يُعدّ مفهوم الآباء المؤسسين من المفاهيم السياسية والدستورية التي ارتبطت تاريخياً بمراحل تأسيس الدول الحديثة أو إعادة بنائها بعد تحولات كبرى، سواء كانت ثورات، أو انهيار أنظمة حكم، أو انتقالات جذرية في طبيعة النظام السياسي...
ويشير المصطلح إلى مجموعة من الشخصيات السياسية والفكرية والقانونية التي تضطلع في لحظة تاريخية حرجة بمهمة صياغة المبادئ الأولى للنظام الجديد، ورسم الإطار الدستوري الذي يحدد شكل الدولة، ويؤسس لآليات توزيع السلطة، ويضع القواعد الحاكمة للحياة السياسية.
وقد شهد العراق بعد عام 2003 انتقالاً تاريخياً من نظام سلطوي مركزي إلى نظام سياسي جديد قائم على المبادئ الدستورية الحديثة والتمثيل الديمقراطي، وفي خضم هذا التحوّل، برز ما يُعرف بـ الآباء المؤسسين وهم نخبة من الفاعلين السياسيين والقانونيين والدستوريين الذين اضطلعوا بمهمة صياغة الأسس الأولى للعملية السياسية وإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق رؤية تراعي التعددية الاجتماعية والدينية والقومية.
لقد شكّلت الخيارات التي تبنّوها في دستور 2005، وفي مقدمها طبيعة النظام السياسي وآليات تشكيل الحكومة وتوزيع السلطات، الإطار المرجعي الذي حكم السلوك السياسي والحوكمة في العراق خلال العقدين اللاحقين، وبالرغم من أن هذه الترتيبات مثّلت استجابة لظروف معقدة رافقت مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق، إلا أنّها أنتجت آثاراً مؤسسية وسياسية عميقة ما تزال حاضرة حتى اليوم.
أولاً/ دور الآباء المؤسسين في تأسيس العملية السياسية بعد 2003
1. وضع الإطار الدستوري للنظام البرلماني الاتحادي: أرسى الآباء المؤسسون بنية جديدة للنظام السياسي تقوم على النظام البرلماني بدلاً من النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، وقد استند هذا الخيار إلى جملة اعتبارات، أبرزها: تجنّب تركّز السلطة التنفيذية بيد جهة واحدة خوفاً من تكرار تجربة النظام السابق، وتعزيز الدور الرقابي للبرلمان باعتباره ممثلاً لإرادة الناخبين، فضلا عن تمكين المحافظات عبر تبنّي النموذج الاتحادي (الفيدرالي) لضمان توزيع السلطات. وبناءً عليه، جرى تحديد موقع رئيس الوزراء بوصفه القائد الفعلي للسلطة التنفيذية، بينما مُنح رئيس الجمهورية دوراً بروتوكولياً يقتصر على ضمان احترام الدستور.
2. ترسيخ مبدأ الشراكة السياسية عبر نموذج التوافق: بالرغم من عدم تضمين اي إشارة مباشرة في الدستور إلى المحاصصة الطائفية أو القومية، إلا أن الآباء المؤسسين رسّخوا مبدأ التوافق السياسي بوصفه قاعدة لإدارة السلطة، وذلك نتيجة لغياب الثقة بين المكونات وخشية هيمنة طرف واحد، وقد نشأ عن ذلك أعراف سياسية ثابتة مثل: رئاسة الجمهورية للكرد، رئاسة الوزراء للشيعة، رئاسة البرلمان للسنة، وقد تحوّل هذا العرف مع مرور الوقت إلى جزء من آليات تشكيل الحكومة، وأصبح من الصعب تجاوزه بسبب ارتباطه بتوازنات اجتماعية وسياسية حساسة.
3. بلورة مفهوم الكتلة الأكبر: استخدم الدستور مفهوم الكتلة النيابية الأكثر عدداً لتحديد الجهة التي تُرشح رئيس الوزراء، لكنه ترك تعريفها غامضاً، وقد فسّره البعض بأنه: الكتلة التي تفوز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات، فيما رأى آخرون أنه: التحالف الذي يتشكل بعد الجلسة الأولى للبرلمان.
4. ضمان المشاركة الواسعة ومنع الإقصاء: استشعر الآباء المؤسسون مخاطر إقصاء أي مكوّن اجتماعي، لذلك شجّعوا نموذج الحكومة الائتلافية الواسعة التي تضم أغلب القوى الفائزة، وبالرغم من أن هذا النموذج منح العملية السياسية قدراً من الاستقرار، إلا أنه أنتج حكومات متعدّدة الأقطاب تتباين فيها الأولويات وتنعدم فيها الوحدة السياسية.
ثانياً: منهج الاختيار وتأثيره في بنية السلطة
1. التوافق مقابل الأغلبية: اعتمدت العملية السياسية منهج التوافق بدلاً من خيار الأغلبية البرلمانية، ويعني ذلك أنّ الحكومة تُشكَّل عبر اتفاق جميع المكونات الرئيسية، وليس عبر ائتلاف برلماني يضم الأغلبية فقط، هذا النموذج يُقلل فرص الإقصاء، ولكنه يُعقّد إجراءات اتخاذ القرار، كما يُنتج عنه حكومات ضعيفة البنية.
2. استمرار العرف القائم على توزيع الرئاسات الثلاث أدى إلى: تكريس الهويات الفرعية، تعزيز الانقسام السياسي، تقليص إمكانية الانتقال إلى نموذج المواطنة السياسية.
3. نشوء تحالفات هشة وغير مستقرة.
ثالثا: الآثار والنتائج المترتبة على الأسس التأسيسية
1. الاستقرار مقابل ضعف الفعالية: حققت حكومات التوافق استقراراً نسبياً لأنها تُشرك الجميع، لكن هذا جاء على حساب: سرعة اتخاذ القرار، وضوح المسؤوليات، جودة الأداء التنفيذي.
2. تعدد مراكز القوى: أدى ذلك إلى ظهور سلطات متوازية داخل الوزارات والمؤسسات.
3. تضخم الجهاز الحكومي: لتحقيق التوازنات السياسية، جرى إنشاء وزارات ودوائر وهيئات إضافية، ما أدى إلى: زيادة الإنفاق العام، ترهل إداري، تعارض بصلاحيات بعض الجهات.
4. صعوبة تبني نموذج حكومة الأغلبية: أصبحت التقاليد السياسية التي ترسخت منذ 2003 عقبة أمام أي تحوّل نحو حكومة أغلبية، لأن النظام السياسي بُني على الشراكة، والمكونات تخشى أن تكون خارج السلطة.
5. استمرار أزمة الكتلة الأكبر: لم ينجح النظام في إنتاج آلية مستقرة لتحديد الكتلة الأكبر، مما جعل كل دورة انتخابية تبدأ بنزاع قانوني، وصراع سياسي، وتأخير طويل في تشكيل الحكومة.
لقد أسهم الآباء المؤسسون في رسم معالم العملية السياسية العراقية بطريقة تراعي ظروف المرحلة الانتقالية وتعقيداتها: وقد نجحت هذه الترتيبات في إرساء نظام تعددي يقوم على مشاركة المكونات كافة، إلا أنّها أنتجت في المقابل بنية سياسية مركّبة تنطوي على تحديات بنيوية تتعلق بضعف الانسجام الحكومي، وتعدد مراكز القرار، وصعوبة الحسم السياسي.
وإزاء ذلك، فإن أي مسار إصلاحي حقيقي يتطلب ليس فقط تعديل القوانين، بل مراجعة شاملة للمرتكزات التأسيسية التي وضعت عام 2005، بهدف بناء نموذج أكثر فعالية وقدرة على الحكم، ويوازن بين المشاركة الواسعة من جهة، والكفاءة والاستقرار من جهة أخرى.
.............................................
الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها
*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ
http://mcsr.net
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!