنطن في الشرق الأوسط تضمّن التزامات كبيرة، لكنه ألقاه في يوم سبت، حين كان اهتمام الأمريكيين بالأخبار ضعيفًا، ومع ذلك، فإن مجرد استعداده للاستثمار في بناء العلاقات في الشرق الأوسط بهذا الحجم يجعله رئيسًا مختلفًا عن أسلافه. ومع الزيارة المرتقبة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن في تشرين الثاني المقبل فمن المرجح أن يبقى الشرق الأوسط في صدارة أجندة ترامب السياسية.
إن من المبكر تحديد ما إذا كانت زيارة ترامب إلى الشرق الأوسط قد منحته دفعة سياسية ملموسة فالأمر سيتضح مع الوقت ومع صدور استطلاعات الرأي المقبلة، وفي حين يرى البعض أن مساهمته في إنهاء حرب غزة ستعزز مكانته يعتقد آخرون أن غالبية الأمريكيين لا يولون الشرق الأوسط اهتمامًا كبيرًا، إذ تظل القضايا الأكثر إلحاحًا داخلية الطابع.
فنحو 6٪ فقط من الأمريكيين يعدون قضايا الأمن القومي -بما في ذلك الصين وروسيا والإرهاب والشرق الأوسط- يعدونها أولوية قصوى ويتصدر اهتمامات هؤلاء التضخم، وفرص العمل، والرعاية الصحية، والهجرة وغيرها.
وقبيل هذه التطورات الإيجابية في الشرق الأوسط كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية الأمريكيين لا يرضون عن أداء ترامب، أما أكبر تحدٍّ داخلي حاليًا فهو استمرار إغلاق الحكومة الفيدرالية لمسألة الخلاف الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين حول قضايا داخلية مثل الرعاية الصحية، وقد بدأت تكاليف الإغلاق الاقتصادية والمؤسسية والاجتماعية تتزايد وتدأب إدارة ترامب إلى تحميل الديمقراطيين مسؤولية الجمود.
في الوقت نفسه، أدت التوتر المرتبط بسياسات ترامب المتشددة بخصوص الهجرة، وبضمنها نشر قوات من الحرس الوطني في مدن أمريكية كبرى، إضافة إلى تحركاته الأخيرة لمقاضاة شخصيات عامة كالمدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) جيمس كومي، أدى كل ذلك إلى تركيز اهتمام الرأي العام الأمريكي على الداخل.
وعلى المستوى الدولي تطفو على السطح التوترات المتصاعدة بين أمريكا والصين بخصوص الرسوم الجمركية والعلاقات الاقتصادية وفي وقت يسعى فيه الطرفان إلى إبرام اتفاق محتمل لتسوية الخلافات، كما أن الضربات الأمريكية ضد زوارق يُزعم أنها تابعة لعصابات المخدرات الفنزويلية أثارت نقاشًا واسعًا في الكونغرس حول قانونية هذه العمليات.
في هذه الأثناء يواصل ترامب مساعيه لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا وهو ملف يعترف الرئيس بأنه لم يحقق فيه ما كان يأمل، ومهما يكن من شيء فإن الاهتمام الأمريكي سيبقى منصبًا على الداخل الأمريكي في المستقبل القريب؛ لأن الموقف السياسي الضعيف لترامب في الداخل، وعجزه عن منع إغلاق الحكومة الفيدرالية رغم سيطرة حزبه على السلطتين التنفيذية والتشريعية يثيران تساؤلات جدية بخصوص قدرته على تحقيق مزيد من التقدم في الشرق الأوسط.
وإذا كان ترامب عاجزا عن رأب الصدع بين الجمهوريين والديمقراطيين، فهل تراه سيتمكن من تحقيق ذلك بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟.
ختامًا فإن الزيارة المفاجئة للرئيس ترامب تُظهر أنه يمتلك الطموح، والطاقة لإنجاز أمور كبرى في الشرق الأوسط، لكن يظل السؤال الملح هو: هل لدى ترامب وكابينته القدرة، والخطة العملية للمضيّ قدمًا حتى النهاية؟.


اضافةتعليق