تمثل عودة الجمهور الصدري للاحتجاجات نقطة تحول مهمة في مسار العملية السياسية، فهي بمثابة رد فعل سياسي ازاء تحركات القوى السياسية وخاصة الاطار التنسيقي في مسألة تشكيل الحكومة وطرحهم مرشح استفزازي لهم لرئاستها، فطرح خيار المحاصصة والتوافق عزز عودة الاحتجاجات الشعبية لدى اتباع الصدر، لان الصدر يصرح دوما إن وجود حكومة توافقية هو المسؤول بشكل اساس عن ترسيخ الفساد واللامبالاة وسيطرة الاحزاب التقليدية على مؤسسات الدولة وبناء شبكات رعاية شخصية فئوية لها، وعدم تحقيق شيء للشعب العراقي، كما انه يعتقد ويصرح ان النظام السياسي القائم على المحاصصة والتوافق لا يستجيب لاحتياجات الشعب العراقي، وبالتالي يجب ان يأخذ الصدر وجماهيره موقف من استمرار هذا النهج في ادارة العملية السياسية.
واذا ما ركزنا على حديث الصدر مع نوابه المستقيلين في الحنانة قبل فترة، اشترط بعودته للسياسة والانتخابات حصول (الفرج) المتمثل بإزاحة الفاسدين ومن تلطخت ايديهم بدماء العراقيين من الواجهة السياسية، والمقصود بذلك ان خيار توسيع الاحتجاجات الشعبية هو السبيل لإزاحة الفاسدين، وهذا يعني تغيير النظام السياسي والدخول بعملية سياسية جديدة، لكن ومع حصول هذه الاحتجاجات ومقابلتها باحتجاجات مضادة من قبل جمهور الاطار التنسيقي، غير الصدر خطابه وتصوراته نحو الاصلاح والتغيير عبر ذات النظام السياسي والدستور النافذ، عبر حل البرلمان والدعوة الى انتخابات مبكرة اخرى، مع استمرار الاحتجاجات وتوسيعها لحين تحقيق حل البرلمان الذي سيرافقه تعقيدات عديدة تتعلق باجتثاث بعض الرموز السياسية من التصدي للشأن السياسي ومحاسبة بعض صناع القرار او محاولة عزلهم انتخابياً.
خلاف ذلك ستكون الاحتجاجات اكثر راديكالية قد تؤدي الى صدامات وتعطيل لكل مرافق الدولة في بغداد والمحافظات الشيعية على وجه التحديد، اذا ما سارت العملية السياسية باتجاهات لا تتوافق مع رؤية الصدر وهذا غير مستعبد فأن مطالبه ستعود صوب التصعيد لتغيير النظام السياسي وتجميد العمل بالدستور والعمل على وضع دستور جديد او مؤقت او تعديل الدستور الحالي بشكل يصمم نظام سياسي جديد وتأسيس مخرجات سياسية جديدة وفقاً لذلك.
هذا المسار قابل للتحقق اذا ما توافقت الارادة السياسية لدى المكون السياسي السني والكردي، ولغاية الان لا يمانع رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي دعوات ومطالب الصدر في مسألة حل البرلمان والدعوة لانتخابات نيابية جديدة لثقته بناخبيه وزعاماته للمكون السني، في حين تحفظ الحزب الديمقراطي الكردستاني حول ذلك ويبدو ان لدى الكرد اشتراطات للذهاب الى هذا الخيار كونهم يعتقدون ان المسألة صراع سياسي شيعي- شيعي لا علاقة مباشرة لهم به، رغم ان الحزب الديمقراطي قريب من الصدر في الوقت الراهن لكنه لا يتقاطع كثيرا مع الاطار التنسيقي، فهو لم يحدد الطرفين السني والكردي الموقف من تغيير النظام السياسي برمته كما يطالب به الصدر، وقد يكون التحليل الذي يذهب الى مطاوعة الصدر في الاعلام والخطاب السياسي واضحاً لكن في الواقع لن يتم تأييد هذا المشروع عند اقتراب تطبيقه نظرا لتقاطعات عديدة بين الاطراف الثلاثة اضافة الى ان العوامل والارتباطات الخارجية لها دور في تحديد جزء من هذه المواقف، لكن هذا السيناريو قابل للتحقق اذا ما وافق الطرفين وايدا المشروع الصدري في تغيير النظام السياسي برمته وبإمكانهم عبر المقاعد النيابية والنفوذ السياسي والجماهيري للأطراف الثلاثة شل النظام العام والضغط باتجاه تصميم وضع سياسي جديد يتماشى مع مشروعهم السياسي الاول القائم على اساس الاغلبية السياسية، وخاصة اذا انضم للقادة الثلاثة وجماهيرهم قوى تشرين والمستقلين والمقاطعين للانتخابات الذين يتطلعون للتغير الشامل، والصدر صراحة يراهن كثيرا على ذلك، وحصوله يعني تشكيل حكومة مؤقتة تنبثق من رحم الاحتجاجات بصيغة انقاذ او طوارئ او اي مسمى اخرى وقد تستمر لمدة ليست بالقصيرة.
قد لا يرغب الكثير من الساسة واتباعهم بهذا المسار، لكن غالبية العراقيين يجدون ان التغيير الجذري للنظام السياسي والطبقة السياسية هو الحل الاخير لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها من جديد، لان الحلول الجزئية والترقيعية لم تقدم شيء، لكن لديهم تخوفات من المستقبل فالذهاب الى مسارات غير دستورية مجهولة قد تصاحبها فوضى سياسية وصدامات تعمل على تمزيق وحدة المجتمع وهذا له عواقبه الوخيمة، وستكون الاطراف اكثر ضررا من البقاء على الوضع الراهن بما له وما عليه.
هذا المسار مرجح ايضا في المدى القصير وهنالك بعض الاجندات الداخلية والخارجية تعمل على احلاله بغض النظر عن النوايا والدوافع التي قد تكون فيها مصلحة عامة ولها مبرراتها، لكن سياقات استغلالها في تكريس الخلافات والانقسامات الفئوية من قبل بعض الاطراف ستكون هي المستفيدة في تمرير مشاريعها ومصالحها عبر هذا المسار.
خلاصة القول، ان تغيير خطاب الصدر من التغيير الشامل للنظام السياسي الى حل البرلمان، لا يعني قناعته بذلك ولا يعني انه رضخ للضغوطات الداخلية او الخارجية، لكنه يعلم ان مستلزمات الثورة العامة للعراقيين هي الفيصل وليس الجمهور الصدري فحسب، ولهذا دعوته الى الثورة السلمية الديمقراطية من جهة وتوجيهاته لجمهوره بمواصلة الاعتصامات من جهة اخرى، تؤكد انه بانتظار انضمام جمهور باقي القوى السياسية القريبة منه اضافة الى رهانه على الجمهور المقاطع للانتخابات ليتحيّن الفرصة وينفذ مشروعه في التغيير، مع ان قوى الاطار التنسيقي ومن يدعمهم لديهم مصدات قوية لتفكيك مسارات هذا السيناريو، لكن نتيجتهُ ستكون دماء غزيرة تُسال ومتاهات قادمة تواجه الجميع.