العراق في محنته، بين شعب جسور
وقياداته تخلفت عنه دهور
أجمع كل الذين كتبوا عن الإنجاز المذهل للشعب
العراقي يوم الثلاثين من كانون الثاني الماضي (يوم انتفاضة
الذات العراقية)، سواء من كان صادقاً فيما كتب لحبه لهذا الشعب
المجيد،أو من كتب من أجل غايات غير نظيفة (ترويجاً لمشروع
القادمين من وراء البحار والمحيطات).
اجمعوا على كون هذا الشعب قد أعطى ما عنده،
وبذل كل ما تبقى لديه وهما الدم والروح بسخاء قل نظيره، وأنه
لذلك قد أدى ما عليه.
فعلى قياداته السياسية التي تحدى الشعب كل
وسائل الموت وأساليبه من أجل أن يوصلها إلى مبنى الجمعية
الوطنية (البرلمان)، أن تسارع إلى تشكيل حكومة وطنية، شرعية،
قوية تعمل وعلى الفور على معالجة القضايا التي تواجه الوطن وحل
المعضلات والمشاكل التي يعاني منها أبناء الشعب، ابتدءاً من
قضيتي الاحتلال والسيادة وليس انتهاء بالخدمات البلدية، مروراً
بالبطالة و الفساد الإداري ومشاريع الأعمار غير غافلين قضية
القضايا، والمشكلة الكبرى التي صارت الهم الأول للناس وهاجسهم
الرئيس، في العصر الأمريكي للحرب على الإرهاب، هي الأمن
والأمان، بعد أن صيَّر المحتلون وطنناً النازف الجريح، الخارج
لتوه من آتون نظام لم تشهد البشرية له نظيراً طيلة تاريخها
السحيق من حيث التقتيل والتخريب والتدمير وزج الوطن في ثلاثة
حروب كارثية خلال عقدين من الزمان تقريباً.
نقول وبعد أن صار هذا البلد الطيب المسالم ساحة
متقدمة للحرب على الإرهاب والدفاع الاستراتيجي عن الولايات
المتحدة.
كما وينتظر شعبنا من الجمعية الوطنية المنتخبة
أن تقوم بتشكيل لجنة لصياغة دستور دائم للعراق. يضمن تساوي
أبنائه كافة أمام القانون في الحقوق والواجبات، دون تمييز بين
أحد وآخر بسبب الدين أو القومية أو الطائفة أو اللون وحتى
الجنس، دستور يكفل حكم الأكثرية مع عدم اغفال حق الأقليات
كافة. ويحترم المعتقدات الدينية والسياسية لكل إنسان ينتمي
لهذا الوطن، ويكفل له العيش الحر الكريم الخالي من الاستغلال
والإذلال. دستور يحمي حقوق المرأة ويضمن مستقبل أطفال العراق
القادمين على الرغم من أن الحكومة المنتظرة قد تكون قد تشكلت
عند نشر هذه المقالة، غير أننا نود في الأسطر التالية مناقشة
موضوع تأخر ذلك التشكيل مما ترك البلاد وهي في هذا الوضع
الكارثي، تعيش في فراغ سياسي، دستوري، إداري غاية في الخطورة،
الأمر الذي أدى إلى تعميق محنة الوطن واشتداد واتساع المعضلات
التي تواجهه، جراء مرور أكثر من شهر على أعلان نتائج
الانتخابات من غير أن تشكل الحكومة المنتظرة بسبب استمرار
المفاوضات بين القوائم الثلاث الكبرى الفائزة بالانتخابات
لتوزيع المناصب الحكومية، وخاصة الوزارات السيادية والمناصب
الرئاسية القيادية فيما بينهم، خلف أبواب موصدة باحكام!؟
ومحروسة جيدة جداً ، بعيداً عن الجماهير التي انتخبتهم ومنحتهم
ثقتها. نحن هنا لا نريد ايكال التهم لاحد، لا وكما لا نريد
ايجاد المبررات والذرائع لتلك القيادات عن أسباب ذلك التأخير،
ولكن لا بد لنا من أن نقول كلمة للمستقبل وهي: إنه يمكن أن
يكون العراقيون قد اختلفوا حول المشاركة بالانتخابات ومن ثم
شرعيتها ومدى تمثيلها لكل الطوائف الدينية والاتجاهات الفكرية
والحركات السياسية غير أننا واثقون بأنه لا يختلف عراقيان
اثنان، حول مسألة ضرورة وجود حكومة عراقية وطنية تمثل كل
العراقيين من أجل إشاعة الأمل بالنفوس القلقة وإشاعة الأمان
بالقلوب الخائفة.
كان يوم الانتخابات حقيقة جميلة رائعة، صنعت
حلماً آزوردياً عن غد أمن سعيد، وكانت أملاً كأمل اندريه
مالرو. غير أن واقع الأحداث الذي حصل بعد ذلك، نتيجة كل تلك
المفاوضات حول توزيع المناصب القيادية في الدولة، قد أحالت ذلك
اللون الأزوردي لحلم العراقيين إلى لون باهت مؤطر بحزن عميق،
وبدلاً من أن نعيش الأمل مع مالرو وصرنا نعيش معه الغزاة
والوضع البشري!؟.
نحن مضطرون إلى أن نقول، أن جماهير هذا الشعب
الجسور لم تتخلف لحظة واحدة عن ممارسة حقها واداء واجبها تجاه
بلدها يوم الانتخابات غير أن القيادات قد تخلفت عن أداء
الواجبات التي فوضها لها الشعب.وحتى قبل أن يجتمعوا تحت سقف
البرلمان.
منذ عقود طويلة لم يكن باستطاعة العراقيين
تجربة قياداتهم أو اختبارهم عملياً، وجاءت الانتخابات لتتيح
لهم هذه الفرصة، وهم يعيشون في أصعب مرحلة مروا بها منذ عشرات
بل مئات السنين.
صحيح أن تلك القيادات تعيش تجربة جديدة لم يسبق
لها خوضها من قبل وأن العمل السري عندما كانت بالمعارضة ضد
النظام السابق جعلها تعتمد ذات المنهج والأسلوب في تعاملها مع
موضوع تشكيل الحكومة المنتخبة المؤقتة.
لكن الأصح كذلك، هو أنه كان عليها أن تقرأ
الواقع السياسي الراهن الذي يعيشه شعب العراق منذ سقوط النظام
وحتى اليوم وهو يُطْحَنْ يومياً بمطحنة ما يسمى بالإرهاب
والبطالة وارتفاع الأسعار والأزمات الدورية للحاجات الأساسية،
كأزمة الوقود في (عز البرد) وانقطاع الماء والكهرباء، وانعدام
الخدمات البلدية بشكل شبه مطلق، بحيث أن العاصمة بغداد قد
تعرضت للغرق في أول مطرة حقيقية. هذا إذا لم نذكر الاختناق
المروري الذي هو أشد فظاعة من الاختناق غرقاً. وأيضاً أن نسينا
دوريات قوات الاحتلال التي تقطع الشوارع وتزيد الاختناق،
اختناقاً وتُحولَه إلى افظع من جحيم دانتي، وهي لا تفعل شيئاً
جدياً ضد الإرهابيين بل وحتى المجرمين العاديين.
لقد اخرج العراقيون من ماكنة الفرم البشري
للنظام السابق لكي يوضعوا في مطحنة ما اشرنا إلى بعضه أنفاً.
هل هو القدر وإمام ذلك كله يقف القادة المنتخبون اليوم عاجزين
عن فهم ذلك بل وحتى تصوره.
نحن نعرف من قراءتنا لقانون إدارة الدولة
المؤقت، أن الحكومة المنوي تشكيلها هي مؤقتة كذلك، وأن مدى
سلطتها يمتد حتى نهاية هذا العام.
لذلك كان حري بتلك القيادات أن تتنادى فيما
بينها وتطرح مطالبها الذاتية جانباً، وأن تتفق بعد أن تجتمع
داخل قبة (البرلمان) على تشكيل (حكومة إنقاذ وطني) على وجه
السرعة، لكي تشرع بتنفيذ المهام الملحة التي بات العراقيون
ينتظرون تحقيقها منذ سنين طويلة.
أن شعبنا الذي تحدى كل وسائل الموت وخرج يوم
الانتخابات يستحق منا جميعاً وفي مقدمتنا القيادات السياسية
المنتخبة، أن نعمل بكل ما نستطيع لكي نخفف عنه آلامه ونضمد له
جروحه النازفة كما أن له ذاكرة عظيمة، فشعبنا أثبت وعلى مر
الدهور كونه وفياً لمن يقف معه في محنه، ولكنه أيضاً لن يرحم
من يساوم على مستقبله ويتاجر بدمائه. |