واجهت مدينة الكوفة على مدى عصور طويلة الكثير من المحن والمعضلات وما زالت تواجه مثلها في العصر المتأخر، فهذه المدينة كانت طيلة التاريخ منحازة الى الحق والى اهل الحق، وهذا احد الاسباب التي دعت الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) الى جعلها عاصمة الخلافة في عصره مفضلا اياها على البقاء في المدينة المنورة، حيث عاش الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) وكانت مستوعبة لمجمل اعماله وحروبه واقواله وافعاله، كما شكلت الكوفة في نظر امير المؤمنين علي (عليه السلام) اهمية استراتيجية في حربه ضد المارقين والقاسطين والناكثين الذين تمردوا على النهج الاسلامي الصحيح في اقامة الحق واتباع مبادئ القرآن في ارساء دعائم العدل الالهي.
كانت مدينة الكوفة منذ بداية تأسيسها حاضنة لكثير من الشرائح الاجتماعية التي تمحض الولاء لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) ضد من يخالفه في المنهج والرؤية التي هي منحرفة بكل تأكيد عن منهج ورؤية الاسلام الحق، فلم تكن الكوفة في وقتها خالصة لآل بيت النبوة (عليهم السلام)، بل كان الولاء فيها موزعا بين بني امية والخوارج وآخرون يمنحون الولاء لجهات خارجية متنوعة، وطبعا يوجد عدد معتد به ربما رجحت لصالحهم كفة الاغلبية من اصحاب الولاء العلوي والحسيني، فيجب ان يكون مثل هذا الامر واضحا عندما يراد محاكمة الكوفة على قاعدة الانصاف بالنسبة الى حسم قضية الولاء لآل البيت (عليهم السلام) في تلك الفترة، لذلك فأن الكثير من اهل التحقيق ورواة التاريخ يجانبون الصواب عندما يتحدثون عن غدر اهل الكوفة وعن سجاياهم القبيحة الاخرى، ويغفلون او يتجاهلون عمدا –مع الاسف- عشرات الروايات عن المعصومين التي يكون مضمونها القطعي هو الثناء على هذه المدينة واهلها، ويذكرون فيها جهادهم وتفانيهم في المنهج الحسيني ومنهج آل البيت بوجه عام.
يؤخذ على الكوفة –تاريخيا- بأنها ملعونة واهلها ملعونون! وهي التي لم يكن مستعدا استعدادا نظريا على الاقل للوقوف ضد بني امية من بين ابناء كل الامصار الاسلامية سواهم، كما انها المدينة التي رسخ فيها الايمان بمبدأ آل بيت النبوة الى درجة ان الامام المهدي (عجل الله فرجه) سوف يتخذها عاصمة لحكمه الذي سيطال كل العالم، وسيكون ابناؤها اصحاب الشرف الكبير بأن يتلقوا اول خطاب من الامام المهدي من بين ابناء الارض قاطبة، واذا ما نظرنا الى موقف الكوفة واهلها اوان ثورة الامام الحسين (عليه السلام) فلابد لنا من غربلة بعض الاحداث وتمحيصها وتدقيقها بالنظرة العلمية وبالرؤية المنطقية الثاقبة، واود هنا ان اشير الى بعض الامور منها:
الامر الاول: ان الموجود في المخيال الاجتماعي العام عند الخطباء وعند جمهور المسلمين على السواء، ان الحسين (عليه السلام) لا يمكن له ان يخرج على حكم بني امية لولا ان اهل الكوفة ورطوه بأن كاتبوه ووعدوه بالنصرة، وانهم بسبب هذا يعتبرون ذوي المسؤولية المباشرة بقتل الحسين واهل بيته، ولو انهم –اي اهل الكوفة- قعدوا ولم يراسلوه ولم يعدوه بالنصرة لاتخذ الامام الحسين قرارا اخر غير الاقدام على القتل بالطريقة التي اختارها لنفسه الشريفة!.
ان هذا الامر يتعارض مع منطق الاحداث التاريخية اجمالا وتفصيلا، مضافا الى انها تتعارض مع المقام العالي جدا للامام الحسين (ع) التي تقتضي بانه امام معصوم لا يغرر به، ولا يمكن ان يقدم على عمل لم يحسب نتائجه على اساس الخداع الذي يبديه اي طرف من الاطراف، مضافا الى ان دعوة اهل الكوفة ليست هي السبب في تكون النهضة، بل ان نهضة الامام الحسين (ع) هي التي اوجدت او سببت ان يقدم اهل الكوفة دعوتهم للامام، فبعدما شرع الامام في تحركه واظهار معارضته، سمع اهل الكوفة بقيام الامام وتحركه ولما كانت الظروف عندهم مهيأة نسبيا تداعى اهلها للاجتماع وقرروا دعوة الامام لنصرته، فكان عامل دعوة اهل الكوفة لا يشكل الا عاملا ثانويا ذا قيمة بسيطة جدا وعادية للغاية –مقارنة بالنهضة الحسينية-.
الامر الثاني: ان اهل الكوفة الذين راسلوا الامام شخصيا من الوجهاء الاجتماعيين ومن شيوخ القبائل قد وفى العدد الكبير منهم، كما قد تخلى عدد كبير منهم ايضا عن عهده، فلماذا يتم التركيز من قبل الخطباء على الجانب المظلم من القضية واغفال الجانب المشرق والمنير؟، فأن مقتضى العدل والانصاف ذكر الجانبين معا، لكي يكون المستمع او القارئ امام صورة واضحة لما وقع بالفعل، وليس امام صورة مشوهة لا تستطيع اطلاقا الصمود امام منهجية البحث النقدي.
الامر الثالث: ان عددا كبيرا نسبيا يقارب الاربعين شخص من الملتحقين بمعسكر الامام الحسين (ع) لم يكن في اكثره من بسطاء الناس، وان كان بعض منهم كذلك، بل كانوا في اكثرهم من وجهاء القوم ومن زعماء القبائل والبطون داخل المجتمع الكوفي، وهذا الامر يشير الى الاتي:
اولا: ان من راسل الامام الحسين هم هؤلاء واضرابهم من اهل الحل والعقد في عشائرهم وطبقاتهم الاجتماعية، لان العاديين من الناس لا يقدمون على عمل كهذا لانهم في الحقيقة فاقدون للقدرة لانهم غير مالكين لحق اتخاذ القرار في عشائرهم وقواعدهم الاجتماعية التي ينحدرون منها، وحتى لو اقدموا على مكاتبة الامام الحسين فلن تكون لرسائلهم اي اثر يترتب عليها، لان الاثر الحقيقي يترتب على الرسائل التي يبعثها اهل الحل والعقد في اوساطهم الاجتماعية وعشائرهم التي يرأسونها.
ثانيا: من البديهي جدا ان يكون رئيس القوم قادرا على اقناع اعدادا معتدا بها منهم ان لم يقنعهم جميعا، بأن يشاركوه مصيره عندما يقدم على اتخاذ قرار من اي نوع كما هو مقتضى التركيبة الاجتماعية والعشائرية في الكوفة وغيرها حينها، لكننا نجد ان هؤلاء السادة لم يستطيعوا ان يصحبوا ولو اعدادا بسيطة من اقوامهم، فمن خلال الاشارات التاريخية المروية نعلم ان حصارا محكما قد ضرب على الكوفة اثر مقتل مسلم بن عقيل (عليه السلام) وسيطرة ابن زياد المطلقة على الكوفة، بعد حملة ظالمة ومروعة من القتل العشوائي والتهديد والوعيد المشفوعين بحملة ارهاب واسعة، وهذا مما سبب تعذر تسلل الكثير من الانصار والمحبين من عامة الناس الى الخروج من حصار الكوفة واقتصر الخروج على رؤساء القوم مستعينين بشتى الوسائل التي اتيحت لهم بسبب مواقعهم الاجتماعية.
ثالثا: لو افترضنا وصول الامام الحسين (ع) الى الكوفة فعلا قبل انقلاب الامور فيها الى هذه الدرجة من سيطرة الارهاب الاموي عليها لنفذوا فعلا رغبتهم بأن يقاتلوا مع الحسين ضد الحاكم الاموي المستبد، بداعي ان الكثير منهم ممن كان راغبا بالالتحاق في ركب الحسين او كان متضامنا معه قد قتل بوقت قصير من وقوع الحادثة، ولا بد انهم لم يكونوا يمثلون اعدادا بسيطة، غاية الامر ان التاريخ لم يذكرهم ولم يعتن بأسمائهم، لانهم كانوا من الطبقات العادية ولم يكونوا يتمتعون بالشهرة والاهمية الاجتماعية، وهذا ليس ذنبهم في الحقيقة بل ذنب التأريخ نفسه.
ختاما، ان وجود عشرات بل مئات الاحاديث والروايات الواردة عن آل البيت (عليهم السلام) التي تؤكد الثناء على الكوفة واهلها في مختلف العصور، هي بالغة حد التوتر ولا شائبة عليها سندا او دلالة، على الرغم من المحاولات الكثيرة لتغييب هذه الاحاديث والروايات عن عامة المجتمع بحكم امتلاك المال والاعلام بيد السلطة المعادية لآل البيت، فلا عجب من تمسك بعض الخطباء وغيرهم من رواة التاريخ –جهلا او عمدا- بغية التقليل من شأن الكوفة وازدراء اهلها ووصمهم بجريمة قتل الامام الحسين (عليه السلام) وخيانته، وابعاد هذه الجريمة النكراء عن السلطة الاموية ومواليهم ومحبيهم في العراق والمدن الموالية لحكمهم.