لا زالت الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة مستمرة منذ ٨/١٠/٢٠٢٣، تخللتها هدنة مؤقتة لعدة ايام، لم تفلح جهود الوساطة والتسوية والمساعي الحميدة لانهاء هذه الحرب، كما لم تحقق ادوات الضغط والتصعيد الصهيوني عسكريا واقتصاديا ضد القطاع، الاهداف المطلوبة بالرد او انهاء وجود حركة حماس ولم ينجز التهجير السكاني المنشود اسرائيليا من قبل سكان غزة، فتوجه نتنياهو الى التصعيد في الضفة الغربية والتحضير لشن هجوم بدأت غاراته الجوية، في ضرب مدينة رفح الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة، والتي تتوجه إسرائيل الآن لاجتياحها على الرغم من وجود أكثر من مليون فلسطيني لجأوا إليها هرباً من القتال هناك. ويأتي الهجوم في الوقت الذي اجتمع فيه مسؤولون من الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر ومصر في القاهرة قبل ايام لاستئناف المفاوضات حول إطار لوقف ممتد للقتال، من المحتمل أن يستغرق حوالي ستة أسابيع، والذي من شأنه أن يؤدي إلى قيام حماس بإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين الذين تحتجزهم.
بعد أسابيع بدا فيها أن الجيش الإسرائيلي قام بتقليص عملياته في غزة، على الأقل مقارنة بهجماته السابقة، وأدت المراحل الأولى من الهجوم على رفح مرة أخرى إلى زيادة حدة الصراع، وجددت الاهتمام الدولي بشأن الغزو الإسرائيلي للقطاع، ويعتقد نتنياهو أن عملية رفح ستسهم في تقويض القدرات العسكرية لحركة حماس، وربما تؤدي إلى قتل قادتها كونها المعقل الاخير لحركة حماس فمن دون عملية عسكرية في رفح، فإن حركة حماس وقياداتها سوف تبقى موجودة، فضلاً عن بُنيتها العسكرية، حسب تصوره، والدفع بحل قضية الأسرى والرهائن؛ من خلال جعل حماس تقبل بشروط إسرائيل للتهدئة.
حتى أيام قليلة مضت، كان معبر رفح آخر مكان في غزة بمنأى عن الدمار، حتى مع تقدم الهجوم الإسرائيلي، الذي دخل الآن شهره الخامس، جنوباً بلا هوادة، في وقت امر فيه نتنياهو الجيش بوضع خطة لإجلاء المدنيين من المدينة، ولكن مع تدمير بقية قطاع غزة فعليا وإغلاق الحدود مع مصر، فإنه لا يوجد مكان يذهب إليه الفلسطينيون في رفح الا انشاء مخيمات في شمال القطاع وهذا امر يرفضه السكان، ونتيجة لذلك، قوبل الهجوم المخطط له بانتقادات دولية، بما في ذلك من قبل بعض حلفاء إسرائيل وشركائها، الذين بدأوا بالفعل في التصدي بشكل أكبر للعمليات الإسرائيلية في غزة.
في حين أن السياسة الأمريكية الرسمية بشأن الصراع لم تتغير، فقد تبنى الرئيس جو بايدن لغة انتقادية بشكل متزايد في الحديث عن تأثيره الإنساني. وفي الأسبوع الماضي، وصف العمليات العسكرية الإسرائيلية بأنها مبالغ فيها، وحذر نتنياهو يوم الأحد من غزو رفح دون خطة ذات مصداقية وقابلة للتنفيذ لحماية المدنيين. وفي الوقت نفسه، اتبعت المملكة المتحدة وفرنسا في الأيام الأخيرة خطى واشنطن في فرض عقوبات على المستوطنين الإسرائيليين المتهمين بارتكاب أعمال عنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ويؤكد التوجه نحو غزو رفح على افتقار إسرائيل إلى أي استراتيجية حقيقية في غزة، ويسعى نتنياهو الى تدمير القطاع بالكامل، بمنطق مفاده أن استئصال البنية الأساسية الاجتماعية في غزة من شأنه أن يؤدي إلى استئصال حماس. ولكن في حين تم تدمير معظم قطاع غزة، فإن حوالي ٨٠% من شبكة الأنفاق تحت الأرض التابعة لحماس لا تزال سليمة. وفي الوقت نفسه، ليس هناك الكثير مما يشير إلى أن حماس فقدت القدرة على القيام بعمليات عسكرية.
وهذا يترك الوضع في غزة من منظور أمني، في الأساس كما كان عليه الآن قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم. والفارق الوحيد هو أن إسرائيل قتلت عشرات الآلاف من المدنيين ودمرت البنية التحتية المدنية للقطاع، في ظل عدم وجود خطة استراتيجية حقيقية للسيطرة على غزة، ولا حتى ماذا ستفعل عندما تنتهي عملياتها العسكرية هناك في حال تحقق هذا الافتراض.
في حسابات الربح والخسارة للصراع والحرب بين اسرائيل وحماس ومن يقف مع الطرفين، فإن اسرائيل دخلت بأطول حرب من الناحية الزمنية وبمعدل خسارة بشرية الأكثر عددا وبكلفة مالية واقتصادية الاغلى في تاريخ اسرائيل.
لكن نتنياهو يعتقد نفسه رابحا على المستوى الشخصي في هذه الحرب اذ لم تسقطه الانقسامات بين أعضاء الحكومة ولا الاحتجاجات الشعبية او التظاهرات المتكررة لأهالي الرهائن الذين تحتجزهم حماس لغاية الان، كما اجلت الحرب مثوله امام القضاء بتهم فساد، وهو يعتقد ان الاستمرار بالحرب سيبقيه في منصبه، ولهذا سيتابع حربه وينقل المعركة الى رفح معتمدا على دعم أعضاء الحكومة لخيار محاربة الفلسطينيين حتى القضاء على قضيتهم وليس فقط القضاء على حماس.
يحاول نتنياهو مواصلة الحرب على غزة عبر طرح تبريرات بمثابة اخفاق له، من خلال تأكيده بأن كل اهداف هذه الحرب لازالت لم تتحقق وهو ساعيا لذلك، وفي طليعتها القضاء على حماس وتحرير الرهائن، فوقف الحرب سوف يعني بالنسبة للكثيرين في المجتمع الإسرائيلي هزيمة لإسرائيل وعدم تحقيق أهدافها من الحرب، كما ان نتنياهو يطمح بإطالة امد الحرب لتصوير حماس بأنها كيان متوحش ارهابي يجب استئصاله من خلال هذه الحرب بشكل نهائي، وربما هذا ما يدفع حسب تصوره بالمجتمع الإسرائيلي والقوى السياسية والقيادة العسكرية الى القبول بتوسيع دائرة الحرب والهجوم على مدينة رفح بغض النظر عن الخسائر البشرية لدى الطرفين.
لكن في الواقع والمنظور الجيوسياسي خسر الجيش الإسرائيلي سمعته على انه جيش قوي وفاعل لا يقهر وخسرت إسرائيل من رصيدها السياسي دوليا على انها الديموقراطية المثالية والوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، ومثلت امام القضاء الدولي في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة وجرائم حرب.
بالإمكان القول ان نتنياهو قد ربح، ولو على المدى القصير، ولكن إسرائيل خسرت الكثير. فلسطينياً في قطاع غزة يمكن القول ان اللحمة الفلسطينية سكانياً توسعت، وابرزت القضية الفلسطينية دوليا بشكل ادان اسرائيل وحققت تعاطف مع الفلسطينيين نوعا ما، كما ان حماس لم تخسر الحرب ولازالت صلبة، رغم الانقسامات بين يحيى السنوار وقياديي الميدان وبين القيادة السياسية التي تريد تنحيته ممثلة بإسماعيل هنية، لكن هذه الحرب زادت الشرخ بين حماس والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
كما كلفت هذه الحرب الفلسطينيين اكثر من 28 الف قتيل حتى الان ولم تعد غزة مدينة مؤهلة للسكن، وصنفت حماس دوليا حركة إرهابية، ومع ذلك فأن قياداتها في الداخل يصرون على الإمساك بالقرار الفلسطيني لان الاستمرار في الحرب قد يمنحهم شرعية ويجعلهم شريكا في اقتسام المكاسب.
حسابات الربح والخسارة لازالت متكافئة لدى الطرفين المباشرين بالحرب الدائرة في غزة، لكن داعميّ الطرفين قد تكون حساباتهم في نطاق الربح اكثر من الخسارة، الولايات المتحدة تستغل الحرب لتنفيذ مصالحها واهدافها في منطقة الشرق الاوسط وفي الداخل تستغل الورقة انتخابيا، وتبعد الاضواء عن اهدافها المتراجعة ازاء الغزو الروسي لاوكرانيا والتنافس مع الصين، وهي فرصة للعودة عن ما يشاع عن انكفاءها وتراجع مكانتها عالميا.
اما محور المقاومة الذي تمثله ايران قد يكون ربح لغاية الان في حرب غزة، ولكن هل يشاركهم الفلسطينيون في هذا الربح؟.