وآليات إعادة إنتاج السلطة، وطبيعة العلاقة بين النخب السياسية والناخبين في المجتمعات التي تسود فيها الاعتبارات الشخصية والعشائرية والولاءات الجزئية على حساب مبادئ المواطنة الحديثة.
تتجاوز الزبائنية كونها ممارسة سياسية ظرفية لتصبح منظومة متكاملة تُعيد تشكيل العملية الانتخابية وتؤثر بشكل مباشر في مخرجاتها، كما تُكرّس ديناميات سياسية واجتماعية تُعيق إمكانات التحول الديمقراطي، وعليه فإن تناول هذا المفهوم ودلالاته يساعد على تفسير اختلالات العملية الانتخابية في العديد من الدول، ولا سيما في السياقات الانتقالية.
أولًا: مفهوم الزبائنية ودلالاته النظرية
تُعرَّف الزبائنية في الأدبيات السياسية بأنها علاقة تبادلية غير متكافئة تقوم بين الراعي السياسي الذي يمتلك الموارد والنفوذ، والزبون الذي يعتمد على هذه الموارد للحصول على منافع شخصية، في ظل غياب أو قصور الأطر القانونية والمؤسساتية الكفيلة بضمان حقوق المواطنة.
وتحمل الزبائنية دلالات تشير إلى وجود خلل هيكلي في وظيفة الدولة، يتمثل في تحويل الموارد العامة إلى أدوات لاستمالة التأييد السياسي، مما يفضي إلى إضعاف الشرعية المؤسسية وتعزيز النفوذ الشخصي للنخب، كما تعكس هذه الظاهرة انحرافًا عن المنطق الديمقراطي الذي يفترض وجود علاقة تقوم على المساواة الحقوقية بين المواطن والدولة، بحيث تصبح السياسة مجالًا لتبادل المنافع وليس لتداول السلطة وفق قواعد عقلانية وبرامجية.
ثانيًا: الزبائنية والعملية الانتخابية
تؤثر الزبائنية بشكل مباشر في العملية الانتخابية، إذ تُعيد تشكيل طبيعة التنافس السياسي من منافسة تقوم على البرامج والرؤى إلى منافسة قائمة على توزيع المنافع الفردية والولاءات الشخصية، وتُصبح قدرة المرشح على تقديم الخدمات أو الوساطات أو الحماية عاملًا حاسمًا في تحديد السلوك الانتخابي للناخبين.
وفي هذا السياق، تتراجع أهمية الخطاب السياسي، ويكتسب المال السياسي وشبكات النفوذ الاجتماعي دورًا محوريًا في حشد الأصوات وتوجيهها، وتؤدي هذه الدينامية إلى تكريس استمرار النخب التقليدية في السلطة، بحكم امتلاكها الأدوات اللازمة لبناء شبكات زبائنية واسعة، ما يحد من إمكانية صعود قوى سياسية جديدة لا تمتلك الموارد ذاتها.
كما ينتج عن هذا النمط الانتخابي اختلال في تمثيل الإرادة الشعبية، إذ لا تعكس النتائج بالضرورة قناعات سياسية أو برامج، وإنما تعكس حجم النفوذ الزبائني، مما يُفقد العملية الانتخابية جزءًا كبيرًا من مضمونها الديمقراطي.
ثالثًا: العلاقة بين الناخب والنخب السياسية في ظل الزبائنية
تُحوِّل الزبائنية العلاقة بين الناخب والنخب السياسية إلى علاقة تبعية تتأسس على تبادل المنافع، بحيث يتخلى الناخب عن دوره كمواطن صاحب حقوق لصالح دور الزبون الباحث عن الخدمات والحماية، ويُقابل ذلك تحوّل السياسي من ممثل للمصلحة العامة إلى وسيط يمتلك القدرة على التحكم بالوصول إلى الموارد.
في مثل هذه الأنظمة، تضعف علاقة المواطن بالدولة كمؤسسة مسؤولة عن تقديم الخدمات وفق معايير قانونية، ويصبح السياسي هو القناة الأساسية للحصول على هذه الخدمات، وبهذا، تتشكل علاقة هرمية غير متكافئة تستند إلى الولاء الشخصي وليس إلى التمثيل السياسي القائم على البرامج أو الأداء، وتسهم هذه العلاقة في تعزيز انقسامات اجتماعية وهويات فرعية تُوظّف سياسيًا، مما يجعل العملية السياسية مرتهنة لشبكات النفوذ الاجتماعي والعشائري والطائفي بدلًا من القواعد المؤسسية.
رابعًا: آليات الارتباط الزبائني
تعمل الزبائنية من خلال مجموعة مترابطة من الآليات التي ترسّخ نمط التبعية، أبرزها:
1. تسييس الخدمات العامة وجعلها رهينة الانتماء السياسي أو العشائري.
2. توزيع المنافع الفردية مثل التعيينات والوساطات والمعونات، بدلًا من الاستثمار في الخدمات العامة.
3. التحكم بالموارد الحكومية واستخدامها كوسيلة لتعزيز النفوذ الانتخابي.
4. استخدام شبكات العلاقات الاجتماعية كقنوات لنقل التأييد وتنظيم الولاء السياسي.
5. الاعتماد على المال السياسي في الحملات الانتخابية، مما يساهم في اختلال تكافؤ الفرص بين المرشحين.
خامسًا: الآثار والنتائج المترتبة على الزبائنية
تتجاوز آثار الزبائنية حدود المجال السياسي لتشمل البعد الاجتماعي والاقتصادي، ويمكن رصد هذه الآثار كما يلي:
أولًا: الآثار السياسية
1. إضعاف المؤسسات الرسمية، عندما يعتمد المرشحون والأحزاب على شبكات الزبائنية بدل البرامج السياسية، تتراجع مكانة المؤسسات الرسمية (البرلمان، الأحزاب، الأجهزة الرقابية)، ويصبح النفوذ السياسي قائمًا على الولاءات الشخصية لا على الكفاءة أو البناء المؤسسي.
2. إعادة إنتاج النخب نفسها، تسمح الزبائنية بإبقاء نفس الشخصيات أو الشبكات في السلطة؛ لأنّ توزيع المنافع يخلق قاعدة من المؤيدين تعتمد على الراعي، وبالتالي يُعاد إنتاج ذات النخب السياسية في كل دورة انتخابية، مما يُضعف فرص التجديد السياسي.
3. تقييد إرادة الناخب، تدفع الزبائنية الناخب إلى التصويت بدافع الحاجة وليس القناعة السياسية، فتختفي حرية الاختيار الواقعية، ويصبح الصوت الانتخابي أداة تبادل وليس تعبيرًا عن موقف سياسي.
4. تشويه المنافسة الانتخابية، رجّح الكفة لمن يمتلك الموارد المالية وشبكات النفوذ على حساب المرشحين المستقلين أو الأحزاب الصغيرة، مما يُفقد العملية الانتخابية تكافؤ الفرص.
ثانيًا: الآثار الاجتماعية
1. تعميق الانقسامات داخل المجتمع، ترسّخ الزبائنية الانقسام الاجتماعي عبر تشجيع الولاءات الفرعية (العشائرية، الطائفية، المناطقية) بدل الانتماء الوطني، هذا يعزز الصراعات الاجتماعية ويفكك النسيج المجتمعي.
2. انتشار ثقافة الاتكال، يصبح المواطن معتمدًا على الراعي السياسي للحصول على الخدمات أو الوظائف، فيتحول إلى متلقٍّ لمنافع لا إلى صاحب حقوق، وهذا يُضعف الروح المدنية ويقلّل من المشاركة السياسية الواعية.
3. تراجع الثقة بين المواطنين والدولة، عندما يرى المواطن أن الخدمات تُمنح بناءً على الولاء وليس المواطنة، يفقد ثقته بقدرة الدولة على تحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا يزيد الشعور بالإحباط والإقصاء.
ثالثًا: الآثار الاقتصادية
1. هدر المال العام، يتم توجيه الموارد المالية الحكومية نحو شبكات الزبائنية بدل المشاريع التنموية، فتذهب الأموال إلى خدمات فردية أو وعود انتخابية لا تتناسب مع خطط التنمية.
2. إعاقة النمو الاقتصادي، الزبائنية تُضعف بيئة الاستثمار؛ لأن القرارات الاقتصادية تُتخذ بدافع الولاءات لا بدافع الجدوى الاقتصادية، كما تؤدي إلى غياب المنافسة العادلة، مما يحدّ من تطور القطاع الخاص.
3. انتشار الفساد الوظيفي، العقود، التعيينات، والوظائف تكون مبنية على الولاء السياسي، وليس على الكفاءة، هذا يقود إلى سوء إدارة الموارد، ويُضعف الأداء الحكومي، ويزيد من معدلات الفساد.
4. إعادة توزيع غير عادل للثروة، يستفيد من الموارد فئة صغيرة مرتبطة بالزعيم السياسي، بينما تُحرم الأغلبية من حقوقها الاقتصادية، هذا يفاقم الفقر ويعمّق عدم المساواة داخل المجتمع.
إن الزبائنية تمثل ظاهرة هيكلية تُعيد تشكيل العملية السياسية بطرق تُضعف أسس الديمقراطية وتُعيق بناء دولة المؤسسات، فهي لا تقتصر على تبادل المنافع بين السياسيين والناخبين، بل تمتد لتشمل منظومة متكاملة تؤثر في بنية الدولة ووظائفها، ويؤدي استمرار هذه الظاهرة إلى تكريس دورة مغلقة من إعادة إنتاج السلطة، وتعميق حالة الاعتماد على الزعيم أو الحزب بدلًا من الدولة، مما يُبقي المجتمعات في حالة من الجمود السياسي والتنمية المحدودة.
ومع أن الحدّ من الزبائنية يتطلب مقاربات متعددة، تشمل إصلاحات مؤسسية وتعزيز سيادة القانون وتوسيع المشاركة السياسية الواعية، إلا أن نقطة الانطلاق تكمن في توطيد مفهوم المواطنة وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، بصفتهما الفاعلين الأساسيين في أي عملية تحول ديمقراطي حقيقي.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!