ان اخطر ما تواجه الامة في الوقت الحاضر هو التحدي الحضاري ومحاولات سلب الهوية الدينية من افرادها، فقد تعاقبت انظمة حكم ديكتاتورية دموية جعلت في سلم اولوياتها مسخ هوية الشعوب الاسلامية، وابعادها عن جذورها ورموزها التي تمدها بأسباب الحياة والقوة، فسالت الدماء وفتحت السجون على مصراعيها وشرد من شرد وقتل من قتل من خيرة المؤمنين والعلماء والمفكرين، ولعل ابرز شاهد على ذلك ما سطره تاريخ العراق الحافل بمثل هذه الاحداث والقصص. ولكن هناك شخصية استطاعت ان تصنع سدا منيعا في النفس الانسانية امام هذه الهجمات وتحولها الى وسيلة لإعلان الرفض لسياسات الحكام الظلمة، وقد تجلت هذه الشخصية بالإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وانعكاس ثورته المباركة على نفوس البشرية.
فعندما نقترب من شخصية الإمام الحسين (سلام الله عليه)، ونحاول الغوص بعيدا في المعنى المركز العميق لثورته التي هي ثورة الإنسان المطلق في سبيل إبقاء كفة الصراع راجحة إلى جانب الخير بكل ما تحتويه هذه المفردة التي لطالما حمل فكرتها الإنسان في مراحل وجوده المتعاقبة إلا أنه لم يستطع أن يتطابق معها كليا، أو قل أنه لم يبذل من الجهود الصادقة في سبيل أن يبرهن على صدق تعلقه بهذا الكائن العزيز على قلب الوجود رغم سيادة مظاهر النقيض على مفاصله الرئيسية حتى الآن.
عندما نفكر بكل هذا ونتأمله مليا فإننا نجد أننا رغم إعجابنا بالكثير مما نكتبه أو نقوله حول الإمام الحسين (عليه السلام) إنما هو دون المستوى المطلوب من جوانب شتى، ولست أعني أننا لا نختزن في أذهاننا وأعماقنا ذلك المعنى الذي قلما نعبر عنه، وهو أن الحسين (ع) لا يمكن الحديث عنه من جانب واحد بصفته إماما للشيعة فقط، بل أنه شخصية استطالت على الزمان والمكان، وتجاوزت برمزيتها البعد الشيعي أو البعد الإسلامي أو البعد الجغرافي لتعانق بُعدها الكبير في حب واحترام الإنسان، فنحن نختزن هذا المعنى في نفوسنا بشكل مؤكد، ونبتعد عنه في الكثير من تصرفاتنا، إلا أننا لا نفكر في أن نركز عليه ونضاعف الشعور به بين الناس.
كما أننا مقصرون أيضا من جهة أننا نسمح للكثير من المرتزقة بأن يحجموا من معنى الإمام الحسين (ع)، وأن يقصوا أجنحة القضية الحسينية لكي لا تحلق بعيدا في أجواء الإنسان بما هو إنسان، فيمارس هذا البعض مع الأسف أما عن قصد أو عن غير قصد إساءاته المتكررة للأبعاد الإنسانية المذهلة في قضية كربلاء، فكأنما لم يخرج الحسين (ع) إلا لكي يصبح الانتهازي المعين ذا حظوة ومنصب في السياسة الفلانية، أو لكي يصبح التاجر الفلاني مقاولا بما يكونه من العلاقات المشبوهة مع من بيده مقدرات الناس وأرزاقهم، أو كأنما لم يمنح الحسين (ع) نفسه المقدسة إلا لكي نمارس نزوعا مقيتا بحرمان الناس من حق الانتساب إليه وإلى ثورته (عليه السلام)، لمجرد أنهم ينتمون إلى مذهب إسلامي آخر، أو ربما وصل الأمر إلى ماهو أشد بشاعة، وهو حرمان الناس من حق الانتساب إلى الحسين (ع) وإلى ثورته المباركة على أساس تقليده لمرجع معين، أو على أساس ما يحمله من قناعات تنسبه إلى إيديولوجية سياسية معينة قد لا نتفق معه في خصوصها، والأسوأ من هذا الصنيع أن نعتقد بأننا نحسن صنعا بكل هذه الممارسات والاعتقادات الخاطئة والمسيئة للإمام الحسين (سلام الله عليه).
يحوم الإمام الحسين (ع) فوق تخوم الزمان والمكان، وهو فوق تصوراتنا وتخيلاتنا، ليس بمعنى أنه منفصل عنها ومبتعد كليا عن أن يكون ذا علاقة من أيما نوع معها، لكنني أقصد أنها لم تلامس إلا ذلك المعنى الجزئي الذي لا يمكن إطلاقا الاستعاضة التامة به عن معنى الإمام الحسين (ع)، فإذا ما توهم إنسان أنه قد أصبح مالكا للحسين (ع) بالحيازة، أو أنه الأولى مطلقا بأن يتحدث عن الدلالة الكلية النهائية لما قام به الإمام الحسين (ع)، نابذا كل الاحتمالات الممكنة الأخرى، سواء على مستوى الحاضر أم على مستوى المستقبل، فهو غافل عن حقيقة أنه لم يستوعب العبرة كما ينبغي لذوي الحصافة والتفكير من كونه قد تجاوز في فهمه الخاص القيمة العليا أو الأخيرة التي استخلصها أبناء جيل ما من الحسين (عليه السلام) قبله، كما أنه لم يتفهم جيدا المغزى من أنه طالما تعمق فهمه، وازدانت معرفته بطابع جديد لم يكن معهودا له من قبل فكلما قرأ أحدنا كتابا جديدا بارعا عن الإمام الحسين (ع)، تعجب من أنه لم يلتفت سابقا إلى هذه الفلسفة الباهرة الجديدة للإمام قبل إطلاعه على ذلك الكتاب، وهذه في تقديري هي أقصى ما يمكن أن تكون عليه غريزة العلم وحب المعرفة من حالات الانحدار والانحطاط.
فهل سنجعل من فلسفة الإمام الحسين (عليه السلام) فلسفة مهيمنة على قناعة الإنسان المعاصر، دون أن نشترط من جهتنا كون هذا الإنسان فردا منطقيا لمفهوم الإنسان المسلم، فضلا عن اشتراط كونه شيعيا على وجه الحصر؟، ومتى سيكون نظرنا إلى الإمام الحسين (ع) مصوبا نحو الجوهر الإنساني الأكمل في شهوده وشهادته (عليه السلام)، حيث ينتظر البشرية جمعاء أن نبلغ مستوى تمثله واستلهامه؟.