في حين تعمل إدارة ترامب على توسيع اتفاقات إبراهام في الشرق الأوسط وصولًا إلى القوقاز وآسيا الوسطى فإنها تغفل عن تحوّل دراماتيكي في التصور العام العربي والإسلامي،
محمد باهرون- مركز دبي لبحوث السياسات العامة
ألكس فاتانكا- باحث اكاديمي من جامعة إسيكس البريطانية
فبعد أن كانت إسرائيل تُشبَّه حسب المخيلة الدينية للمسلمين واليهود- بـالطرف الضعيف وهو (داود)، في مقابل الطرف الأقوى وهو (جالوت)، يبدو أن الأدوار قد انعكست هذه الأيام، فإسرائيل المدعومة بقوة عسكرية غير محدودة وبمساندة أمريكية مطلقة، لم تُعدّ مجرد قوة كبيرة، بل صارت هي القوة المهيمنة في المنطقة، وهذا التحوّل في موازين القوى يضع دول الخليج أمام معضلة: هل يمكن أن تكون إسرائيل شريكًا في السلام؟.
لقد دفعت الحملات العسكرية الممتدة على مدى عامين من غزة إلى لبنان، وسوريا، واليمن، وانتهت بضرب إيران، دفعت الكثير من المسؤولين الخليجيين إلى الاستنتاج بأن إسرائيل لم تعد تسعى إلى الردع فحسب بل إلى الهيمنة، وبدل أن تكون قوة حافظة للوضع القائم، باتت إسرائيل توظف قوتها العسكرية لقلب النظام الإقليمي.
وإذا كانت اتفاقات إبراهام قد صيغت جزئيًا لبناء جبهة موحّدة ضد إيران، ومحورها المسمّى بمحور المقاومة فإن معادلة القوى تغيّرت الآن؛ لأن الخطر الإيراني قد تراجع لكن إسرائيل نفسها أصبحت مصدر تهديد جديد للاستقرار الإقليمي، وهو الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية تجاه مستقبل هذه الاتفاقات، لقد عززت خطوات الحكومة الإسرائيلية هذه الانطباعات، ومنها قرار الكنيست الرافض لأي دولة فلسطينية مستقبلية، وهو القرار الذي سبق الرفض الإسرائيلي للمبادرة السعودية– الفرنسية لحل الدولتين.
ومع سقوط أكثر من 60,000 شهيد فلسطيني منذ بداية حرب غزة، ونجاة مدن خليجية بأعجوبة من تداعيات الحرب الإسرائيلية– الإيرانية الأخيرة يزداد الشعور بأن إسرائيل باتت مستعدة لاستخدام القوة ليس للدفاع عن نفسها فحسب، بل لإعادة تشكيل الإقليم استراتيجيًا.
ويتجاوز هذا التحوّل ميدان المعركة، فإسرائيل التي تتحدّى الضغوط الدولية من واشنطن والأمم المتحدة دون أن تتحمل عواقب تُذكر تكشف عن بوادر تحوّل سياسي أعمق، وبحسب مراقبين خليجيين فإن واشنطن نفسها لم تستطع إرغام إسرائيل على وقف العمليات، أو تحرير الأسرى، أو تجنّب التصعيد مع إيران، فقد شنّت تل أبيب هجومًا على الأراضي الإيرانية قبل أيام من انطلاق جولة جديدة من المحادثات النووية بين واشنطن وطهران، وعلى الرغم من اعتراضات الولايات المتحدة قامت واشنطن في ما بعد بقصف مواقع نووية إيرانية بداعي منع التصعيد، هذه الأحداث مجتمعة أطاحت بالافتراضات القديمة بخصوص الردع الأمريكي وضبط النفس الإسرائيلي.
استبدال الاعتداء بالاتفاق
في ظل هذه المعطيات تجري دول الخليج مراجعات لاتفاقات إبراهام؛ لأن هذه الاتفاقات بدل أن تكون إطارًا لتعزيز السلام والاستقرار، باتت تمثل غطاءً للهيمنة الإسرائيلية، وهذا التهديد يثير قلقًا خاصًا لدى السعوديين الذين دعموا الاتفاقات رمزيًا عبر فتح مجالهم الجوي أمام الرحلات الإسرائيلية لكنها اليوم تصر على أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد نحو التطبيع، وهو ما ترفضه إسرائيل وجها لوجه.
وفي الوقت ذاته، فإن المساعي الرامية لضم دول ذات غالبية مسلمة مثل أذربيجان وكازاخستان إلى اتفاقات إبراهام لا تمثل سعيا لإبرام صفقات سلام جديدة بل هي إشارة تغازل أمريكا من حيث الاصطفاف ضد إيران وروسيا، لكن وجود علاقات دبلوماسية قائمة منذ عقود بين هاتين الدولتين أي (أذربيجان وكازاخستان) وإسرائيل لم يمنع الاحتجاجات الشعبية خلال حرب غزة، التي انتقدت وجود التطبيع مع غياب العدالة عن الفلسطينيين، فالأمر لم يعد كما كان قبل خمسة أعوام، فالتعاطف اليوم مع فلسطين أعمق، وأوسع انتشارًا داخل المجتمعات العربية والإسلامية.
إن مكمن القلق لدول الخليج يتمثل في أن ما تسمى بعقيدة الذراع الطويلة لإسرائيل أي الضربات الاستباقية لأعدائها في جبهات متعددة لم تعد تُفهم بوصفها ستراتيجية دفاعية بحتة، بل بصفتها خطة ترمي إلى تفتيت الإقليم، ففي إيران استهدفت الهجمات الإسرائيلية ليس البنية العسكرية فحسب، بل استهدفت أيضًا السجون والقواعد شبه العسكرية، إلى جانب محاولات إشعال الفتن في مناطق الأقليات مثل خوزستان، وبلوشستان، وكردستان.
وفي سوريا سوّغت إسرائيل عملياتها في مناطق ذات الغالبية الدرزية بذريعة حماية الأقليات، ويخشى قادة الخليج من احتمالات جعل هذه العقيدة العسكرية قابلة للتطبيق على دول الخليج الأخرى من بينها العراق، بل حتى السعودية نفسها، هذا الخوف المتزايد من تحوّل إسرائيل إلى (جالوت إقليمي) يطرح تساؤلا مفاده: هل ينبغي للدول العربية الاستمرار في دعم إطار يمكّن هذا السلوك؟ أم ينبغي إعادة صياغته ليعكس أولويات المنطقة وأهمها تمكين الدبلوماسية، وخفض التصعيد والاحتواء؟.
بعض دول الخليج مثل قطر وعُمان، أعادت بالفعل تموضعها بموقع الوسيط بين إيران والغرب، أما السعودية فإنها تسلك مسارًا حذرًا يقضي بإبقاء قنوات الاتصال مع إسرائيل مفتوحة، مع إعادة إحياء العلاقات مع إيران، والتركيز على بناء الدولة داخليًا، ويشمل ذلك المسار جهودًا في اتجاه استقرار العراق، ومنع انهيار سوريا، وإعادة الانخراط مع الحوثيين في اليمن، والهدف من ذلك هو تحقيق توازن إقليمي لا البحث عن هيمنة.
لقد عززت حرب الأيام الاثني عشر بين إسرائيل وإيران هذا التحول، فالهجوم على المواقع النووية الإيرانية، وردّ إيران بضربات على قاعدة العديد في قطر، زعزع ثقة الخليج بخصوص الحماية الأمريكية، وبالاقتران مع فشل الرئيس ترامب سابقًا في الرد على هجمات عام 2019 التي استهدفت منشآت نفطية سعودية رئيسية، تدرك الآن الزعامات الخليجية بأن الضمانات الأمريكية مشروطة، وأن النزعة العسكرية الإسرائيلية المنفلتة قد تجلب الكارثة إلى عتبة أبوابها.
حتى إيران قد تكون بصدد التغيّر، فمنذ الحرب الأخيرة أعادت طهران هيكلة جهازها للأمن القومي، مُنشئة مجلس دفاع جديد برئاسة مسعود بزشكيان، وبمشاركة معتدلين مثل علي لاريجاني، وقد ركز خطاب إيران بعد الحرب على الدبلوماسية، بما في ذلك فتح قنوات مع باكستان ودول مجموعة (بريكس)، وتزداد قناعة دول الخليج في أن إيران تبدو الآن أقرب إلى صورة (داود) منها إلى صورة (جالوت).
الواقعية تستدعي وجود صانعي السلام
في هذا السياق، على دول الخليج أن تعيد التفكير في شكل النظام الإقليمي الممكن، إذ لا يمكن توسيع اتفاقات أبراهام من دون تغيير في سلوك إسرائيل، فالسلام لن يأتي من طريق الهيمنة، بل من طريق التعاون، وهذا يتطلب من إسرائيل أن تتصرف بوصفها جارا في المنطقة، لا بصفتها قوة احتلال، وهذا ليس استرضاءً بل واقعية، إن أرادت دول الخليج بناء سلام مستدام، فعليها تعزيز المبادئ الأساسية لاتفاقات إبراهام: الاستثمار في الدولة، والعدالة، والاعتراف المتبادل، وقد يكون إعادة تصور إطار عمل يشمل كلاً من إسرائيل وإيران، ويستند إلى مبدأ عدم الاعتداء، هو السبيل الوحيد القابل للتطبيق والاستمرار.
في عالم تزداد فيه مؤشرات تعدد القطبية، فإن السعي لإيجاد منطقة خالية من تحكم جالوت ليس أمرا مستحيلا، بل هو ضرورة استراتيجية، على أن الاستقرار الحقيقي لن يأتي من غياب القوى المهيمنة فحسب، بل من وجود توازن القوى الإقليمية سيترك غيابه فراغًا يستدعي وجود جالوت جديد أو أكثر، وهؤلاء سيجلبون معهم أشكالا مختلفة من الفوضى، إن التحدي لا يكمن في زوال القوة أو السلطة بل في إدارتها سعيا لبناء نظام إقليمي يؤمن حقا بسياسات ضبط النفس، والمعاملة بالمثل، وحفظ السيادة.
اضافةتعليق