العلاقات العربية- الصينية: مقاربات حول دور مراكز الأبحاث والتفكير

العلاقات العربية- الصينية: مقاربات حول دور مراكز الأبحاث والتفكير
شهدت الصين خلال العقود الأخيرة تحولات جوهرية جعلتها أحد أبرز الفواعل في النظام الدولي، ليس فقط اقتصادياً بل علمياً وبحثياً وثقافيا وسياسياً وتنموياً..

وفي العالم العربي تواصل الصين بناء شبكة من العلاقات المتنامية القائمة على مبادرة الحزام والطريق، وعلى خطاب سياسي يؤكد على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وهو ما برز بوضوح في خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2016 أمام جامعة الدول العربية.

وفي هذا المقال سوف نناقش النموذج الصيني الصاعد، وبيان انعكاساته على العلاقات العربية- الصينية، كما يتناول المقال دور مركز الدراسات الصيني– العربي للإصلاح والتنمية كأداة مؤثرة في الدبلوماسية المعرفية الصينية، وتعرض معالم وأهداف زيارة الوفد الأكاديمي العربي إلى الصين في أيار 2025. مع الإشارة الى مسارات التعاون العربي– الصيني في المرحلة المقبلة، بما يرسّخ الصداقة ويفتح آفاقاً استراتيجية للتنمية نناقش ذلك في ضوء زيارتنا في أيار 2025 الى مدينة شنغهاي التي تمثل خطوة مهمة في تعزيز العلاقات العراقية– الصينية والتي تضمنت زيارة مؤسسات حكومية وأكاديمية في شنغهاي ومن ذلك جامعة شنغهاي للدراسات الدولية، ومركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية ولقاءات بحثية متميزة مع ملاكات المركز لبحث آفاق التعاون العلمي والبحثي المشترك، والتعرف على التجارب التنموية في البنى التحتية، والصناعة، والاقتصاد الرقمي، وتعزيز الدبلوماسية الشعبية من خلال التواصل مع المجتمع المحلي.

وفي ضوء ما تقدم، فأن النظام الدولي والاقليمي يشهد تحولاً عميقاً في موازين القوة، حيث تتراجع الهيمنة الأحادية لصالح تعددية قطبية تتصدرها الصين بقوة اقتصادية وصناعية وتكنولوجية متنامية وقد استثمرت الصين هذا الصعود في بناء علاقات متوازنة مع دول العالم، لا سيما الدول العربية الغنية بالموارد الطبيعية والمواقع الجيوسياسية الحيوية فمنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عملت الصين على بناء شراكة استراتيجية مع العالم العربي عبر توسيع التعاون الاقتصادي، وتطوير المبادرات السياسية والثقافية، وإطلاق مؤسسات بحثية مشتركة تعزز الفهم المتبادل.

ويُعد خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2016 نقطة تأسيسية لهذه الرؤية الاستراتيجية، وكان بمثابة إطار تأسيسي لشراكة عربية– صينية استراتيجية ولحظة مفصلية في إعادة صياغة العلاقات العربية– الصينية على أسس تتجاوز مستوى التعاون التقليدي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، فقد حمل الخطاب ملامح رؤية صينية جديدة للتعامل مع المنطقة العربية، تقوم على الثقة، والتنمية، والتفاعل الحضاري، والانخراط ضمن مشروع عالمي متصاعد تقوده الصين، حيث أكد الرئيس الصيني أن الثقة السياسية هي حجر الأساس لأي علاقة استراتيجية، مبرزاً ثلاثة مبادئ رئيسة: احترام سيادة الدول العربية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، انسجاماً مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية القائمة على الندية وعدم فرض النماذج، ويظهر من الخطاب أن الصين تسعى لتأسيس "هوية شريكة" مع العالم العربي، عبر تقديم نفسها كقوة كبرى مختلفة عن القوى التقليدية التي مارست نفوذاً مشروطاً وتدخلاً، وهذا التمايز قابل لأن يتحول إلى قاعدة نفوذ صيني مستدام في المنطقة. وتمكنت الصين من تحويل مواردها البشرية، ومساحتها الجغرافية، وقدراتها التنظيمية إلى عناصر قوة صلبة وناعمة ويمكن تحديد ملامح صعودها في ثلاثة محاور رئيسة:

1- التحول الاقتصادي: من خلال بناء اقتصاد صناعي عالمي متنوع، وتطوير قدرات تكنولوجية في الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والروبوتات، وإنشاء أكبر شبكة بنى تحتية في العالم.

2- القوة السياسية والدبلوماسية: من خلال دعم النظام الدولي متعدد الأقطاب، وتعزيز الدبلوماسية التنموية من خلال الحزام والطريق، وانتهاج مبدأ عدم التدخل واحترام سيادة الدول.

3- القوة الناعمة: من خلال الترويج للثقافة الصينية والتاريخ الصيني، وإنشاء معاهد كونفوشيوسية وتوسيع التبادل الثقافي، وما الى ذلك من مؤسسات بحثية صعدت بصورة قوية في الفترة الأخيرة ومنها مركز الدراسات الصيني- العربي للإصلاح والتنمية الذي يدعم ويشجع الحوار العربي- الصيني والاتفاق باتجاه العالم العربي ومنه العراق بالإضافة الى دعم مبادرات التعليم والتطوير في الدول الشريكة.

 

الشراكة الاقتصادية من تبادل المصالح إلى بناء منظومات تنموية مشتركة

ركز الخطاب الرسمي الصيني على تحويل العلاقات الاقتصادية إلى هيكل تعاون شامل يتضمن الاستثمار، والطاقة، والتكنولوجيا، والبنية التحتية. ويمكن تحليل مضمون الشراكة الاقتصادية كما يلي:

1. الطاقة التقليدية والمتجددة: اذ استمرار الصين في كونها أكبر مستورد للنفط العربي، وفتح الباب أمام الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح في الدول العربية، وتشجيع الشركات الصينية على الدخول في مشاريع البتروكيماويات، المصافي وخطوط النقل.

2. البنية التحتية: حيث ان الصين عرضت نموذجها العالمي في بناء الموانئ والمطارات، وشبكات السكك الحديدية، والمدن الذكية والمناطق الصناعية، ومشاريع الإسكان والطرق السريعة اذ ان هذه المشاريع تمثل جزءاً من "الدبلوماسية التنموية" التي توظفها الصين لكسب الشراكات الاستراتيجية طويلة المدى.

3. الأمن الغذائي والتعاون الزراعي: من خلال المصالح العربية والصينية متقاطعة في هذا المجال، الصين تحتاج إلى استيراد الغذاء والدول العربية تواجه تحديات المياه والزراعة ولذلك، طرح الرئيس شي رؤية للتعاون الزراعي في مجالات الري الذكي، وتطوير الأراضي والاستثمارات الزراعية، من هنا فان هذا الخطاب وضع العلاقات الاقتصادية في إطار مؤسسي، وليس مجرد تبادل تجاري، عبر ربطها ببرامج التنمية والصناعات المستدامة. وهذا يعكس رغبة الصين في بناء "اقتصاد مشترك" يمتد لعقود.

4. التواصل الحضاري: من إرث طريق الحرير إلى بناء خطاب ثقافي مشترك، حيث ركز خطاب الرئيس شي على البعد الحضاري، وهو توجه ذو أهمية استراتيجية لأنه يشكل "قوة ناعمة" مكملة للقوة الاقتصادية من خلال استدعاء إرث طريق الحرير، وتعزيز التبادل الثقافي واللغة والتعليم التي تضمّن الخطاب مبادرات لــ توسيع معاهد كونفوشيوسية في الدول العربية، وزيادة المنح الجامعية للطلاب العرب، وإطلاق شراكات بحثية بين الجامعات، ودعم الترجمة المتبادلة للأعمال الفكرية والأدبية، وبناء خطاب حضاري مضاد للصدام.

وبذلك فان الصين تدرك أن النفوذ الحقيقي لا يتحقق عبر الاقتصاد وحده، بل عبر بناء "جسور ثقافية" تجعل الشراكة مستدامة وتساهم في تشكيل صورة إيجابية للصين داخل المجتمعات العربية.

 

مركز الدراسات الصيني– العربي للإصلاح والتنمية ودوره في التأثير الثقافي والسياسي

يمثل المركز أحد أهم أدوات القوة الثقافية والاكاديمية الصينية، وتكمن أهميته في:

1-  تعزيز الفهم المتبادل: من خلال الدورات البحثية وبرامج التطوير.

2- نقل الخبرة الصينية: وتتمثل في الإصلاح الاقتصادي، والإدارة الحكومية، وتطوير المؤسسات وتبادل الأفكار المشتركة التي تخص الشعوب العربية والشعب الصيني.

3-   دعم الحوار السياسي: بوصفه منصة بحثية لتدعيم الاستقرار والتعاون الصيني- العربي.

4- التأثير في الخطاب: إذ يسهم المركز في تعزيز سردية الصين حول التنمية المشتركة، والتعاون جنوب– جنوب، وبناء مجتمع المصير المشترك للبشرية.

5- الأثر العراقي: من خلال إقبال المؤسسات العراقية على برامج المركز يؤكد حاجة العراق إلى نماذج إصلاحية ناجحة في قبال ذلك فان المصلحة الصينية تقتضي بالانفتاح على الكفاءات والمؤسسات العراقية بما يخدم الأهداف الوطنية المشتركة لكلا الدولتين.

ومما تقدم، فأن العلاقات العربية– الصينية تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، تتشابك فيها المصالح الاستراتيجية مع الفرص الاقتصادية والمعرفية، وتُظهر التجربة الصينية أن التنمية ليست مجرد صعود اقتصادي، بل مشروع حضاري قائم على التخطيط والعلم والانفتاح، كما تؤكد الورقة أن العراق والدول العربية يمتلكون فرصة تاريخية للاستفادة من هذه التجربة عبر شراكات متوازنة ومفتوحة، وتعزيز الدبلوماسية الثقافية والبحثية، والانخراط الفاعل في مبادرة الحزام والطريق، وإن المستقبل العربي– الصيني مرشح لمزيد من التوسع، خاصة مع تطور العلاقات العربية- الصينية، وتزايد الزيارات المتبادلة، وارتفاع مستوى التفاهم السياسي والبحثي من اجل تحقيق التنمية والتعاون المشترك.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

د. اسعد كاظم شبيب

د. اسعد كاظم شبيب

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!