بعد انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان العراقي وتشكيل حكومة محمد شياع السوداني من قبل الاطار التنسيقي وتشكيل ما يعرف بتحالف ادارة الدولة، دخل العراق مرحلة جديدة من مراحل الحكم في العملية السياسية في التحول من نطاق المحاصصة والتوافقية الى نطاق حكم الاغلبية السياسية، وهذا سياق ايجابي اساساً في طبيعة نظام الحكم البرلماني، رغم ان قوى الاطار التنسيقي كانت ترفض تشكيل حكومة الاغلبية التي طرحت من قبل الكتلة الصدرية، الا انها طبقتها عمليا عندما سمحت لها الظروف بذلك، وتم تشكيل الحكومة وفقا لتصوراتها، ورغم ملامح التوافق مع الاكراد والسنة، الا ان شيعة الاطار التنسيقي هم بيضة القبان وقطب الرحى في مسار تحالف ادارة الدولة الذي استثنى بعض القوى السياسية من التحالف ومن الحقائب الوزارية والمناصب الاخرى، بما يشكل نمطا متطابقا مع ما كان يدعو اليه الصدريون في تشكيل حكومة اغلبية سياسية داخل البرلمان تحت مسمى تحالف انقاذ وطن.

في الحقيقة ان الذهاب الى نمط حكم الاغلبية بهذه الصورة وهذه الحيثية الحاصلة في العراق، لم يعد يدل على الحكم الديمقراطي الذي يمثل الشعب بدرجة ما، عن طريق التمثيل غير المباشر عبر البرلمان الممثل للمجتمع برمته عن طريق الانتخابات بأي صيغة او طريقة.

لا نريد ان ندخل في تفصيلات واسعة حول صحة التمثيل ونزاهة الانتخابات وكيف ان اعضاء البرلمان لا يمثلون رأي واختيار الاغلبية العامة، انما كما هو معروف: يمثلون الاقلية نسبة الى عدد المصوتين وهم اعضاء المجتمع النشطين او المنخرطين في العمل السياسي وممن يسمح لهم بالمشاركة وفق شروط السن والاهلية، فهؤلاء لا يعبرون اطلاقا عن رأي الاغلبية الكلية، ولهذا لا يكفي أن تحكم أغلبية المواطنين النشطين والمشتركين في الانتخابات فقط لتعبر بشكل صحيح وسليم عن كلية المجتمع.

اذ ليس من المقبول والمعقول ان تستمد الاغلبية النيابية شرعية السلطة من الاقلية الشعبية، وبالتالي سيتناقض مفهوم الديمقراطية بمعناه النظري عن طبيعة النظام البرلماني بمعناه الواقعي، وستتحكم هذه الاغلبية بالاقلية وقد تكون الاخيرة هي الاقرب الى الصلاح والصواب وتحرم من تحقيق ذلك او التعبير عنه، وبالنهاية فأن الاغلبية النيابية ستحكم والاقلية ستطيع، وهذا هو الحاصل حاليا في العراق، فالبرلمان الحالي لم يعد قائما على اساس الحوار والسجال والنقاش والتداول، كما تعود لذلك اصل الفكرة البرلمانية، بل تدهورت هذه الاسس وتراجعت معايير قواعد السلوك البرلماني، الأمر -في الوقت الحاضر- مختلف تماما لأن المناقشة في البرلمان العراقي فقدت القدرة على الاقتناع المتبادل، بسبب هيمنة مصالح قوى الاغلبية، والبرلمان لم يعد الغرفة التي يحصل ويجري داخلها النقاش والحوار لتحقيق مصالح الجميع بل العكس، فرض مصالح الاغلبية على الاخرين هو الحاصل في النهاية، والمفروض حصول التداول والسجال والانفتاح والاقتناع داخل قبة البرلمان مع الاقلية والمعارضة وتوجهات الرأي العام، لكن اصبح كل ذلك مبني على اساس ان القوانين والقرارات والسياسات يتم الاتفاق عليها خارج البرلمان في اجتماعات الاطار التنسيقي وتحالف ادارة الدولة، والبرلمان اصبح مجرد مكان واداة للتصويت أو المصادقة او الرفض على اشياء وامور تم تشكيلها والاتفاق عليها بالفعل واتخاذ قرار بشأنها خارج البرلمان، وبهذه الصورة لم يعد هناك برلمان يشرع ويراقب ويحاسب داخل اروقته، وبالتالي لم يعد هناك نظام برلماني ديمقراطي لأنه لم يعد قادرا على تمثيل الشعب انما تمثيل مصالح الاغلبية النيابية التي وصلت للبرلمان عبر اصوات الاقلية المشاركة في الانتخابات المبكرة.

إن سيطرة الاغلبية بهذا الشكل سيؤدي حتما إلى الهيمنة السياسية للأغلبية المتفقة نيابيا على الاخرين، عندئذ لن يعمل البرلمان على تمثيل الجميع، بل يفرض نفسه من خلاله على الاقلية النيابية من جهة والطبقة المحكومة برمتها من جهة اخرى، وبالتالي لا يمكن التوفيق بين النظام البرلماني والديمقراطية بشكل متجانس، ويتم الانكار للتعددية وازالة واسكات واستبعاد ميزة التمثيل النيابي ويصبح تمثيل سياسي غير حقيقي، يتركز على تمثيل المصالح الاقتصادية والسياسية الخاصة للأحزاب المهيمنة. وهنا تترسخ الديمقراطية في ارادة الاغلبية وما تريده ليكون تحديد ما هو قانوني من عدمه عائدا اليها، وهذه الممارسات اذا ما كرست ستتبلور من خلال كل انتخابات تحصل حتى مع عودة الكتلة الصدرية للبرلمان.

وفقا لذلك يمكن القول: ان النظام السياسي في العراق كان يحكم وفقا لنمط المحاصصة والتوافق وهذا الى حد كبير مضاد للديمقراطية، وتحول حاليا الى نمط دكتاتورية الاغلبية وهذا بحد ذاته ايضا مضاد لطبيعة النظام البرلماني القائم على اساس تمثيل مصالح الجميع؛ الاغلبية والاقلية والمعارضة، وليس في قضية توزيع المناصب فقط، انما في صنع واتخاذ القرار السياسي وتدبير الشأن العام.

ان اتضاح هذا النموذج من الحكم حاليا تكرس بعدة ممارسات وسلوكيات منها تعديل قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات، اضافة الى تشريع الموازنة العامة للدولة لثلاثة اعوام بطريقة اقصائية او ضمن رؤية الاغلبية السياسية الى حد كبير، اضافة الى مسألة اسناد المناصب والتعامل مع القوى السياسية اما بطريقة الاقصاء والالغاء او بطريقة التدجين والاحتواء والسيطرة، وهذا ما حصل في التعامل مع منصب رئيس البرلمان فحينما لاحظت قوى الاغلبية تنامي قوة الوضع السياسي والشعبي لرئيسه المتطلع محمد الحلبوسي سعت لسحب الثقة منه بحثا عن بديل خاضع او محدود التأثير في المشهد السياسي.

في ضوء ما تقدم، فأن النظام البرلماني بشكل عام قد يكون بديل حيوي ضد استبداد ودكتاتورية الفرد لكنه في حالات واسعة يصبح تعبير صادق عن ديكتاتورية الأغلبية، وهذا ما يحصل حاليا في العراق.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2023 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات