ان تجربة شنغهاي التنموية تُعد واحدة من أبرز النماذج الناجحة للتحول الاقتصادي والتنموي في العالم، خصوصا في العقود الأخيرة، وقد تحولت من مدينة متخلفة اقتصاديا إلى مركز مالي وتجاري عالمي...
في زيارتي الأخيرة إلى مدينة شنغهاي الصينية، تلمّست عن قرب مستوى التقدم الذي بلغته هذه المدينة في مجالات البنية التحتية، والاقتصاد، والتجارة، والسياحة، فضلاً عن تجربة تنموية استثنائية جعلت منها نموذجا عالميا رائدا، هذا النجاح لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة عمل استراتيجي طويل الأمد، ويمتد إلى باقي المدن الصينية كالعاصمة بكين وهونغ كونغ وغيرها.
شنغهاي كنموذج للتنمية الحديثة
تُعد مدينة شنغهاي من أبرز النماذج الحية للتنمية الاقتصادية السريعة في العالم، حيث تحوّلت خلال العقود الأخيرة من ميناء تجاري تقليدي إلى مركز مالي وصناعي عالمي، فما هي العوامل التي جعلت من شنغهاي مدينة رائدة في الاقتصاد الحديث؟، وما هي ملامح التطور التنموي، والنهضة في مجالات التنمية، والعمرانية، والتكنولوجية، والزراعية، والصناعية؟، وكيف ساهمت السياسات الصينية في تحقيق هذا النمو؟.
تشير المعطيات الى ان الإدارة في مدينة شنغهاي يرافقها تميز الشعب الصيني بالانضباط واحترام قيمة الوقت والعمل، وهي سمة تتميز بها عدد من الشعوب الآسيوية الصاعدة من الكوريتين، واليابان وسنغافورة وماليزيا وغيرهم، استطاعت تلك العناصر من توظيف عدد من المقومات التي تميزت بها عدد من المدن الصينية، حيث تتمتع مدينة شنغهاي بموقع جغرافي استراتيجي، تقع على الساحل الشرقي للصين، عند مصب نهر اليانغتسي، وهو أحد أطول الأنهار في العالم، وقد منحها هذا الموقع ميزة كبيرة في التجارة البحرية، لتصبح واحدة من أكبر الموانئ في العالم من حيث حجم الحاويات والتصدير والاستيراد، وهذا العنصر يشابه إلى حداً ما مع العراق فهو ينظم الى الدول او المدن التي تعرف بالمدن النهرية، إذ يتميز العراق بوجود نهرين عظيمين وهما دجلة والفرات.
لقاءات ميدانية ومقترحات تعاون مع العراق
خلال لقائي مع نائب رئيس مجلس نواب الشعب في شنغهاي، طرحتُ مقترحا لتفعيل التعاون بين العراق والصين، لاسيما عبر مركز أبحاث معروف في العراق، بهدف الاستفادة من التجربة التنموية الصينية، خصوصا في مجالات: التنمية الاقتصادية، الطاقة، والبنية التحتية، وإدارة المياه الذي يعاني منه العراق كثيراً في العقود الأخيرة، خصوصا انه امام أزمة قد تحل به إذا ما استمرّت الدول المتشاطئة معه في سياساتها المائية المتعجرفة، في قبال ذلك كنت شخصياً متحمساً للاستفادة من الإمكانيات الصينية في مجال التنمية.
اقترحت على نائب رئيس مجلس نواب الشعب في مدينة شنغهاي وهو موقع يضم أيضاً مقر الحكومة المحلية في هذه المدينة واللجنة الدائمة للحزب الشيوعي الذين لهما دور كبير في تنظيم إدارة المدينة واتخاذ القرارات الكبرى بالتشاور مع الحكومة المركزية في بكين، اقترحت ان يكون للصين دوراً كبيراً في تنمية وتطوير العديد من القطاعات ولا يقتصر في مجال استخراج النفط وبعض اعمال الصيانة على مستوى قطاع الكهرباء، بالإضافة الى تبني فكرة (حوار الأنهار) انطلاقاً من الافاق المشتركة بين الجانبين العراقي والصيني والعمق الحضاري الذي عرفت به حضارة بلاد الرافدين وورثها العراق الحديث والحضارة الصينية العريقة التي تمتد الى مئات السنين.
السياسات الصينية في النهوض الاقتصادي
أطلقت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح في أواخر السبعينيات، واعتمدت على شنغهاي لتجريب السياسات الجديدة، ولعبت منطقة بودونغ الجديدة، التي أنشئت في التسعينيات دورا محوريا، حيث تحولت من منطقة زراعية إلى مركز عالمي للأعمال والتكنولوجيا، حيث قدمت الحكومة الصينية حوافز كبيرة للاستثمار الأجنبي، وقدّمت تسهيلات للشركات متعددة الجنسيات، وساهمت في استقطاب مئات المقار الإقليمية لتلك الشركات، مما حوّل المدينة إلى مركز استثماري عالمي، والانتقال الى الاكتفاء الذاتي وتكون بمثابة ورش لتطوير الشركات والقطاعات الصينية.
الابتكار والتكنولوجيا في قلب التجربة الصينية
ضمن برنامج الزيارة، اطلعت على معرض الابتكارات في شنغهاي، حيث عُرضت نماذج متقدمة من الصناعات الصينية تشمل: صناعة الطائرات، الإنسان الآلي، الأجهزة الطبية الحديثة، والآليات الذكية، وكانت واحدة من أبرز الإنجازات هي تجربة استنساخ حيوانات من فصيلة القردة، وهي عملية بالغة التعقيد نظرا لتشابهها الجيني مع الإنسان، ما يدل على مستوى التقدم الذي بلغته الأبحاث البيولوجية في الصين.
دروس مستفادة للعراق من تجربة شنغهاي
ان تجربة شنغهاي التنموية تُعد واحدة من أبرز النماذج الناجحة للتحول الاقتصادي والتنموي في العالم، خصوصا في العقود الأخيرة، وقد تحولت من مدينة متخلفة اقتصاديا إلى مركز مالي وتجاري عالمي، اما بالنسبة للعراق، الذي يسعى إلى تنمية اقتصاده وتنويعه وتقليل اعتماده على النفط، يمكن استخلاص عدد من الدروس المهمة من هذه التجربة منها:
1- الإرادة السياسية والتخطيط الاستراتيجي: استفادت مدينة شنغهاي من دعم سياسي قوي من الحكومة المركزية الصينية، واتبعت خططا تنموية طويلة الأمد، وبالمقارنة مع العراق فضرورة أهمية وجود رؤية وطنية واضحة مدعومة بإرادة سياسية مستقرة تركز على تنمية القطاعات غير النفطية.
2- إنشاء مناطق اقتصادية خاصة توفر بيئة جاذبة للاستثمار: حيث أنشأت مناطق اقتصادية مثل منطقة بودونغ، ووفرت حوافز للمستثمرين الأجانب، وبإمكان العراق تطوير مناطق حرة وخاصة، وتقديم تسهيلات وحوافز ضريبية وإدارية لجذب الاستثمار الأجنبي والمحلي، مع تقليل البيروقراطية.
3- التركيز على تطوير البنية التحتية (الطرق، الموانئ، الطاقة، الاتصالات): بالنسبة للعراق فلا تنمية بدون بنية تحتية قوية والاستثمار في الطرق، وسكك الحديد، والطاقة، والاتصالات.
4- إصلاح منظومة التعليم والتدريب المهني وربطها بسوق العمل: اولت شنغهاي التعليم والتدريب المهني أهمية كبيرة، وركزت على المهارات التي يحتاجها السوق، من هنا فعلى العراق ان يولي تطوير قطاع التعليم والبحث العلمي وربطه باحتياجات السوق، والتركيز على التعليم المهني والتقني، ودعم الابتكار والبحث العلمي.
5- مكافحة الفساد وتحسين الكفاءة الإدارية: عملت شنغهاي على تحسين الكفاءة الإدارية وتقليل الفساد، فالعراق لا يمكن تحقيق تنمية حقيقية دون إصلاح إداري شامل ومكافحة الفساد بشكل جاد.
6- دعم الابتكار وريادة الأعمال: أصبحت شنغهاي مركزا للتكنولوجيا والابتكار، مستفيدة من الجامعات ومراكز البحث، اما الامر بالنسبة للعراق ليس مستحيلا فلابد من العمل على خطط استراتيجية بعيدا عن عبث القوى السياسية وافقها وحساباتها الفئوية الضيقة ان يولي الاستثمار في التكنولوجيا والتحول الرقمي، ودعم مراكز البحوث الوطنية، ودعم ريادة الأعمال.
7- استثمار الموقع الجغرافي للعراق كمركز تجاري إقليمي: مثلما عملت شنغهاي في توظيف موقعها البحري، على العراق استثمار موقعه الجغرافي كحلقة وصل بين آسيا وأوروبا من خلال تطوير الموانئ والممرات البرية، ومن ذلك الاستفادة من المشاريع ذات الطابع العالمي مثل مشروع الحزام والطريق الذي تبنته الصين في العقود الأخيرة كاستراتيجية تنموية في الانفتاح على العالم لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، ومشروع طريق التنمية الذي من الممكن ان يوصل العراق بالعالم، والا ستزداد الفجوة بين العراق ودول العالم اذ ينمو العالم بصورة متسارعة مستفيداً من التقنيات الحديثة والقوى البشرية، في حين ان العراق غير قادر على حل العديد من المشاكل التي تتعلق بحياة المواطن فضلا عن غياب الاستراتيجيات طويلة المتوسطة وطويلة الأمد.
ما حققته شنغهاي من نقلات تنموية يثبت أن الإرادة والتخطيط بإمكانهما تحويل المدن من مجرد موانئ تقليدية إلى مراكز مالية عالمية، على العراق أن يتبنى رؤية شاملة بعيدة عن الحسابات الفئوية، ويضع الابتكار والإدارة الرشيدة في صميم عملية الإصلاح، فالفرصة لا تزال متاحة أمام العراق للانفتاح على التجارب الدولية، وتحديدا التجربة الصينية، عبر مشاريع إستراتيجية، مع ضرورة إعادة بناء الثقة بالمؤسسات الوطنية وتفعيل الاستثمار في الإنسان، وهنا تتجلى الفكرة الجوهرية: لا تنمية بلا استراتيجية، ولا استراتيجية بلا إرادة وطنية حقيقية.
اضافةتعليق