المقامرة والرهان بين أوروبا وإيران

المقامرة والرهان بين أوروبا وإيران
قد تكون للأسابيع المقبلة كلمة الحسم في صراع أوروبا الطويل لإدارة طموحات إيران النووية، ففي الثامن والعشرين من شهر آب الماضي أعلنت كل من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا أنهم بصدد تفعيل آلية العودة التلقائية المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231..

بقلم الكاتب: جون كالابريزي- معهد الشرق الأوسط

 

لتبدأ رسميا عملية مدتها ثلاثون يومًا يُرجَّح أن تنتهي بإعادة فرض جميع العقوبات الأممية التي رُفعت بموجب الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، المعروف رسميًا بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة"، وقد حظي القرار الذي يمثّل تصعيدًا كبيرًا في مساعي أوروبا لتقييد طهران حظي بتأييد فوري من الولايات المتحدة، في إشارة إلى رغبة الأوروبيين بالحفاظ على التنسيق الوثيق مع واشنطن، وتقليص خطر إنزلاق المنطقة في دورة جديدة من الصراع.

 

رهانات غير مسبوقة

إن نفوذ أوروبا آخذ في التلاشي، ففي 18 تشرين الأول/ أكتوبر ستفقد مجموعة E3 صلاحيتها القانونية لتفعيل العودة التلقائية بشكل منفرد ما يعني نهاية ما بقى من أوراق الضغط الإجرائية، وفي الأثناء ما تزال إيران تعاني من انقسامات سياسية داخلية، وأزمات اقتصادية وتداعيات مستمرة للهجمات الإسرائيلية والأمريكية على منشآتها النووية، إن مآل عملية الثلاثين يومًا قد يحدد ما إذا كانت إيران ستبقى ضمن إطار معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) أو ستتجه نحو عزلة ومواجهة أوسع، بما يحمل من تداعيات تتجاوز الشرق الأوسط.

لقد حظي قرار الأوروبيين بدعم أمريكي فوري؛ إذ أشاد وزير الخارجية ماركو روبيو بالخطوة، مؤكدًا أن واشنطن "ما تزال منفتحة على التفاوض المباشر مع إيران من أجل التوصل إلى حل سلمي ودائم للمسألة النووية الإيرانية"، ويعكس هذا الموقف مساعي أوروبا للتنسيق الوثيق مع أمريكا حرصًا على منع إيران من استغلال الانقسامات عبر الأطلسي، وضمان أن لا يتحول الضغط المتزايد إلى صراع جديد.

 

العودة التلقائية: قوة وحدود

إن في قلب المشهد تكمن أداة قانونية قوية، فقرار مجلس الأمن 2231 الذي أضفى الطابع القانوني على الاتفاق النووي لعام 2015 يتيح لأي دولة مشاركة بأن تعلن أن إيران (دولة مخلة) وبمجرد صدور مثل هذا الإعلان وإحالته إلى المجلس سيبدأ عدٌّ تنازلي من 30 يومًا ما لم يُعتمد قرار جديد يؤكد استمرار رفع العقوبات، لتُعاد تلقائيًا جميع العقوبات الأممية التي سبق رفعها بموجب الاتفاق، هذه الآلية تتجاوز عمليًا إمكان استخدام روسيا أو الصين لحق النقض (الفيتو).

وفي حال التفعيل فستُعاد ستة قرارات سابقة (2006-2010) بما يشمل إعادة فرض حظر السلاح، ومنع الأنشطة المرتبطة بالصواريخ الباليستية، وقيود مالية واسعة، وسوف يكون البرنامج النووي والصاروخي الإيراني هو الأكثر تضررًا من بين الجميع، وحتى لو جرى الالتفاف جزئيًا على العقوبات من طرف الصين وروسيا فإن الأثر الرمزي والنفسي لإدانة أممية سيكون عميقًا، وذلك من خلال تكثيف الحصار الاقتصادي، وزيادة عزوف المستثمرين، واستمرار إضعاف الريال الإيراني. لكن هذه الآثار الرمزية قد تتجاوز بـ(كثير) الآثار المادية الفعلية لوجود ثغرات في التنفيذ، خصوصًا من جانب الولايات المتحدة، وهو ما مكّن إيران من الحفاظ على صادرات نفطية ضخمة إلى الصين والإبقاء على مصادر إيرادات أساسية رغم العقوبات؛ إذ تؤكد بيانات حديثة أن صادرات الخام الإيراني إلى الصين بلغت مستوى قياسيًا في حزيران/ يونيو 2025 بمتوسط 1,8 مليون برميل يوميًا، كان معظمها بأسعار مخفّضة تجذب المصافي الصينية الصغيرة (teapot) لتجاوز القيود الرسمية. ورغم التشديدات الخطابية، فقد اتخذت واشنطن خطوات محدودة عمليًا لفرض كلفة حقيقية على الصين أو العراق جراء استمرار تجارتهما مع إيران.

 

سباق أوروبا مع الزمن

لقد أعطى إعلان E3 لشهر أيلول/ سبتمبر أهمية استثنائية (كنافذة) عمل حرجة؛ لوجود سببين رئيسيين: أولًا، ينتهي مفعول آلية العودة التلقائية في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، وبعدها ستتطلب إعادة فرض العقوبات تصويتًا جديدًا في مجلس الأمن قد يتعرض لفيتو موسكو أو فيتو بكين. ثانيًا، ترى أوروبا في أيلول/ سبتمبر فرصة إجرائية مناسبة مع تولي كوريا الجنوبية رئاسة المجلس، في حين ستنتقل الرئاسة في تشرين الأول/ أكتوبر إلى روسيا، وهو ما سيعقّد التحركات اللاحقة. لذلك تكتسب اجتماعات جنيف في 2 أيلول/ سبتمبر وما بعده طابع "الفرصة الأخيرة" أمام الأوروبيين لابتكار مخرج دبلوماسي قبل أن تصبح العودة التلقائية أمرًا واقعًا. وقد أشارت مجموعة الأزمات الدولية إلى أن الأوروبيين عرضوا تمديدًا لمرة واحدة لستة أشهر مقابل شروط منها استعادة مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحصر مخزونات اليورانيوم المخصّب لكن طهران رفضت العرض، ورغم بقاء الأوروبيين منفتحين على تأجيل محدود بشروط، فإن الإعلان العلني عن بدء إجراءات العودة التلقائية يُظهر استعدادهم لتغليب التنفيذ على الانتظار.

 

التحدي الإيراني: رفض وانقسام

يرفض المسؤولون الإيرانيون أصلًا فكرة أن أوروبا يمكنها تفعيل العودة التلقائية، فقد صرّح إبراهيم عزيزي، رئيس لجنة الأمن في البرلمان، أن اوروبا "لا تملك أي مشروعية قانونية ضد إيران"، في حين حذّر نائب المحافظ علي رضا سليمي من احتمال انسحاب طهران من معاهدة حظر الانتشار النووي. أما وزير الخارجية عباس عراقجي فشبّه التفعيل بـ"عدوان عسكري"، رغم اعترافه بأنه سيجعل من وضع إيران "أكثر صعوبة وتعقيدًا."

لكن خلف هذه التهديدات، ينقسم النظام داخليًا. إذ يقال إن الرئيس مسعود بزشكيان و"جبهة الإصلاح" طرحوا أفكارًا غير مسبوقة مثل تفكيك برنامج التخصيب مقابل رفع العقوبات، في حين يرى المتشددون أن التخصيب هو آخر ورقة تفاوضية بيدهم ضد الولايات المتحدة، على أن الإصلاحيين يعدون العزلة المتصاعدة لإيران بمنزلة تهديد وجودي. هذه الانقسامات تعكس القلق الستراتيجي الإيراني، ذلك أن التخلي عن مخزون 60% يعني فقدان أوراق ضغط في أي مفاوضات مستقبلية مع واشنطن، وكشف مواقع اليورانيوم قد يعرّض إيران هجمات إسرائيلية أو أمريكية إضافية، وحتى القبول بتمديد إجرائي سيعني اعترافًا بشرعية آلية يرفضها النظام أصلًا.

 

أزمة متفاقمة

إن الملف النووي يتصادم مع أزمات داخلية أوسع، فإيران تواجه انهيارًا اقتصاديًا، وأزمات مياه بسبب الجفاف، وسخطًا شعبيًا متواصلًا. وفي حين تعمّق الانقسامات السياسية الشرخ بين النخب، تتأهب الأجهزة الأمنية القمعية لموجات احتجاج متوقعة.

إن قدرة النظام على الصمود أمام الحصار الاقتصادي والاضطرابات الداخلية تستند إلى القمع المستمر والقدرة على التكيف مع العقوبات؛ إذ طوّرت إيران مهارات فائقة في استخدام النظام المصرفي الموازي، وأوراق الشحن المزورة، والتجارة بالمقايضة لتجاوز القيود الغربية، وهو ما يخفي عشرات المليارات من الدولارات من صادرات النفط والبتروكيماويات لاسيما المتجهة منها إلى الصين. وتؤكد وزارة الخزانة الأمريكية أنها تتعقب ما تسميه بـ "الأسطول المظلم" من الناقلات، لكن عقبات التنفيذ تبقى كبيرة.

خارجيًا، تحتمي إيران بالواردات الصينية من نفطها، ما يخفف من وطأة العقوبات الغربية؛ لذا قد يكون أثر العودة التلقائية محدودًا ماديًا، لكنه كبير رمزيًا؛ إذ يعزز شعور الحصار، ويزعزع سعر الصرف، ويزيد عزلة طهران المالية.

 

مشكلة التنفيذ

حتى لو أعادت العودة التلقائية كل ثقل العقوبات الأممية السابقة فسيبقى أثرها العملي موضع شك؛ إذ سمحت واشنطن لإيران فعليًا بتصدير 1.5 مليون برميل يوميًا إلى الصين، ولم تفرض كلفة تُذكر على العراق جراء استيراده الغاز والكهرباء الإيرانيين. هذا السجل يجعل من غير المرجح أن تتحول الخطوة الأوروبية إلى ضغط فعّال ومُحكم.

أما طهران من جانبها فقد باتت أكثر قدرة على التكيّف مع العقوبات، معتمدة على المشتريات الصينية والقنوات المالية الموازية والتجارة الإقليمية بالمقايضة، وقد عزز النظام هذه القدرة بوسائل قمع داخلي تضمن ألا تتحول المعاناة الاقتصادية إلى معارضة سياسية منظمة.

وفي حين يطرح الإصلاحيون مقترحات لتفكيك التخصيب مقابل رفع العقوبات فإن القيادة المحيطة بالمرشد لا ترى سببًا للتنازل. بل إن خامنئي رفض صراحة عروض التفاوض النووي المباشر، واصفًا المطالب الغربية بأنها "إهانة جسيمة"، وعادا الأزمة النووية أزمة "مستعصية."

وهذه الرسائل تعكس قناعة القيادة بأن العقوبات لن تُطبق بصرامة، وأن الصمود ممكن عبر القمع والتحايل، ما يعزز موقف المتشددين الرافضين لأي تنازلات.

 

صراعات قانونية وجمود جيوسياسي

لا تفتقر إيران إلى الحجج. فمن منظورها، خسر الأوروبيون مصداقيتهم منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018، مما جعل أوروبا عاجزة عن الوفاء بوعودها الاقتصادية؛ لذا ترى طهران أن بيد الأوروبيين "العصا" فقط (العقوبات)، بينما "الجزرة" (رفع العقوبات وضمانات الأمن) بيد واشنطن.

أما روسيا فقد طرحت مشروع قرار لتمديد المهل ستة أشهر مقابل خطوات إيرانية محدودة، في محاولة لحماية حليفتها وإرباك الوحدة الغربية، لكن تصميم العودة التلقائية يجعل موسكو قادرة على التأخير فحسب لا على منع العملية من أصلها.

 

حلّ محتمل

هناك خيار ضيّق لإيران وذلك عن طريق نهج تدريجي بدلًا من الامتثال الكامل والفوري، فبدلًا من المطالبة بشفافية كاملة -وهو أمر سياسي مستحيل في طهران- يمكن لأوروبا اقتراح خارطة طريق مرحلية تتضمن أن تتخذ إيران خطوات محدودة لاستعادة بعضٍ من رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في حين تستخدم E3 مجلس الأمن لكسب الوقت والتنسيق مع واشنطن. أما مسألة مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 60% فتُؤجل لمراحل لاحقة، بما يحافظ على أوراق الضغط لدى الطرفين.

 

الخاتمة

مع التفعيل الرسمي للعودة التلقائية، انتقل الموقف من الاحتمال إلى الفعل، وأمام أوروبا معضلة صارخة: فهل تفرض العقوبات وتخاطر بانسحاب إيران من معاهدة حظر الانتشار، أم تحاول انتزاع حل دبلوماسي في اللحظة الأخيرة على الرغم من ضيق الوقت؟، إن الأسابيع المقبلة ستشهد خسارة أوروبا قدرتها على تحويل سلطتها القانونية إلى نفوذ فعلي، والنجاح في نهاية المطاف سيعتمد على التنسيق مع واشنطن في التنفيذ، وعلى القدرة على إدارة جمود القوى الكبرى ومواجهة تحدي طهران، فهل ستنجح مقامرة أوروبا أم أن الدبلوماسية ما تزال قادرة على تجنب مواجهة كاملة؟.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net


ترجمة: د. لطيف القصاب

ترجمة: د. لطيف القصاب

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!