بعد ان شرع البرلمان العراقي قانون رقم (٤) لسنة ٢٠٢٣ المتضمن التعديل الثالث لقانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والاقضية رقم (١٢) لسنة ٢٠١٨، انتهت الى حدٍ ما افرازات احداث تشرين ٢٠١٩ المتمثلة بوجود حراك ووعي اجتماعي تمخض عنه تشريع قانون مجلس النواب رقم (٩) لسنة ٢٠٢٠ (الذي الغاه البرلمان الحالي بموجب القانون رقم (٤) اعلاه)، كما تم عبور وتجاوز كل مخرجات الانتخابات المبكرة التي اجريت وفقا للقانون الملغى اضافة الى تراجع تداعيات احتجاجات تشرين سياسياً وشعبياً واعلامياً.
يعكس القانون الجديد تحولات محورية في المشهد السياسي العراقي، فمن الناحية التشريعية والقانونية دمج هذا القانون بمواده وفقراته انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات بآن واحد بصياغات قانونية عالجت الكثير من الاختلالات والثغرات التي عانت منها القوى السياسية التقليدية خاصة التي تراجعت مقاعدها في الانتخابات المبكرة، مختزلا العديد من المواد والبنود والفقرات والاحكام التي وردت بالقانونين السابقين لانتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات مع الغاء مادة من القانون رقم (٣٦) لسنة ٢٠٠٨ الملغى الخاص بانتخابات مجالس المحافظات والاقضية والنواحي، وفقرة من القانون رقم (٢١) لسنة ٢٠٠٨ المعدل الخاص بقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم، اضافة الى اعادة صياغة الوضع القانوني لانتخابات محافظة كركوك بشكل يرضي الاطراف السياسية كافة، ومعالجة عدم دستورية بعض الفقرات في القانون الملغى التي قررتها المحكمة الاتحادية المتعلقة بالعد والفرز اليدوي والتصويت الالكتروني وتسريع النتائج ومطابقة الاصوات، اضافة الى اعادة فعالية رقابة وكلاء الكيانات السياسية حول عدم التطابق بين النتائج في المحطات والمراكز وتدقيقها في المركز الوطني وغير ذلك.
اما التحولات على الصعيد السياسي التي عولجت في مواد هذا القانون فأهمها اعادة العمل بنظام الدائرة الواحدة للمحافظة بدل الدوائر المتعددة واعتماد آلية نظام سانت ليغو المعدل 1,7 في احتساب الاصوات للقوائم والافراد والغاء نظام الصوت الواحد غير المتحول او نظام اعلى الاصوات مع قيود وتفاصيل عديدة من حيث شروط قبول المرشح وانتقاله بين القوائم بعد الفوز وطرق التحالف والائتلاف واداء اليمين الدستورية وآلية الاستبدال للاعضاء وتعويض المقاعد لأعلى الخاسرين من ذات القائمة بدلا من الدائرة الانتخابية، ومعالجات عديدة تتعلق بعمل مفوضية الانتخابات وتسوية اوضاع اعضاء المجالس السابقين وتحديد عدد المقاعد بالنسبة لمجالس المحافظات بـ12 مقعد لكل مليون ومقعد لكل 200 الف لما زاد صعودا، واعادة ترتيب وتحديد مقاعد كوتا الاقليات في المحافظات وثباتها في الانتخابات النيابية وايضا معالجة كوتا المرأة بما لا يمكن زيادة عتبة النسبة الدستورية 25%.
هذه التحولات القانونية والسياسية لها ابعادها المهمة في قراءة المشهد السياسي والاجتماعي العراقي بعد تحديد موعد الانتخابات القادمة لمجالس المحافظات في موعد لا يتجاوز كانون الاول 2023.
وعلى الرغم من تحديد موعدها في تشرين الثاني من العام الجاري، الا ان اجراءها امر غير مؤكد خاصة بعد إعلان الصدر اعتزال العمل السياسي نهائياً، وهذه بالطبع ليست المرة الأولى، وقد يتراجع عنها قريباً كما فعل من قبل، لكن في حال تراجعه او تغاضيه عن مشاركة انصاره في هذه الانتخابات فإن اجراء الانتخابات سيتأكد وسيثبت مرة أخرى أن الصدر رقم صعب في معادلة النظام السياسي العراقي.
من المتوقع أن يواصل الصدر المسار باتجاه المشاركة السياسية بدءا من مجالس المحافظات لتوسيع تواجده في المحافظات ومجالسها انطلاقا للعودة الى البرلمان تعزيزا لخطابه الاصلاحي، ولقناعته ان إصلاح النظام القائم على المحاصصة والطائفية وتلبية طموحات العراقيين والقضاء على الفساد وتحقيق التنمية، ووضع حد للتدخلات الخارجية في شؤون العراق، لا يمكن ان يتحقق الا عبر التواجد والتأثير في العملية السياسية من خلال مجالس المحافظات ومجلس النواب والسلطة التنفيذية.
لا شك في أن انسحاب أنصار الصدر سياسياً لاقى تحفظات كثيرة من انصاره واتباعه وحلفاءه لكنه في الحقيقة أسهم في تجنيب العراق سيناريو كارثي، فيما لو استمر الانسداد السياسي وتفاقمت احداث المنطقة الخضراء.
في ضوء ذلك لا تتمنى قوى الاطار التنسيقي وشركائها عودة الصدر لما قد يسببه من تراجع في نفوذها السياسي، وعودة الاختلاف والانسداد وبالتالي تكرار المواجهة لكن بنطاق اوسع، ولهذا على هذه القوى أن تعي جيداً ضرورة الوصول إلى تسويات وتفاهمات مُرضية مع الصدر، وتجنُّب مخاطر العودة إلى المربع الأول واستخدامه الشارع مرة أخرى، واعادة فَتْح الباب أمام حسم الصراع بالقوة او بتدخل الأطراف الخارجية، ولهذا فإن التفاهم والتنسيق المسبق قبل إجراء انتخابات مجالس المحافظات يمثل مخرجاً للأزمة المحتملة.
ان انسحاب الصدر مثل تهدئة مناسبة مكنت الاطار التنسيقي من اعادة الثقة بها شعبيا وسياسيا خاصة مع اداء رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الايجابي المحسوب عليهم، وبذلك القى الصدر الكرة في ملعب قوى الإطار التنسيقي والتي يفترض أن تقوم بالمقابل بدورها في التهدئة والتحرك نحو التوافق والعودة إلى طاولة التفاهم وعدم الانفراد بمسألة تشكيل الحكومة الجديدة، لكن هذا لم يحصل، ولتصويب هذا المسار لابد قبل الشروع في إجراء اي عملية انتخابية وضع حد للصراع السياسي المزمن وإنهاء عزلة التيار الصدري سياسياً، فمن الخطأ أن تَعتبر أو تتعامل قوى الإطار التنسيقي مع انسحاب الصدر على أنه هزيمة أو تراجع، فمن شأن مثل هذا التفكير أو القراءة الخاطئة للمشهد أن تبتعد عن إفرازات الأزمة وتطوراتها، وهو ما قد يجر اتباع القوى السياسية مجدداً إلى الشارع، وقد تتأزم الأمور إلى ما لا يُحمَد عُقباه.
مقدمات هذا التفاهم حاليا غير موجودة وقد تكون هنالك قنوات تواصل غير معلنة بين الطرفين لترتيب اجواء السباق الانتخابي لكن الرهان على توتير الاجواء وتعقيد مشهد اجراء الانتخابات لازال قائما لدى الفاعلين الخارجيين والمحليين، مع ذلك يشكل اجراء انتخابات مجالس المحافظات القادمة محطة استقراء مهمة لشكل الخريطة السياسية التي ستتوضح لاحقا عبر تعبيد الطريق صوب اجراء الانتخابات النيابية واستكشاف مخرجاتها، ولهذا ستحرص قوى الاطار التنسيقي وحلفاءها على اجراءها وعلى الاغلب كما قلنا مشاركة التيار الصدري بشكل غير مباشر في هذه الانتخابات، لكن من المتوقع حصول خلافات سياسية واضحة حتى مع وجود مقدمات لتفاهم مبدئي على خوض الانتخابات واحترام نتائجها، لعدم انسجام المشروع السياسي والانتخابي للطرفين فضلا عن طبيعة التفاهمات والتحالفات مع القوى الاخرى، ما يعني ان اجواء عدم الاستقرار السياسي والامني ستكون حاضرة عند مشاركة التيار الصدري في الانتخابات والعودة للمشهد السياسي، وكذا الحال وبنطاق اوسع في الميدان الاحتجاجي والاحتقان الاجتماعي في حال عدم المشاركة في هذه الانتخابات ومصادرة الاطراف الاخرى المجال السياسي برمته.
هذه المعطيات تؤكد حصول تحولات سياسية واجتماعية سلبية نتيجة انسحاب الصدر وانفراد قوى الاطار التنسيقي في العملية السياسية والحكومية ورسم معالم الوضع السياسي والانتخابي القادم وبغض النظر عن المشاركة والتحالف او التفاهم من عدمه، والاستثناء على قيام هذا السيناريو، يكون عبر توقف الأطراف الإقليمية والدولية عن التدخل في الشأن الداخلي العراقي، ودعم جهود التهدئة، ومساعدة العراقيين على الخروج من هذه الازمة التي قسمت ووسعت الفجوة بين القوى السياسية، والضغط على الاطراف السياسية على تصحيح المسار، وإحلال الاستقرار والسِّلم الأهلي في العراق، ولاشك أن للزعامات السياسية والدينية دوراً مهماً في ذلك، لكن في الحقيقة أن بحث القوى الخارجية لمسار الانفتاح على العراق ايجابيا غير حاصل ولازال العراق احد المصالح التي تتنافس عليها هذه القوى ما يشكل مانعاً من دعمه ومؤازرته، كما ان غياب الرؤية والمشروع الوطني للفاعلين والزعماء المحليين يجعل كل السبل الممكنة لإحلال الاستقرار وتجاوز الاختلالات لبناء الدولة داخلياً، وعودة العراق إلى دوره الطبيعي الفاعل والمؤثر خارجياً غير قريب المدى حالياً على افضل الاحوال.