في يوم التاسع من تشرين الاول ٢٠٢٥ تم التوصل الى اتفاق لوقف الحرب على غزة، مستند الى خطة ترامب للسلام، ويمكن القول ان المرحلة الاولى لخطة ترامب لانهاء الحرب في غزة "التي تضمنت عشرين بنداً" قد نجحت الى حدٍ ما...
بعد مصادقة الحكومة الاسرائيلية وموافقة حماس على الاتفاق ووجود الوسطاء والضامنين قطر، تركيا ومصر، والتوقيع على الاتفاق اقليمياً ودولياً في شرم الشيخ في ١٣ تشرين الاول ٢٠٢٥، اذ شهدت غزة استقراراً نسبياً اثر وقف اطلاق النار "رغم الخروقات الاسرائيلية وتهديداتها المستمرة"، وتم تبادل الأسرى بين الطرفين، واطلق سراح المحتجزين الاسرائيليين الاحياء (٢٠ اسرائيلياً) مقابل نحو ١٩٦٨ اسير فلسطيني، في حين سلمت حماس خمسة عشر جثماناً من القتلى الاسرائيليين الـثمانية والعشرين، وفي المقابل سلمت اسرائيل ١٣٥ جثماناً فلسطينياً.
وتم فتح ممرات انسانية لإدخال المساعدات الانسانية الى القطاع، والبدء بانسحاب القوات الاسرائيلية تدريجياً الى منطقة الخط الاصفر بموجب الخطة، التي ابقت على سيطرة اسرائيل على نصف قطاع غزة، وهذه السيطرة تعد بمثابة ورقة ضغط لتل ابيب من اجل التأكد من تحقيق باقي اهداف الحرب دون قتال، خلال تنفيذ المراحل التالية من الاتفاق، وبذلك حقق الطرفان الاهداف الاساسية المبدئية من الاتفاق.
ولكن لازالت الشكوك وسياقات عدم الوضوح تحيط بالقدرة على الانتقال الى المرحلة الثانية لصعوبتها وتعقيداتها، خاصة الغموض الذي يدور حول مستقبل غزة سياسياً وحماس عسكرياً، فالمراحل التالية لتنفيذ الخطة تواجه تحديات كبيرة، خاصة مع عدم ثبات وتشظي الموقف الاسرائيلي الداخلي ازاء الخطة قياساً بالنيات والتوجهات التي يريدها اليمين المتطرف من تحقيق السردية التأريخية اليهودية المبنية على اساس ضم الاراضي والاحتلال والتوسع اقليمياً.
مع ذلك تبرز امام هذا الاتفاق فرص لتثبيته وغلق باب العودة للحرب، كما تبرز تحديات تقف امام تطبيق المرحلة التالية، وسنتناولها تباعاً:
اولا/ الفرص والمقومات
يمكن اعتبار بنود الاتفاق ضمن مسارات مرحلته الاولى تقف عائقاً امام استئناف الحرب في القطاع من طرف اسرائيل، وذلك للاسباب الآتية:
1- ان اطلاق سراح جميع المحتجزين الاسرائيليين، جرد اسرائيل من ابرز مبرراتها لاستمرار الحرب في قطاع غزة، واي محاولة لاستئنافها مجدداً ستُقابل بعزلة دولية اعمق واحتجاجات شعبية وعالمية اوسع مما كانت عليه من قبل.
2- لم يعد اتفاق وقف الحرب في غزة مجرد تفاهم ثنائي بين حماس واسرائيل، بل تحول الى اتفاق ذي طابع دولي واسع حظي باجماع دولي، تجسد في قمة شرم الشيخ للسلام التي شارك فيها قادة وممثلون اكثر من ثلاثين دولة، لتشكل الاطار السياسي والدبلوماسي الداعم للاتفاق، واصبح من الصعب على اسرائيل خرق هذا الاتفاق تحت اي ذريعة، نظراً لوجود منظومة رقابة واشراف دولية تقودها واشنطن سياسياً وعسكرياً، من خلال قيادة المنطقة الوسطى الامريكية، ومنح هذا الترتيب الدول العربية الضامنة، وفي مقدمتها قطر ومصر وتركيا، شعوراً اكبر بالثقة في جدية الالتزام الامريكي بوقف الحرب، ضمن معادلة تقوم على ان الولايات المتحدة تضمن اسرائيل، بينما تتولى الدول العربية ضمان التزام حماس بالاتفاق.
3- يشكل بقاء القوات الاسرائيلية داخل قطاع غزة نوعاً من التعويض الرمزي عن خيار استئناف الحرب لاستكمال الاهداف العسكرية لإسرائيل المتمثلة بنزع سلاح حماس، ويعكس هذا الواقع اعترافاً دولياً، بل وعربياً واسلامياً أيضاً، بواقعية هذه الاهداف، مع قناعة عامة بان تحقيقها بات ممكناً عبر المسار الدبلوماسي لا عبر القوة العسكرية.
4- يعتبر ترامب ان هذا الاتفاق بوصفه انجازاً شخصياً بشكل مباشر يرتبط برئاسته، ولذلك فهو لن يسمح لأي طرف بخرقه او افشاله، لان أي تعثر فيه سيعد فشلاً شخصياً له، وقد ابدى ترامب احتفاءً واسعاً بهذا الاتفاق، معتبراً اياه ركيزة اساسية لتحقيق السلام في الشرق الاوسط ومنطلقاً لتوسيع دائرة الاتفاقات الابراهيمية في المرحلة المقبلة.
5- حتى الان لم يشكل الاتفاق الحالي تهديداً مباشراً لاستقرار الحكومة الاسرائيلية، فاليمين المتطرف المعارض له اكتفى بالتصويت ضده دون السعي لإسقاط الحكومة، مانحاً نتنياهو فرصة لإثبات ان الاتفاق ما زال قادراً على تحقيق ما تبقى من اهداف الحرب، وبذلك يحفظ ماء وجه التيار اليميني في الداخل الاسرائيلي، كما اسهم خطاب الرئيس ترامب في الكنيست، بما تضمنه من دعم واضح لنتنياهو، في تعزيز موقع الحكومة وتثبيت استقرارها السياسي في هذه المرحلة الحساسة.
6- حظي الاتفاق وقرار وقف الحرب بتأييد واسع داخل المجتمع الاسرائيلي، الامر الذي انعكس ايجاباً على شعبية حزب الليكود الحاكم، فقد ادت المصادقة على الاتفاق الى ارتفاع القوة الانتخابية لليكود بمقدار مقعدين، حسب استطلاع صحيفة معاريف اليهودية، ما يعكس تنامي القبول الشعبي لنهج الحكومة في ادارة مرحلة ما بعد الحرب.
ثانيا/ المعوقات والتحديات
رغم وجود فرص ومقومات لنجاح هذا الاتفاق خاصة بعد انتهاء تنفيذ المرحلة الاولى في اغلب بنودها "عدا فقرة تسليم جثامين الاسرى الاسرائيليين" لكنه يواجه في المرحلة الثانية معوقات وتحديات منها:
1- لازالت اسرائيل مستمرة باستغلال اوراق ضغط مباشرة على حماس، من خلال خروقات امنية محدودة لبنود الاتفاق، وايضا استغلال ورقة تأخير او غلق وفتح معبر رفح، وتقييد دخول المساعدات الانسانية، لتؤكد تل ابيب جديتها لتحقيق اهدافها من الاتفاق. وفي هذا الصدد، اعلنت حماس عدم قدرتها على ايجاد جثث المحتجزين في قطاع غزة، وهي بحاجة إلى معدات متطورة لا تمتلكها فنية ولوجستية لتحديد اماكن باقي الجثامين، ورغم ان هذه الازمة تشكل تحدي واختبار ومبرر لخرق الاتفاق، لكن في الواقع يمكن تسوية هذه الازمة المحدودة لاحقاً بمساعدة اطراف دولية واقليمية.
2- قد تكون تل ابيب حققت اول هدف اساسي في الاتفاق خلال المرحلة الاولى تمثل بإطلاق سراح المحتجزين الاحياء وقد يستتبع ذلك اكمال استلام جثامين الموتى منهم، لكنها غير متيقنة من تحقيق باقي الاهداف المتمثلة بنزع سلاح حركة حماس، وباقي الفصائل والكتائب والجماعات الجهادية في قطاع غزة، وهناك شكوك حول ذلك وهذا يعني عدم امكانية فرض اسرائيل سيطرتها الامنية بشكل كامل على القطاع، ومن المستعبد ايضاً قيام حكم داخل غزة من دون حماس او السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهذه القضايا لها ارتباط مباشر بتنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، وحالة عدم اليقين تلك ترتبط ايضاً بحماس ومن يدعمها، خاصة انها لم توافق او تعلن عن نيتها تسليم السلاح، كذلك هي لن تدعم او تؤيد اي سلطة تحكم القطاع خارج تأثيرها.
ان نزع سلاح حماس احد اهم اهداف الاتفاق، الذي تعتبره اسرائيل مسألة جوهرية لضمان امنها ومنع تكرار سيناريو "السابع من أكتوبر ٢٠٢٣" مرة اخرى، وهذا التعقيد له دلالته داخل اسرائيل والموقف من الحكومة لهذا هنالك اختبار صعب للاتفاق في مدى امكانية تنفيذ هذين البندين، ما يشكل تحدي جوهري ازاء تنفيد باقي بنود الاتفاق.
3- عدم وجود سقف زمني لتنفيذ الاتفاق وعدم وجود اجراءات عقابية ضد اسرائيل، يعقد امكانية المضي بتنفيذ بنود الاتفاق، بالمقابل تحاول الادارة الامريكية والوسطاء، تقليص المدة والشروع بتنفيذ المرحلة الثانية من خلال البحث عن آلية حكم وادارة القطاع اذ كلما طالت المدة ستتعزز قدرات حركة حماس وتفرض وجودها اكثر بالسيطرة على نصف القطاع، امنياً وسياسياً.
4- من المتوقع أن تشهد مرحلة ادارة قطاع غزة صراعاً في الرؤى والسياسات بين حركة حماس وهيئة الاشراف الدولي (مجلس السلام) اذا ما تم فعلا ذلك، فحماس تسعى الى تشكيل حكومة فلسطينية برعاية الفصائل الوطنية دون ان تشارك فيها مباشرة، مع احتفاظها بتأثير واضح في تركيبها وتوجهاتها، في حين يدفع مجلس السلام باتجاه تشكيل حكومة من التكنوقراط الفلسطينيين تتولى ادارة المرحلة الانتقالية.
هذا التباين في المواقف يُنذر بتعقيد عملية تشكيل ادارة موحدة للقطاع، خصوصاً اذا ما رفضت الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس، الصيغة المقترحة من الجانب الدولي ما يضع تعقيد صعب جداً امام استكمال بنود الاتفاق.
5- نزع سلاح حماس وباقي الفصائل، وتشكيل حكم محلي وإداري في القطاع من غير حماس لا يمثل كل المشكلة، بل بالانسحاب الكامل للقوات الاسرائيلية من القطاع الذي يعطي مبررات للمقاومة والتصعيد، ومن ثَمَّ الرد الاسرائيلي، فإسرائيل لن تنسحب من محور فيلادليفيا، وستبقى محتلة لنصف الاراضي داخل القطاع، ما يشكل تحدي كبير امام تنفيذ الاتفاق.
اذن تواجه المرحلة الثانية الكثير من التحديات والمعوقات في قضايا تتعلق بمستقبل قطاع غزة، والمشكلة الاساسية تتمثل بان هذه القضايا لا تزال تعاني من الغموض وعدم وجود رؤية محددة وواضحة يمكن ان تقبل بها مختلف الاطراف.
ثالثاً/ الاحتمالات المستقبلية للاتفاق
توجد اربعة مسارات محتملة لمستقبل هذا الاتفاق، تتمثل بالتالي:
الاحتمال الاول: انهيار الاتفاق والعودة الى الحرب
يفترض هذا الاحتمال فشل مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق وعدم التوصل الى تفاهمات حول القضايا الجوهرية، وبالاخص ملف نزع سلاح حماس وطبيعة نظام الحكم في غزة، وفي حال حدوث ذلك، قد تعتبر اسرائيل ان تعثر المفاوضات وتوقفها سيكون مبرر لاستئناف الحرب في غزة بغية تحقيق اهدافها المتبقية عبر احتلال مدينة غزة بالكامل، وهي ترى ان العودة الى الحرب هذه المرة سيكون اسهل من السابق، نظراً لانتهاء ملف المحتجزين الذي كان يقيد عملياتها العسكرية بشكل واسع، ما يتيح لها استخدام اسلحة أكثر تدميراً للانفاق واستهداف قيادات حماس المتبقية داخل القطاع وخارجه. كما ان سيطرتها الامنية على نحو نصف مساحة القطاع تمنح جيشها موطئ قدم متقدم لاستئناف الحرب، وسيدفع اليمين الاسرائيلي باتجاه هذا الخيار لتعزيز صورته السياسية قبيل الانتخابات المقررة في أكتوبر ٢٠٢٦، ساعياً إلى خوضها وهو يزعم تحقيق اهداف الحرب.
الاحتمال الثاني: تثبيت واقع المرحلة الأولى من الاتفاق
يرتكز هذا الاحتمال على فرضية ان مفاوضات ومباحثات المرحلة الثانية ستستغرق وقتاً طويلاً دون نتائج حاسمة، في ظل حرص الاطراف المعنية على الحفاظ على وقف اطلاق النار، ويؤدي هذا الوضع الى تثبيت موازين القوى التي افرزتها المرحلة الاولى من الاتفاق، بحيث تبقى حماس مسيطرة فعلياً على نصف القطاع، في حين تُبقي اسرائيل سيطرتها الامنية على النصف الاخر، ان اطالة امد التفاوض وتعقد القضايا العالقة، لا سيما تلك المتعلقة بإدخال قوة عربية او دولية لإدارة القطاع، سيسمح لحماس بتعزيز نفوذها الامني والاداري، وهو ما بدأت ملامحه بالظهور في الايام الاولى بعد الاتفاق من خلال انتشار اجهزتها الامنية في مناطق غزة وقيامها بضبط المجموعات المسلحة ذات الطابع القبلي، لتأكيد سيطرتها على الارض. كما ان استمرار تدفق المساعدات الانسانية عبر قنوات خاضعة لها سيساعدها على تكريس سلطتها واعادة بناء مؤسساتها المحلية.
الاحتمال الثالث: تنفيذ الاتفاق بشكل كامل
يفترض هذا الاحتمال ان تفضي مباحثات المرحلة الثانية الى تحقيق بنود الاتفاق من خلال تشكيل حكومة من التكنوقراط تتولى ادارة شؤون قطاع غزة، مع نزع سلاح حركة حماس عبر تفكيك بنيتها العسكرية وتسليم الاسلحة الهجومية إلى جهة ثالثة مثل مصر لضمان عدم عودتها، يعول هذا الاحتمال على فرضية حصول ضغط دولي واقليمي وفلسطيني مكثف على حماس لإخراج الاحتلال الاسرائيلي من القطاع والبدء بعملية اعادة الاعمار، ولمنع حصول مواجهة عسكرية جديدة او اصطدام مع القوة الدولية العربية المرخص لها بالعمل في غزة، ويُبنى الافتراض ايضاً على مكافأة حماس بدور سياسي غير مباشر داخل النظام الفلسطيني لاحقاً مقابل موافقتها على هذه الشروط، بحيث تُقدم تسوية تحفظ استقرار مرحلة ما بعد الحرب.
الاحتمال الرابع: الاتفاق بشكل جزئي دون نزع سلاح حماس
هذا الاحتمال يقوم على ايجاد صيغة حكم حكومة تكنوقراط مستقلة من دون حماس بذات الوقت، ولكنها توافق عليها، دون ان تسلم سلاحها للقوى الامنية الجديدة او لأي طرف اخر، ويجمد السلاح وتتعهد حماس بعدم استخدامه، وسيكون هذا الاحتمال هو الاقرب في المرحلة المقبلة والاسهل في التطبيق بالمقارنة مع باقي الاحتمالات، نظراً لإعلان حماس تأييدها وجود حكومة فلسطينية غير سياسية مستقلة في غزة، كذلك هذا الاحتمال متوازن، اذ تبقى حماس مسلحة تحت الارض، وتل ابيب باقية في نصف اراضي القطاع، ثم تبدأ عملية اعادة الاعمار بإشراف دولي.
ختاماً
ترى اسرائيل هنالك معادلة مترابطة تؤشر تنفيذ الاتفاق جزئياً وهي ان اسرائيل لن تنسحب بالكامل من قطاع غزة، وحركة حماس لن تسلم سلاحها لكنها لن تشارك في الحكم ولن تمارس اي نشاط عسكري، وما يحافظ على هذا التوجه هو الضغط العربي والاقليمي والاشراف الدولي الذي سيكون المراقب لأي استخدام لسلاح حماس، كما انه سيكون ضامنا لعدم شن الحرب من قبل اسرائيل.







اضافةتعليق