خاصة مع وصول جهودها لنزع سلاح حزب الله الى طريق مسدود، مع استمرار الحزب التمسك بسلاحه ونهجه، بل اعادة تطوير قدراته العسكرية، تصاعدت الضغوط الاقليمية والدولية على بيروت لحصر السلاح بيد الدولة، في الاسابيع الاخيرة بعد بروز نبرة التحذير الاقليمي والدولي على نحو غير مسبوق.
فقد حمل وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي الى بيروت رسالة شديدة الوضوح، مفادها ان صبر المجتمع الدولي بدأ ينفد، وان على السلطات اللبنانية ان تثبت، خلال مهلة قصيرة لا تتجاوز اسابيع، ان قرار الحرب والسلم بات بيد الدولة وحدها، بعيدا عن هيمنة حزب الله، والا فان البلاد ستكون امام خطر اندلاع مواجهة عسكرية اسرائيلية جديدة، وخلال لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، شدد عبد العاطي على ان المخاوف على استقرار لبنان باتت جدية، محذرا من تدهور سريع في الاوضاع اذا لم تتخذ خطوات عاجلة.
وقد حدد ثلاثة اولويات اساسية:
1- سحب كامل لسلاح حزب الله جنوب نهر الليطاني.
2- البدء بخطة تدريجية لنزع سلاحه شمال الليطاني.
3- الانخراط في مفاوضات مباشرة مع اسرائيل برعاية دولية.
ولم يخف الوزير المصري مضمون الرسائل الاسرائيلية التي حملها، والتي تضمنت تهديدات واضحة بشن هجوم واسع النطاق، لا يقتصر على ضربات جوية، بل قد يشمل عملية برية تستهدف مئات المواقع داخل لبنان، وبذلك اوصلت القاهرة انذارا صريحا بان اي حرب مقبلة ستكون اكثر شراسة واتساعا من حرب عام 2024، مع تركيز خاص على عزل البيئة الحاضنة لحزب الله.
ولم تكن مصر وحدها في هذا المسار التحذيري، فقد وجه المبعوث الامريكي توم براك انذارا مباشرا الى بغداد، محذرا الحكومة العراقية من اي تدخل محتمل للفصائل المسلحة الموالية لايران دعما لحزب الله في حال اندلاع مواجهة جديدة، ونقل براك رسالة حازمة مفادها ان العمليات الاسرائيلية ضد الحزب ستستمر حتى نزع سلاحه بالكامل، وان اي تحرك عراقي في هذا الاتجاه قد يعرض الاراضي العراقية نفسها لهجمات اسرائيلية، وترافقت هذه الرسائل مع معطيات استخبارية اسرائيلية تتحدث عن تصاعد التهديدات القادمة من العراق، في ظل مساع ايرانية لبناء بنية عسكرية هناك لاستخدامها عند الحاجة.
في موازاة ذلك، كثفت واشنطن اشاراتها السياسية والمالية، معتبرة ان لبنان بات تحت المراقبة، وان استمرار الدعم الدولي مشروط بخطوات ملموسة للحد من نفوذ حزب الله، واوضح مسؤولون امريكيون ان مرور عام على وقف اطلاق النار يفرض على الدولة اللبنانية خيارا حاسما: اما التحرك الجدي لضبط سلاح الحزب، او القبول بعزلة متزايدة واحتمال عودة الحرب الى الاراضي اللبنانية، حتى الحلفاء التقليديون للبنان لم يعودوا يخفون موقفهم، اذ ربطت القاهرة بوضوح اي مسار اصلاحي اقتصادي او سياسي بمعالجة ملف سلاح حزب الله.
في ظل هذا التصعيد السياسي والدبلوماسي، يظل الخيار العسكري الاسرائيلي مطروحا بوصفه الملاذ الاخير في حال فشل الضغوط، ورغم التفوق الجوي الاسرائيلي الواضح، تشير التجارب السابقة الى ان الضربات الجوية وحدها لا تكفي للتفوق على حزب الله، فبعد حرب 2024 خرج الحزب منهكا لكنه لم يستأصل، محتفظا بقدر من النفوذ والقدرة على اعادة تنظيم صفوفه، وتعترف اسرائيل نفسها على لسان مسؤوليها العسكريين، بأن القصف الجوي غير كاف لتحقيق الحسم النهائي.
لهذا، يذهب عدد متزايد من المحللين في تل ابيب وواشنطن الى اعتبار ان الاجتياح البري الواسع هو الخيار الوحيد القادر على تفكيك البنية العسكرية للحزب، فالعمل الميداني يسمح بتدمير مخازن الاسلحة والانفاق ومراكز القيادة المحصنة، اضافة الى اعتقال او تصفية كوادر اساسية. وتكشف تسريبات دبلوماسية ان اسرائيل ابلغت وسطاء دوليين عن نيتها المبدئية تنفيذ عملية برية في اي مواجهة مقبلة، تمتد من الحدود الجنوبية وصولا الى شمال نهر الليطاني، بهدف اقتلاع الوجود العسكري للحزب وقطع خطوط امداده مع سوريا.
غير ان هذا السيناريو يحمل كلفة باهظة، فإسرائيل تدرك ان اي توغل بري سيواجه مقاومة عنيفة من مقاتلي حزب الله المتحصنين في القرى والجبال، ما قد يؤدي الى اطالة امد القتال وارتفاع الخسائر، وفي هذا السياق، تبرز محاولات اسرائيلية لتهيئة الرأي العام اللبناني لاحتمال اخلاء مناطق واسعة من السكان، على غرار ما حدث في غزة، بهدف تجنب حرب الشوارع، وقد يعني ذلك موجات نزوح ضخمة من الجنوب والبقاع وربما من ضاحية بيروت الجنوبية، مع ما يرافقها من ازمات انسانية واجتماعية خانقة.
وتراهن اسرائيل في هذا المسار على احداث شرخ داخل البيئة الحاضنة لحزب الله، عبر تحميلها كلفة الحرب والدمار، على امل ان يتحول الضغط الشعبي الى عامل اضعاف سياسي للحزب، غير ان قدرة الحزب على الصمود تبقى عاملا حاسما فكما حدث في حرب تموز 2006، وكما روج داخليا خلال حرب 2024، فان مجرد البقاء وعدم الانهيار قد يسوق كإنجاز معنوي، ما يعزز تماسك قواعده.
من هنا، يتقاطع التحذير الامريكي لإيران ومحاور نفوذها مع الرؤية الاسرائيلية، اذ تسعى واشنطن الى تحييد اي دعم خارجي للحزب، لضمان عزله ميدانيا وشعبيا، فبقاء حزب الله وحيدا في اي مواجهة مقبلة قد يبدد سردية وحدة ساحات المحور، ويضعف معنويات بيئته، في مقابل صمت حلفائه الاقليميين.
ختاما: يقف لبنان اليوم عند مفترق بالغ الخطورة، عالقا بين ضغط اسرائيلي متصاعد وعجز داخلي عن انتاج بدائل سيادية حقيقية، ورغم محاولات الدولة اتخاذ خطوات محدودة لتفادي الانفجار، الا ان هذه الاجراءات تبقى مؤقتة ولا ترقى الى مستوى التحول الاستراتيجي المطلوب.
وفي ظل غياب تسوية اقليمية شاملة، يبدو ان الخيار العسكري يعد الاكثر ترجيحا في الحسابات الاسرائيلية لاضعاف حزب الله ونزع سلاحه، وكل مقدماته بدأت تتبلور الان، اما الحل المستدام فلا يمكن ان يتحقق الا عبر توافق عربي دولي واسع يقدم بديلا سياسيا وامنيا واقعيا لوظيفة سلاح الحزب داخل لبنان والمنطقة.
.............................................
الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها
*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ
http://mcsr.net
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!