شنت إسرائيل مئات الغارات الجوية في جنوب وشرق لبنان منذ الاسبوع المنصرم، مما أسفر عن استشهاد امين عام حزب الله السيد حسن نصر الله يوم الجمعة الماضي وأكثر من ١٠٠٠ شخصاً لغاية الان.
بدأت الغارات من قبل الجيش الإسرائيلي بعد ان اخطر جيش الاحتلال السكان ودعاهم الى مغادرة المناطق التي يتمركز فيها حزب الله ويخزن فيها الأسلحة، مما دفع الآلاف إلى إخلاء جنوب لبنان، اتت الحملة الجوية الاسرائيلية بعد يوم من إطلاق حزب الله أكثر من ١٠٠ صاروخ على شمال الاراضي المحتلة.
كانت إسرائيل تصرح منذ أسابيع إلى أنها ستحرك مركز عملياتها العسكرية من غزة، حيث لم يتبق لها سوى أهداف عسكرية قليلة لتحقيقها إلى الحدود الشمالية مع لبنان وحزب الله، والواقع أن حملة القصف المكثفة ضد لبنان وتنفيذ حادثة الاغتيال تشير إلى أن هنالك تحول واضح في مسار الحرب التي شنها الكيان ضد غزة لتوسيع دائرتها نحو لبنان، اذ تريد إسرائيل تنفيذ غزو بري محتمل لجنوب لبنان يستهدف حزب الله، والسيطرة على اراضيه، والتصعيد السريع من هجوم الأسبوع الماضي إلى الغارات الجوية والاغتيال، والتحرك العسكري صوب الجنوب ينذر بهذا التوجه.
بطبيعة الحال، ان القيام بذلك من شأنه أن يشعل حربا مستمرة لها تداعيات اقليمية سلبية، مع كل هذا فإن قدرة إسرائيل على تحمل المخاطر ورد فعل المقاومة وتحديداً مسار المواجهة مع حزب الله قد ارتفعت بشكل كبير، ولكن في ظل الحسابات الأمنية: الواقع يقول غير ذلك، اذ لم تعد التهديدات الكامنة على حدود إسرائيل مقبولة للاسرائيليين، اذ تم بالفعل إخلاء معظم المستوطنات الحدودية الشمالية للاراضي المحتلة، مما يعني أن التهديد الذي قد تتعرض له هذه المستوطنات عند اندلاع الحرب له مخاطرة كبيرة.
ولكن هناك أيضاً أسباب وجيهة تجعل إسرائيل غير مستعجلة لشن غزو بري على لبنان:
أولاً، هذا هو بالضبط النوع من الصراع الذي أعد له حزب الله وخطط له، والذي يحتفظ له بترسانته من الصواريخ والطائرات بدون طيار.
ثانياً: من المعروف أيضاً أن الحزب يمتلك دفاعات برية معقدة، كما أظهر ذلك خلال حربه مع إسرائيل التي استمرت شهراً في عام ٢٠٠٦.
على النقيض من ذلك، أجبرت العمليات الإسرائيلية الأخيرة -الغارات الجوية فضلاً عن هجوم أجهزة البيجر-، حزب الله على التردد، حيث يشير عنصر المباغتة الاستراتيجي الذي واجهه الحزب في الأيام الأخيرة بعد غياب الشهيد نصر الله إلى أن الحزب سيدخل في لحظات من التردد لتوسيع نطاق الحرب. وهذا من شأنه ان يعمل في حال استمرار الحملة الجوية على تقليص القدرات العسكرية لحزب الله واستنزاف معنويات انصاره، دون تجاوز العتبة التي قد تخرج حزب الله من معادلة الصراع والمواجهة.
إن حرب الاستنزاف الجوية المطولة على وجه التحديد هي النوع من الحرب التي لا يريدها حزب الله ولا يستطيع مواجهتها بفعالية. وهو يفضل خيار دخول جيش الاحتلال للاراضي اللبنانية، ومن المؤكد أن استمرار حملة القصف الحالية في لبنان، مع الخسائر المدنية التي ستصاحبها حتماً، يأتي بتكاليف محتملة لصورة الكيان الصهيوني على المستوى الدولي. ولكن ما يقرب من عام من العمليات في غزة جعل الكيان بالفعل معزولة دولياً قدر الإمكان، وهذا يعني أنه لا يمتلك أي حافز حقيقي لتجنب المزيد من الضرر لسمعته.
هناك عاملان يجب مراقبتهما في المستقبل ومن المرجح أن يقررا ما إذا كان الكيان سيمضي قدماً في غزو بري للبنان ام لا:
١- الرأي العام في إسرائيل: لقد أدى نزوح سكان المستوطنات على طول الحدود اللبنانية إلى زيادة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ إجراءات حاسمة للحد من التهديد الذي يشكله حزب الله. وإذا نجحت الحملة الجوية المشددة في تلبية هذه المطالب، فقد تكون مستدامة دون غزو. وهذا ما يريده الشارع الاسرائيلي لكن لا ترغب به حكومة الاحتلال، ان استمرار الكيان في اتباع نهج تصعيدي مستمر وخلق فوبيا عدم الاستقرار في حال بقاء حزب الله وحماس قد يسهم في تهدئة هذا الرأي المخالف للغزو المحتمل، من خلال إيجاد السبل للتكيف مع العنف المتزايد الشدة الذي قد يؤدي إلى زيادة القبول الشعبي داخل إسرائيل بخيار الاستمرار بالتصعيد، مما يعزز خيار جيش الاحتلال إلى المضي قدماً في غزو بري.
لكن هذا الغزو سيثير مخاوف حقيقية من اندلاع حرب شاملة ترتد سلباً على الكيان برمته، ناهيك عن اندلاع حريق إقليمي أوسع نطاقاً، اذ من المرجح ان تتصاعد حدة الصراع والمواجهة بين إسرائيل وحزب الله وقد يتحول إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار لكل الاطراف.
٢- رد حزب الله: رغم غياب الشهيد نصر الله وهو غياب له تأثيره البالغ الا ان الحزب سيستعيد وضعه السابق ويتجاوز التحديات بالفعل وسيوسع نطاق هجماته ضد جيش الاحتلال في حال تنفيذ خطة الغزو البري للحدود اللبنانية، اذ قال نائب امين عام حزب الله وزعيمه بالوقت الحاضر، الشيخ نعيم قاسم، يوم الاثنين الماضي في خطاب متلفز: "إن الحزب مستعد لخوض معركة طويلة ضد الكيان الصهيوني".
ان خطاب الشيخ نعيم قاسم لأتباع الحزب والشعب اللبناني على نطاق أوسع يهدف إلى إظهار صورة الهدوء والتماسك، على الرغم من خسارة حزب الله ليس فقط السيد حسن نصر الله، الذي قاد الحزب منذ عام ١٩٩٢، ولكن أيضاً العديد من القادة والمسؤولين الآخرين على مدى الأشهر القليلة الماضية، وقال: "إن الحزب اوجد بالفعل قيادات جهادية محل الشهداء الآخرين الذين ارتقوا الى الله طائعين، ويمهد الان الحزب الطريق لاختيار مدروس لزعيم جديد بدلاً من الشهيد حسن نصر الله".
مع كل ذلك من الواضح أن الحملة الإسرائيلية الحالية قد فاجأت قيادة حزب الله وأفقدتها خيرة قادتها الذين عملت على تهيأتهم منذ سنوات طويلة ما سبب ارباكاً في توازن الردع مع الكيان حالياً، فقد تسببت شدة ومدى الضربات الجوية في أضرار غير عادية في لبنان بالفعل، بما في ذلك ترسانة حزب الله، الأمر الذي جعل الحزب في حالة تراجع قياساً بما يقوم به الكيان الصهيوني من هجمات مستمرة حتى الآن.
الحقيقة أن بث خطاب الشيخ نعيم قاسم على شاشات التلفزيون دون جمهور، على النقيض من أغلب خطابات الشهيد حسن نصر الله، يشير إلى أن قيادة الحزب لا زالت لم تستوعب الصدمة، ولكن في الأمد القريب، يبدو من المؤكد تقريباً أن حزب الله سوف يستعيد وضعه وتوازنه ويتجاوز ارتباكه، وخاصة إذا شنت إسرائيل غزواً برياً على لبنان، كما ألمحت وتحركت الان، ان مثل هذا الغزو قد يعمل في الواقع على اعادة تماسك قدرات حزب الله، ليس فقط لأن دفاعاته الأرضية معدة بعناية بما في ذلك شبكة هاتفية أرضية مخصصة للاتصالات الآمنة وانفاق معقدة؛ ولكن لأن مقاتلي الحزب في جنوب لبنان يتمتعون بقدر كبير من الخبرة والتدريب والتأهيل والدافعية للمواجهة والرد برياً، وهذا يعني أن الفراغ القيادي والانتقال لقيادة جديدة لن يكون لهما تأثير كبير على الحزب عسكرياً. وفي حال تحقق احتمال شن غزو بري، فإن حزب الله، سيتمكن من تحقيق مكاسب إلى الحد الذي يمكنه من تشغيل ترسانته بسرعة، وسوف يسعى بكل تأكيد إلى فرض أكبر قدر ممكن من التكاليف والخسائر لجيش الاحتلال.
ان من ممكنات قدرة وقوة حزب الله على البقاء والمواجهة برياً او حتى بعد انتهاء الغارات الجوية دون غزو بري على المدى الطويل، ناشئة ليس فقط من صلابة قياداته وانصاره وترسانته الصاروخية، بل من قوة اختراقه للمجتمع اللبناني وتحكمه بالوضع السياسي في لبنان، من خلال انغماس الحزب في السياسة اللبنانية وتوازناتها المركبة، ما يعني أن إسرائيل لن تكون قادرة للقضاء على الحزب عسكرياً. وهذا يسلط الضوء مرة أخرى على قصر النظر الاستراتيجي في النهج الإسرائيلي الحالي تجاه غزة ولبنان، فهي تنظر إليهما فقط باعتبارهما مشاكل عسكرية، ولكن في الواقع سوف يتطلب كل منهما نوعا من الفهم السياسي الداخلي لفلسطين ولبنان وخاصة الاخير كدولة معترف بها دوليا فيها طوائف ومكونات متنوعة تترابط مع مجتمع دولي يريد له البقاء كجزء من منظومة الذاكرة التاريخية لمصالح هذه الدول من جهة، وخصوصية الوضع اللبناني وموقعه وتأثيره الجيوسياسي في المنطقة في حال التهاب حدة الحرب والصراع فيه، ما يتطلب تقديم الحل السياسي والتوصل الى وقف إطلاق نار دائم.
ان تأثير حرب الكيان الصهيوني ضد حزب الله سيكون مزعزعاً للاستقرار في الداخل اللبناني، فالسياسة اللبنانية في حالة من الشلل بالفعل، وسط أزمة سياسية واقتصادية تورطت فيها البلاد منذ عام ٢٠١٩، ولكن هذا المأزق السياسي هو نتيجة لحالة من الجمود التي عملت في بعض النواحي كمكابح لعودة الصراع العنيف على السلطة في البلاد. ومن الواضح أن إسرائيل وجهت لحزب الله ضربة عقابية، ولكن لم ينتهي الأمر بالحزب إلى إضعافه بشكل حاد او انهاء وجوده بشكل حاسم، ولو حصل ذلك فهذا يعني ان الاختلال المفاجئ في التوازن السياسي للقوى في لبنان قد يغري المكونات والفصائل الطائفية الأخرى في هذا البلد بمحاولة ملأ الفراغ بالقوة.
على الرغم من ذلك، فإن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وحلفاؤهما ليسوا في وضع يسمح لهم بالتفاعل لمثل هكذا احتمالات معقدة من الاستجابات الخاطئة التي تجعلهم في موقف لا يحقق اي شيء من الاهداف الاستراتيجية المرسومة من قبلهم: وهي التطبيع والتطويع، وكلاهما لن يتحققا بمواصلة الحرب على محور المقاومة برمته بهذه الطريقة التصعيدية، ومن المؤكد أن أي تصعيد للصراع وتوسيع نطاق الحرب سوف يدفع المنطقة إلى مزيد من الفوضى التي لن يستفيد منها اي طرف.