تشكيل الحكومات العراقية: جدل التوافق السياسي وصعود خطاب الأغلبية

تشكيل الحكومات العراقية: جدل التوافق السياسي وصعود خطاب الأغلبية
شهد العراق منذ عام 2003 حالة من الجدل السياسي المستمر حول طبيعة نموذج الحكم الأنسب لإدارة دولة متعددة المكونات، خارجة من الصراعات، ومحكومة بتوازنات اجتماعية وسياسية معقّدة، وقد تبلور هذا الجدل بين طرفين:

أحدهما يتمسّك بنموذج التوافق السياسي الذي ساد خلال العقدين الماضيين بوصفه ضمانة لعدم الإقصاء وحماية للسلم الأهلي، والآخر يدعو إلى نموذج الأغلبية السياسية بوصفه طريقاً لتحقيق الفعالية والوضوح في الحكم، ومع تراكم الأزمات وضعف القدرة على اتخاذ القرار، بات النقاش بين النموذجين يشكّل أحد أبرز محاور الصراع الفكري والسياسي في العراق، ويعبّر عن رغبة متزايدة في إعادة ضبط قواعد اللعبة السياسية بما يضمن الاستقرار والفعالية معاً.

 

أولاً: مفهوم التوافق السياسي وأبعاده

التوافق السياسي هو أسلوب في الحكم يعتمد على إشراك أغلب القوى السياسية والاجتماعية في السلطة، بدلاً من الركون إلى مبدأ الأغلبية العددية وحده، ينشأ هذا النموذج في الدول المنقسمة أو التي تعاني هشاشة في الثقة بين مكوناتها، حيث تصبح المشاركة الواسعة شرطاً لتجنّب الإقصاء وضمان الاستقرار، وقد تطوّر هذا المفهوم ليناسب الديمقراطيات التوافقية التي يصعب فيها تطبيق نموذج الأغلبية الخالص بسبب الحساسية المجتمعية أو الانقسامات العميقة.

يقوم هذا النموذج على تشكيل حكومات ائتلافية واسعة، وعلى اتخاذ القرارات الكبرى بالتفاهم أو بالرضا المتبادل، ما يمنح الأطراف حق الاعتراض على القضايا المصيرية، كما يعتمد على مبدأ النسبية في توزيع المناصب والموارد، وعلى قدر من الاستقلال الذاتي للمكوّنات، مع آليات حوار وتفاوض طويلة الأمد، ورغم ما يوفره هذا النموذج من استقرار وتمثيل شامل، إلا أنه يعاني بطئاً في اتخاذ القرار واحتمال تحوله إلى محاصصة تُضعف الدولة وتشتّت المسؤولية والرقابة.

 

ثانياً: مفهوم الأغلبية السياسية ومنطقها في الحكم

الأغلبية السياسية هي نموذج يمنح السلطة للجهة التي تحوز أكبر عدد من المقاعد البرلمانية، سواء كان حزباً منفرداً أو تحالفاً انتخابياً، تعتمد هذه الصيغة على مبدأ واضح: من يفوز بثقة الشعب عبر الانتخابات يمتلك الحق في تشكيل الحكومة، بينما تنتقل القوى الأخرى إلى موقع المعارضة.

يمتاز نموذج الأغلبية بوضوح المسؤولية السياسية، وسرعة اتخاذ القرار، وتنفيذ البرنامج الحكومي دون عرقلة داخلية، كما يسمح بوجود معارضة فاعلة تراقب وتحاسب وتطرح بدائل، ما يعزّز التوازن الديمقراطي، ومع ذلك، يحمل هذا النموذج مخاطر محتملة في المجتمعات المنقسمة، حيث قد يُفهم كآلية لهيمنة مكوّن على آخر، ما لم تُحترم حقوق الأقليات وتُفعَّل الضوابط الرقابية والمؤسسات المهنية.

 

ثالثاً: التوافق السياسي ومالآته في العراق

إن التوافق السياسي جاء كحل انتقالي يهدف إلى حماية العملية السياسية في سنواتها الأولى إلا أن تطبيقه في العراق اتخذ شكلاً مختلفاً عن النسق النظري الأصلي فقد تحوّل من توافق على مبادئ الدولة إلى محاصصة تُقسّم السلطة والموارد على أساس سياسي وطائفي الأمر الذي أدى إلى تشظي القرار وتداخل الصلاحيات بين قوى مشاركة في الحكومة لكنها تختلف في البرامج والأجندات.

على مدى دورات الحكومات المتعاقبة، عمّقت التوافقية حضورها حتى أصبحت الإطار الذي تُحسم من خلاله أغلب القرارات، من اختيار رئيس الوزراء إلى توزيع الوزارات والهيئات، ورافقت هذا الأسلوب مجموعة من الحقائق التي شكلت واقع الحكم اليوم:

-  غياب الكتلة المهيمنة: لم تستطع أي قوة سياسية أن تحوز الأغلبية العددية التي تسمح بتشكيل حكومة منفردة، وهذا جعل كل حكومة ائتلافية بطبيعتها، كما أن الانقسام داخل المكونات نفسها أسهم في إضعاف فكرة “طرف واحد يمثل الجميع”، وهو ما جعل التوافقية الخيار الواقعي الوحيد المتاح.

-  تشظّي القوى السياسية داخل كل مكوّن: انقسام القوى الشيعية إلى عدة محاور، والسنية إلى أطراف متعددة، والكردية بين الحزبين الرئيسيين مع قوى صاعدة، جعل تشكيل أي حكومة عملية تفاوضية معقدة، تعتمد على التوازن وليس على الأغلبية.

-  تداخل النفوذ الخارجي مع الحسابات الداخلية: التوازنات الإقليمية والدولية أصبحت جزءاً من المشهد السياسي، مما جعل أي تحول جذري في آليات الحكم يحتاج إلى توافق داخلي وخارجي في آن واحد.

-  اقتصاد الدولة الريعي وعدم وجود معارضة برلمانية منظمة: الاعتماد على الدولة كمصدر للوظائف والإنفاق يجعل جميع القوى ترغب بالبقاء في السلطة أو قريباً منها، وهو ما يقلل من استعدادها للانتقال إلى موقع المعارضة، وهكذا تكرست التوافقية لأنها تضمن للجميع “حصة” في الحكم.

بالرغم من نجاح التوافق في إدارة التوازنات حيث سمح بتمثيل جميع المكوّنات الأساسية ومنع إقصاء أي طرف رئيسي وكان عاملاً للاستقرار النسبي خلال المراحل الأولى التي أعقبت العنف الطائفي وصعود الإرهاب، إلا أن تطبيقه أفرز في المقابل إشكالات عميقة:

1- تعطيل مفهوم المسؤولية السياسية: عندما تكون الحكومة مؤلفة من الجميع، تصبح محاسبة الجميع أمراً صعباً، لأن كل طرف يملك القدرة على تعطيل القرارات التي تمسّ مصالحه ولا يوجد طرف يُحمَّل وحده مسؤولية الفشل أو النجاح.

2- تقوية منطق المحاصصة بدلاً من الشراكة: تحولت التوافقية إلى توزيع للنفوذ والوزارات والمناصب، وأصبح معيار الاختيار سياسياً أكثر منه مهنياً، مما أدى إلى ترسيخ شبكات المصالح والفساد وضعف الأداء الإداري.

3- إضعاف قوة الدولة: التعدد في مراكز القرار، وتوزع النفوذ داخل مؤسسات الدولة، جعل الحكومة عاجزة في كثير من الأحيان عن فرض خططها أو إنفاذ القانون على نحو صارم ومتجانس.

4- غياب القدرة على اتخاذ قرارات جريئة: القرارات الكبرى غالباً ما تحتاج موافقة جميع الأطراف، وهو ما يؤدي إلى التسويف والمفاوضات الطويلة والتوافقات الهشة.

يمثّل الانتقال نحو الأغلبية أحد أهم التحولات التي يُناقشها العراق سياسياً وفكرياً، والمقصود هنا ليس الأغلبية العددية فقط، بل حكومة تتشكل من كتلة سياسية واضحة تتحمل المسؤولية كاملة، مقابل معارضة واضحة تمتلك أدوات رقابة، هذا النموذج يُنظر إليه بوصفه خطوة نحو تمكين الدولة وتقليل المحاصصة، لكن إمكانية الانتقال إليه في العراق تصطدم بعدة معطيات واقعية:

-  التوازنات داخل المكونات لم تنضج بعد: لا يزال كل مكوّن منقسماً على نفسه بشكل يمنع أي كتلة من الوصول إلى أغلبية متماسكة داخل البرلمان تسمح بتشكيل حكومة مستقرة.

-  المخاوف المتبادلة بين القوى: كل طرف يخشى أن تؤدي الأغلبية السياسية إلى إقصائه أو تقليص نفوذه، وهذه المخاوف ليست نظرية بل ترتبط بتجارب عدم الثقة المتراكمة منذ عقود.

-  عدم توفر معارضة برلمانية مؤسسية: المعارضة تحتاج إلى أحزاب متماسكة تمتلك برامج وليس فقط زعامات وشخصيات، وهذا ما زال في بداياته في المشهد العراقي.

-  اشتباك المصالح الاقتصادية والسياسية: القوى السياسية اعتادت على حصولها على جزء من السلطة التنفيذية، وصعوبة التنازل عن هذه المكاسب تجعل خيار الأغلبية محفوفاً بالصدام.

مع ذلك، هناك نافذة تسهِّل الانتقال التدريجي نحو الأغلبية السياسية، وهي:

1- التحولات داخل القوى السياسية ذاتها: أزمة الأداء الحكومي وإرهاق الشارع من المحاصصة دفعت بعض القوى لتبني خطاب الأغلبية، ما يمهّد تدريجياً لبلورة كتلة سياسية ذات برنامج محدد.

2- التدريج بدلاً من القطيعة: من الممكن الانتقال على مراحل، مثل فرض معايير مهنية لاختيار الوزراء حتى في ظل التوافقية، أو تقليص عدد المشاركين في الحكومة وصولاً إلى حكومات أصغر وأكثر انسجاماً.

3- وجود رغبة اجتماعية بتغيير نمط الإدارة: الاحتجاجات والوعي الجديد يرغبان بحكومة قادرة على الإنجاز، وهذا يشكل ضغطاً على القوى السياسية نحو إعادة التفكير بصيغة الحكم.

تشير المعطيات السياسية والاجتماعية إلى أن العراق قد يتجه نحو صيغة وسطية تجمع بين مزايا التوافق والأغلبية يمكن وصفها بالأغلبية التوافقية أو التوافق المنضبط تقوم على حكومة أغلبية واضحة الهوية تحصل على تفويض شعبي وبرلماني وتكون قادرة على تنفيذ برنامجها دون شركاء متعارضين داخل السلطة مع تمثيل محدود لبقية القوى ضمن لجان برلمانية وضمانات دستورية وأدوار رقابية فعالة ومسارات حوار وطني دوري، كما يمكن تقليل المحاصصة تدريجياً عبر إصلاح قانون الانتخابات ودعم الأحزاب البرامجية، وتطوير المؤسسات الأمنية والإدارية ويتم تعزيز دور المعارضة البرلمانية بحيث تصبح عنصراً أساسياً لنجاح أي أغلبية فهي تمنع الانحراف وتحافظ على التوازن السياسي.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

د. حيدر الخفاجي

د. حيدر الخفاجي

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!