مشكلة كركوك بين الحل الوطني والتدخلات الإقليمية

 

د. حسين حافظ وهيب العكيلي 

ليس صحيحاً الاعتقاد بأن جميع الدول قد نشأت على أساس عرقي أو مذهبي ـ طائفي، إذ لو كان الأمر كذلك لتشرذمت الأمم والشعوب إلى كيانات سياسية ليس لها أول ولا آخر.

لكن الصحيح القول بأن الدول في الغالب تتعدد فيها القوميات والمذاهب والأعراق، ويصبح التنوع العرقي على الأكثر سبباً من أسباب نهضة الأمم ومقاربته إلى حد كبير بظاهرة تنوع البيئة الطبيعية، مما يضيف إلى الدول إمكانيات كبيرة يمكن توظيفها ايجابياً لخدمة النهوض بالدولة بشكل يمكّن العموم من الاستفادة من ايجابيات هذا التنوع بطرق شتى.

ومن المعروف في هذا المجال هو أن القومية الكردية في العراق ومنذ بدايات نشوء وتشكل الحركة الوطنية ـ التحريرية الكردية في الربع الأول من القرن المنصرم قد لعبت دوراً كبيراً في عملية ربط القضية القومية (الكردية) بعموم النضال الوطني التحرري للشعب العراقي، فمع ثورة النجف في عام 1918، انتفضت السليمانية واستمرت حتى اندلاع ثورة العشرين، حيث شارك الكرد بقيادة الشيخ محمود الحفيد (البرزنجي) بتلك الثورة الوطنية المجيدة التي قادها من محافظة كربلاء المرجع الديني الأعلى آنذاك آية الله العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي (رحمة الله).

وهذا ما أدى إلى انصهار اجتماعي حقيقي بين مختلف القوميات المكونة للشعب العراقي عبر سنين طويلة من المعاناة والحرمان والكفاح المشترك.، حيث أن القوميتين العربية والكردية وأكثر من أية أمة من أمم الأرض جميعاً قد تعرضتا إلى مختلف أنواع الاضطهاد والقهر والإذلال على يد الموجات الاستعمارية الاحتلالية المتكررة، وبالخصوص تلك التي حصلت خلال القرون الخمسة الأخيرة، أي خلال التاريخين الحديث والمعاصر.

ولابد من التنويه هنا إلى أن العرب كانوا من أول وأكثر الأمم تفهماً لحقوقهم القومية وتلبية لها، ولعل الكثير من الباحثين والمثقفين يعرفون أن أول جريدة كردية كانت قد تأسست في القاهرة سنة 1898 باسم (كردستان) على يد أحد أبناء كريم بدرخان، كما أن العراق كان من اسبق البلدان بالاعتراف كونه وطن يتشارك فيه العرب والكرد على حد سواء وكما جاء ذلك بالدستور الأساسي للعراق سنة 1924 وكذلك كان ذلك واضحاً وصريحاً ليس من مواد الدستور المؤقت الذي صدر بعد ثورة 14 تموز 1958 بل تجسد ذلك أيضاً حتى بعلم الجمهورية العراقية حينها.

وإذا كانت فترة النظام السابق قد أساءت للأكراد فأنها قد أساءت في الوقت نفسه لكل القوميات والطوائف الأخرى على حد سواء.

صحيح أن ذلك النظام قد دمر خمسة آلاف قرية كردية ناهيك عن استخدامه للأسلحة الكيمياوية ضد أهالي حلبجة، فإنه أيضاً قام بتدمير قضاء الدجيل وقرى كاملة في قضاء الخالص وكذلك قام بتدمير قريتي السودة والبيضة في العمارة كما وقام بتدمير منطقة الأهوار بما فيها من قرى تعود لثلاث محافظات هي البصرة والناصرية (ذي قار) والعمارة (ميسان)، وكل ما فيها من زراعة واسماك وطيور، وحتى الطيور المهاجرة التي اعتادت أن تأتي من سيبيريا كل شتاء تعرضت لعنف وأذى النظام المهزوم ولم تسلم من أذاه، وإذا كانت ثمة حقيقة تنطبق على نظام صدام حسين فهي أنه كان عادلاً في الظلم مع كل العراقيين، ولا ضير في القول بأن القائمين على إدارة الدولة في العراق في المرحلة الراهنة وأن كانوا غير متمتعين بالأهلية القانونية ألا أنهم كانوا من أكثر الناس إدراكاً لحقوق الأكراد وذلك بتكرارهم الإشارة إلى أن العراق بلداً فدرالياً وتعددياً كسابقة دستورية يمكن أن تؤسس لوضع مستقبلي يؤمن للأكراد الكثير من طموحاتهم القومية والسياسية، كما أن خلو قانون إدارة الدولة من الإشارة إلى أن العراق جزء من الأمة العربية والاقتصار على أن العرب فيه هم جزء من الأمة العربية ليس سوى إقرار بهويات القوميات الأخرى وبانتمائهم الإنساني.

فهل يقتنع الأكراد ويكتفون بالإشارة إلى أن أكراد كركوك هم جزء من كردستان العراق؟. ورغم كل السياسة الاقصائية المرفوضة وطنياً للنظام السابق، فليس من الصحيح العودة إلى ذات السياسات التي تؤكد على النهج التعصبي والعنصري مجدداً بدعوى أن كركوك وعائديتها الكردية سوف يقاتل من أجلها الأكراد دون هوادة، فدعوات كهذه يمكن أن تُفهم بشكل غير دقيق كمقدمة لفرض سياسة الأمر الواقع تمهيداً للذهاب بالعراق إلى حافة التمزيق القومي الذي لا يخدم المجموع بكل تأكيد وربما يصادر للأكراد حقوقاً مكتسبة ثبتها قانون إدارة الدولة الجديد.

إن الجديد في التعاطي مع مسألة كركوك يثير العديد من الإشكاليات التي يمكن أن نؤشرها تواضعاً بما يلي:

1. إن القول بأن كركوك جزء من كردستان وسوف يقاتل من أجلها الأكراد بأية قوة مهما كانت تعني العودة إلى سياسة الإقصاء التي عانى منها العراق عقوداً طويلة وفرض لسياسة الأمر الواقع وتكريس للفكر القومي التعصبي ونحن ومع إقرارنا بتاريخية عائدية المنطقة الحيوية هذه إلى عموم كردستان العراق، غير أننا نعتقد أن طرحاً مثل هذا وفي هذه المرحلة الدقيقة والصعبة من تاريخ هذا البلد المستهدف إقليمياً ودولياً، يمكن أن يؤدي إلى إيذاء القضية الكردية برمتها وربما يؤدي إلى تصدع في مسيرة الوفاق الوطني والوحدة الوطنية التي تعاني هذه الأيام من إخفاقات عديدة.

2. إن طرحاً مثل هذا يمكن أن يذكي ادعاءات وطموحات تركيا في عائدية ولاية الموصل والاتكاء على وجود الأقلية التركية في بعض المناطق الممتدة من الموصل إلى كركوك، والعودة لفتح ملف ولاية الموصل الذي أغلق منذ عام 1925 الذي ما انفك الأتراك يلمحون عنه في مناسبات متعددة وبالخصوص في أوقات الأزمات التي يمر بها العراق، كما أن ذلك الطرح يترك الساحة العراقية مفتوحة على تحالفات إقليمية ربما تصيب المشروع الوطني العراقي برمته في الصميم، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى تصريحات مساعد وزيرة الخارجية الأمريكي ريتشارد ارميتاج لدى زيارته الأخيرة إلى أنقرة في 3 كانون الثاني 2005 بأن وضع الأقلية التركمانية في مدينة كركوك قد تعرض للتغيير بالقوة مؤكداً بأن هذه الأخطاء لابد أن تصحح، ومن الملفت للاهتمام هو أن المباحثات بين ارميتاج وعبد الله غول وزير خارجية تركيا ركزت على نقطة خلاف بين الدبلوماسيتين الأمريكية والتركية، وهي السياسة التي يتبعها أكراد العراق في مدينة كركوك والتي تهدف وفقاً لأنقرة إلى طرد السكان التركمان، وما يرتبه هذا الادعاء من مخاطر كبيرة ويفتح باب التدخلات الإقليمية التي ستضر بمصالح العراق كله.

3. لا يمكن القبول بفكرة المناخات السياسية التي تهيأ باتجاه الإضرار بوحدة العراق وأن كان مطلب الفيدرالية لدى البعض من السياسيين الأكراد هو مقدمة الانفصال عن العراق أملاً بتحقيق الحلم الكردي بإقامة دولة كردستان الممتدة من بحر قزوين وحتى البحر المتوسط.

فعلى الرغم من كوننا من الذين يقرون بحق الأمم والشعوب كافة بتقرير مصيرها وإنشاء دولها القومية والوطنية، غير أننا كوطنيين عراقيين لا نرضى لهذا الوطن أن يتجزأ ولا يمكننا أن نقبل بذلك عراقياً وبالخصوص في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن. ولكي نسد كل الطرق وكافة المنافذ التي يمكن للتدخلات الإقليمية والدولية أن تلج منها.

4. إن المحنة التي يعاني منها العراق حالياً هي تشظّي الولاء الوطني إلى ولاءات فوق وطنية كالولاء الطائفي والولاء القومي وحتى القبلي وأن هذا التشظّي إذا ما استمر لفترة طويلة فأنه سوف يؤسس لاحتقانات اجتماعية ـ وطنية متعددة، وبودنا هنا الإشارة إلى ما جرى تداوله من مفاهيم جديدة لم تكن معروفة في الواقع السياسي العراقي من قبل، كالمثلث السني والإقليم الجنوبي والمعارضة السنية إلى غير ذلك من المسميات، التي تعمل جهات عربية وإقليمية ودولية على تسويقها وإشاعتها عبر وسائل الإعلام المختلفة, إذ ينبغي على الجميع تدارك المنزلقات الوطنية الخطيرة التي بدأت تنخر في الجسد العراقي ويقيناً أن القادة الكرد وبما عرف عنهم من صدق الوطنية والتاريخ النضالي الصعب والطويل والمجيد هم الأحرص على مستقبل العراق والدفاع عن مصالحه بكونه وطن الجميع عرباً وأكراداً وتركماناً وأقليات متآخية أخرى.

إن الحديث عن كركوك وعائديتها لا يمكن حصرها بكونها مشكلة كردية ـ  وطنية عراقية فقط، ولأسباب اقتصادية بما تضم كركوك من ثروات نفطية، وكذلك أسباب تاريخية، قومية لوجود قوميات تركمانية وعربية، فإنها تمتد لتلامس جوهر المطامح الإقليمية بالعراق وتتداخل فيها الكثير مما يمكن أن نسميه الدفع لحافة المواجهة الوطنية والإقليمية، ويمكن الإشارة هنا إلى التدخل التركي في قبرص عام 1964 وتأسيسهم لكيان تركي هناك، خلق داخل الجزيرة مشكلة لا زالت قائمة حتى اليوم.

وربما يكون هذا الأمر أحد أهم المقاربات التي مرت بها الحركة القومية الكردية عام 1965 جراء الوضع الدولي الذي كان قائماً حينذاك، كذلك فإن الواقع الدولي اليوم لا يمكن أن يسمح بأكثر مما منحته الحكومة الانتقالية العراقية من أسس قانونية ومادية قد ترتفع إلى مستوى عملي معين وتعمل على تحقيق الكثير من الطموحات القومية الكردية المشروعة، وعلى القيادة الكردية أن تدرك بأن المصالح الدولية والظرف الذي مكنهم من البقاء فترة 12 عاماً بعيداً عن سطوة النظام السابق ومكنهم من أقامة إدارة ذاتية ناجحة لمنطقة كردستان هو غير الظرف الدولي الحالي الذي مكن الولايات المتحدة الأمريكية من احتلال العراق ووضع اليد على ثرواته والتحكم بمصير شعبه والتأثير في رسم خريطة مستقبله.

فلنجعل من كركوك المدينة التي نجسد فيها كل معاني العراقية النبيلة من الحب والسلام والتآخي القومي، لا أن نجعل منها حصان طروادة لتدمير العراق كله.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net