عكست احداث كركوك الاخيرة بعد احتجاجات مكوناتية على الاتفاق السياسي بين الحكومة والحزب الديمقراطي الكردستاني بتسليم المقار الحزبية في كركوك الى البارتي وانسحاب القوات الامنية الاتحادية من احد هذه المقار في منطقة رحيم اوه، اذ تحرك انصار الاطراف السياسية العربية والتركمانية لرفض هذا الاتفاق وقطعت طريق كركوك- اربيل ونصبت الخيام مقابل نزول انصار البارتي الى المدينة وتصعيد الموقف الاحتجاجي ضد القوات الامنية وحصول اعمال شغب خسرت فيها المدينة ضحايا وجرحى واضطراب امني.
يعود اصل موضوع الاتفاق السياسي الى عام ٢٠١٧ حينما سيطر الجيش العراقي الاتحادي على محافظة كركوك المتنازع عليها وحقولها النفطية بالاتفاق مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ومنذ ذلك الحين قامت قوات اتحادية متعددة بما في ذلك قوات الحشد الشعبي بالسيطرة على المحافظة وقد طمأن هذا الترتيب الجديد العرب والتركمان في كركوك لكنه ترك الاكراد يشعرون بالهزيمة بعد استفتاء انفصالي للاكراد الذي اجري في ٢٥/٩/٢٠١٧، مما اثار مخاوف بغداد من أن تعلن حكومة إقليم كردستان في أربيل قيام دولة كردية وضم كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها وثرواتها النفطية.
أدى تراجع السيطرة الكردية على كركوك وحقولها النفطية، إلى إثارة أزمة كردية بين الاتحاد الوطني الكردستاني من جهة والحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة اخرى، كما قطعت علاقة الاخير بالحكومة الاتحادية، وأدى ذلك إلى تأجيج التوترات الامنية والعرقية في كركوك، حيث شعر الأكراد المحليين بعدم الأمان في غياب القوات التي تمثلهم، بعد مجيء حكومة محمد شياع السوداني ادرج ضمن المنهاج الحكومي التزامات على الحكومة حول عودة المقار الحزبية للبارتي في كركوك ونينوى وصلاح الدين وديالى دون ان يتم الاعلان عن هذا الاتفاق في حينها كما انه لم ينفذ بشكل مباشر، لكن قرب اجراء انتخابات مجالس المحافظات ومن ضمنها كركوك طالب البارتي بتنفيذ هذا الاتفاق الذي التزم السوداني بتنفيذه وجاءت هذه التداعيات بين الرفض والتأييد لهذا الاتفاق.
والحال ان استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤجج الاستقرار الاجتماعي والامني في المحافظة لان البارتي له ثقله وتأثيره في كركوك التي يعتقد ان له حق المشاركة في ادارتها سياسيا وامنيا عبر عودة قوات البيشمرگة للمحافظة، مستغلا قربه من قوى الاطار التنسيقي ورئيس الحكومة وايضا قرب الانتخابات القادمة التي يأمل الحزب من خلالها استرجاع منصب المحافظ للاكراد الذي استبدلته بغداد بنائبه العربي بصفة مؤقتة استمرت ٦ سنوات، ولا يزال هذا الوضع عالقاً، وقد ادى عدم حل هذا الوضع المؤقت الى حدوث احتكاكات خطيرة شهدناها قبل ايام. اذ سيركز البارتي على مسألة افتقار القوات الامنية الاتحادية والحشد الشعبي المنتشرة في كركوك الى التفويض الواضح والسلوك المعادي للاكراد، والعمل على تأكيد مضايقتهم وانخراطهم في سياسات الاقصاء والاضعاف لهم، ويرفض ممثلو العرب والتركمان عودة البارتي الى كركوك لان ذلك سيجر معه عودة البيشمرگة والاسايش فيها، وهم يفضلون ان يبقى ويتمركز الجيش الاتحادي على حدودها لابعاد هذا السيناريو، اذا هنالك شعور -خاصة عند العرب السنة- بالقلق إزاء الخطط المستقبلية المتعلقة بعودة البارتي لكركوك، لأسباب ليس أقلها استبعادهم من المفاوضات بين بغداد وأربيل.
ان القلق والمخاوف الحقيقية تتركز عند كل من القادة العرب والتركمان حول عودة البيشمرگة في القيادة الامنية المشتركة في كركوك حيث ينظرون الى مثل هذه الخطوة لن تتكرس الا عبر عودة البارتي للمحافظة وممارسة النفوذ السياسي فيها وهذا الرفض والتخوف مستند بالنسبة اليهم الى التعريف الدستوري لهذه القوات بتوصيفها (حرس الاقليم) وكركوك ليست جزءً من اقليم كردستان واقعا.
ما حصل في كركوك يمثل بصراحة هشاشة الالتزام بالدستور والقانون واحترام النظام العام قبال هيمنة الاحزاب السياسية الحاكمة في التخلي عن حل معضلة كركوك وفقا للتشريعات القانونية والدستورية واللجوء نحو الصفقات والاتفاقات السياسية المخالفة للدستور والقانون واستغلال سياقات البيئة السياسية والامنية غير المستقرة للتغطية على عدم شرعية هذه الصفقات والاتفاقات.
كان الاجدر بالحكومة الاتحادية أن تفكر في الحد من وجودها العسكري في المناطق الحضرية حيثما أمكن ذلك، وخاصة في مدينة كركوك، ووضع قواعد ومقار خارج مركز المنطقة، مع نقل المسؤوليات الأمنية تدريجياً إلى الشرطة المحلية. ولكن في الوقت نفسه، يجب على السلطات إعادة بناء قدرة الشرطة المحلية -وهو مسعى طويل الأمد- حيث عانت هذه القوة من الإهمال في التدريب والمعدات والتنظيم، وأصبحت غير قادرة على مواجهة التهديدات الامنية فهي بكل الاحوال بحاجة الى الاسناد او التواجد من مقتربات المدينة، مع ذلك لابد من الشروع بهذا الخيار، لكن الحكومة الاتحادية كانت أولويتها الرئيسية الأخرى هي إبقاء تهديد داعش بعيدًا بأي قوات متاحة؛ ولم تخصص موارد لتحقيق توازن أمني يتكيف مع الظروف الخاصة السائدة في كركوك، ولم يتم تنفيذ اتفاق حزيران عام 2019 بين بغداد وأربيل لاستبدال الشرطة الاتحادية بالجيش العراقي.
كركوك قنبلة موقوتة كما تسمى رغم انها مدينة التعايش والتآخي وهي بمثابة عراق مصغر ولهذا لا يمكن ضمان استمرار استقرارها خاصة مع التدخلات الخارجية بشؤون المحافظة امنيا وسياسيا واجتماعيا، في ضوء ذلك ومع فرضية التعامل مع الامر الواقع لابد من حل حاسم لهذه المدينة، وهذا يبدأ بتشكيل أمني جديد عادل وفعال من كل المكونات المحلية في كركوك، والتوصل إلى اتفاق نهائي بين جميع الأطراف في كركوك يمكن تقديمه إلى حكومة السوداني، وأياً كان التفويض الممنوح لهذا التشكيل، يتعين على الجميع أن يدعم إنشاء مركز تنسيق مشترك بين الجيش العراقي والبيشمركة والقوات الممثلة للمكونات التي يتم تجنيدها محلياً، اذ من منظور سياسة مكافحة التمرد، ليس من المنطقي استبعاد القوات المحلية من قيادة التنسيق الامني المشتركة في كركوك والمناطق المتنازع عليها، لأن هذه الوحدات اكتسبت خبرة واسعة ومعلومات استخباراتية في هذه المناطق عندما قاتلت داعش وسيطرت على اجزاء من المحافظة خلال سنوات 2014-2017.
في ضوء ذلك، ينبغي على القيادات والفواعل السياسية ممارسة الضغط السياسي على اطراف النزاع الخارجية والقوى المحلية للابتعاد عن الاجراءات الحزبية المسيسة من خلال توفير المساعدة الأمنية وتشجيع الإصلاحات التي تعزز المؤسسات الحكومية واحترام القانون، وليس اعلاء هيمنة الأحزاب السياسية في هذه المدينة.
لقد أدت تحديات السنوات الأخيرة، بما في ذلك داعش ووصول جهات أمنية جديدة، إلى فرض ضغط على التعايش في كركوك. ويؤدي الوضع الأمني غير المستقر إلى تفاقم التوترات العرقية والعنصرية الناجمة عن عدم حل فعال للوضع المتأزم في المحافظة والمناطق المتنازع عليها الاخرى، وستكون المناقشات بشأن الوضع معقدة وتستغرق وقتاً طويلاً، ولكن لا يوجد سبب لعدم العمل على تلبية حاجة أكثر إلحاحاً الآن: وهي إنشاء ترتيبات سياسية وامنية جديدة، ولإنجاز هذه المهمة، ستحتاج الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان وممثلو المكونات المحلية كافة إلى العمل معاً، والاستفادة من الدعم الدولي والاقليمي للتوصل الى حل شامل، وفقا للدستور والقوانين النافذة وليس لمقتضيات العمل الحزبي والانتخابي فقط.