التكيف الدستوري للنظام السياسي العراقي للمرحلة الانتقالية

 

د. حازم علي الشمري

كلية العلوم السياسية/ جامعة بغداد

يفترض في النظام السياسي وجود دولة تكون هي السلطة الحاكمة وجماعة سياسية تكون محكومة، ففيصل التفرقة يقوم أساساً ما بين الحاكمين والمحكومين في كل سلطة سياسية، إلا أن وجود مثل هذه التفرقة (نوع السلطة السياسية) ليس دليلاً على وجود أو قيام دولة، فلو أخذ بهذا الرأي لكانت التنظيمات السياسية المختلفة كالجماعات البدائية والعشائرية دولة!

لقد كان الحكم في الماضي من حيث الشكل (شخصي)، بمعنى أن الحكم يقوم على أساس شخصية الملك وليس للدولة دور مهم في الحكم، ومن هنا أطلق ملك فرنسا الرابع عشر مقولتهِ المشهورة (الدولة أنا)، ونتيجة لهذا المعيار الشخصي لنوع النظام السياسي، فإن زوال المعيار الشخصي في الحكم يعني بالضرورة زوال السلطة السياسية،.لذا كانت هناك حاجة ملحة قد ظهرت من قبل الجماعات السياسية تدعو إلى  إنشاء سلطة سياسية أهم سماتها الاستمرارية والدوام على وجه من الاستقرار ولا تخضع لنزوات وأهواء الحكام وتكون بعيدة أو في منأى عن الصراعات والتقلبات والأهواء والهزات، لذا كان قيام جهاز سياسي يمتلك سلطة قسرية يحدد قواعد السلوك الاجتماعي تأكيداً منه لوحدة التماسك الاجتماعي، ومن هنا قامت الدولة ليس لتكون سلطة قسر وإكراه فحسب، بل جاءت الدولة (السلطة السياسية) لتحقق مطلب الأمن بأشكاله وأنواعه، وإبعاد الخوف وتحقيق الأهداف الخيرة التي تؤمن بها الأكثرية الساحقة من الشعب تعبيراً عن حرياتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة.

إذن فالسلطة والنظام السياسي إنما وجدا في الأصل ليكونا في خدمة الشعب تحقيقاً لرفاهيتهم دون أن يسيطر عليهم خوف أو جوع.

وهكذا جاءت عملية التحولات الاجتماعية والسياسية الحديثة كاستجابة مشروعة لتيارات التغيير الاجتماعي وكذلك الأنظمة السياسية التي هي انعكاس واضح للوضع الاجتماعي، لتبرهن على أن النظام السياسي في الدولة ليس جهاز إكراه وإرغام يستند على القوة وجوداً، وإنما النظام السياسي يقوم أيضاً على مرتكز مهم ألا وهو الرضا الشعبي، وإن قبول الشعب لنظامه السياسي سوف يقضي بالضرورة إلى اكتساب النظام السياسي الموجود في الدولة إلى شرعيته.

وليس من شك أن العالم اليوم لا يوجد فيه نظام سياسي يحظى بتأييد ورضا الناس أجمعين، تلك غاية إدراكها أمر بعيد المنال لمن يسعى إليها ولكن برضا الأغلبية، لذا فمن الطبيعي أن يوجد في مواجهة كل نظام حكم معارضون، وأن يوجد في مواجهة كل سلطة دعاة حرية.

وفي هذا العالم المترامي الأطراف توجد على أرضه نظم سياسية مختلفة الأنواع تتراوح ما بين نظم سياسية ديمقراطية ودكتاتورية شمولية، وما بين نظم سياسية ملكية وجمهورية وأخرى نظم سياسية رئاسية أو برلمانية.

وتأسيساً على ذلك، فإن المراكز السياسية السيادية والدستورية في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية والذي يعد هذا القانون بمثابة الدستور المؤقت للعراق بعد سقوط النظام في 9 نيسان من عام 2003  قد وضعت بصورة واضحة لتجمع ما بين النظامين السياسي الرئاسي والبرلمان للعملية السياسية في العراق لمرحلة ما بعد الاستحقاق الانتخابي في 30 يناير من هذا العام.

إن هذا الجمع والمزج الدستوري ما بين النظم السياسية في العراق، أعتقد بأنه مطلب مهم عراقياً لهذه المرحلة (مرحلة ما بعد الانتخابات) ويختص أيضاً بإكمال متطلبات البناء الدستوري والسياسي والسيادي للعراق، وليس اعتباره مسلكاً سياسياً دستورياً عاماً سوف يلازم العملية السياسية المستقبلية للعراق، بمعنى أن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية في العراق قد منح الجمعية الوطنية المنتخبة (التي تعد وفقاً لهذا القانون بمثابة السلطة التشريعية في الدولة) حق تشريع القوانين بالإضافة إلى منحها الحق في العمل الرقابي على السلطة التنفيذية وفقاً للمادة (30) الفقرة (أ). هذا يعني أن قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية قد اعتمد في هذا المجال على نمطية النظام السياسي البرلماني في العملية السياسية الديمقراطية للعراق، وذلك على اعتبار أن أهم وظائف النظام البرلماني (الذي يعتبر السلطة التشريعية لها من الدور المهم والواضح في العملية السياسية مع مراعاة إضفاء نوع من التوازن والتعاون بين السلطات السياسية الأخرى) هو سن قواعد قانونية ملزمة، ويراعى في العملية وضع القوانين مراحل ثابتة تمر ابتداءً من عملية اقتراح القوانين وصولاً إلى الموافقة والتصديق عليها، وهذا ما جاء في المادتين (30) الفقرة (أ) و (31) الفقرة (د) من الباب الرابع.

إن عملية اقتراح القوانين في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لم يكن حصراً على السلطة التشريعية في العراق (الجمعية الوطنية المنتخبة)، بل منح قانون إدارة الدولة الحق للسلطة التنفيذية في اقتراح القوانين، هذا ما جاءت به المادة (31) الفقرة (د) التي أكدت على أن الجمعية الوطنية لها الحق في أن تنظر في مشاريع القوانين المقترحة من قبل مجلس الوزراء، وهذا من حيث الأساس النظمي البرلماني فأن حق اقتراح القوانين يكون حقاً مشتركاً بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على اعتبار أن هناك شراكة سياسية قانونية دستورية بين هاتين السلطتين بالاتجاه الذي يخدم العملية السياسية، بينما نرى أن حق اقتراح القوانين هو محدود حصراً بأعضاء السلطة التشريعية في النظام الرئاسي، ووفقاً لحقيقة الواقع السياسي فأن السلطة التنفيذية تكون هي أقدر على ممارسة عملية اقتراح القوانين لا سيما القوانين التي تخص الجانب المالي باعتبارها (السلطة التنفيذية)، هي الجهة الوحيدة التي تتولى دستورياً مهمة التنفيذ لهذه القوانين ومن ثم سوف تكون السلطة التنفيذية هي أقرب إلى تلمس الحاجات والمتطلبات التشريعية للجماعة، ناهيك عن امتلاك السلطة التنفيذية الأدوات التقنية اللازمة لإعداد المقترحات في قالب تشريعي.

إن قانون إدارة الدولة العراقية قد اعتمد تقييد أحقية أعضاء الجمعية الوطنية في مسائل الاقتراحات التشريعية الخاصة بالميزانية، على اعتبار أن الأساس في العمل النيابي وآليته سوف ينحو إلى الإسراف في طلب الاعتمادات المالية دون النظر لما يجب أن تكون عليه الميزانية من توازن، وهذا ما جاءت به النظم البرلمانية من حيث الأساس الدستوري، وأخذ به قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، إذ حمل هذا القانون حق مسؤولية السلطة التنفيذية في موازنة الميزانية أمام البرلمان (الجمعية الوطنية) وفقاً للمادة (33) الفقرة (ج).

أما الوظيفة الأخرى للجمعية الوطنية العراقية للمرحلة الانتقالية فهي الوظيفة الرقابية، الذي خرج فيه مشرعو قانون إدارة الدولة العراقية عن نمطية النظام البرلماني، إذ منحت المادة (33) الفقرة (ز) الحق للسلطة التشريعية في الاستجواب والتحقيق وطلب المعلومات من المسؤولين الحكوميين والمثول أمامهم سواء أكانوا أعضاء في المجلس الرئاسي أو المجلس الوزاري، ومن خلال هذا النص الدستوري نلاحظ أن قانون إدارة الدولة العراقية، قد خرج في الوظيفة الرقابية عن النمطية البرلمانية التي تؤكد دستورياً على أن السلطة التشريعية لها الحق في مراقبة العمل الوزاري حصراً، باعتبار أن منصب رئيس الدولة في النظام البرلماني مهما كان ملكياً أو جمهورياً هو منصب أقرب إلى أن يكون (تشريفياً) أي أن رئيس الدولة هو شخص مصون غير مسؤول، وإن الوزارة برئيسها هي التي تمارس السلطة التنفيذية الفعلية، وعليه فإن الوزارة سوف تكون مسؤولة أمام الجمعية الوطنية سواء أكانت هذه المسؤولية مسؤولية فردية أم جماعية، وعند قراءة المادة (35) من قانون إدارة الدولة العراقية نلاحظ أن مشرعي هذا القانون قد حددوا السلطة التنفيذية بمجلسي الرئاسة والوزراء وهذا يعُد خلافاً للنص الدستوري للنظم البرلمانية.

ناهيك من أن قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية قد ابتعد عن ظاهرة التوازن في عمل السلطتين السياسية التشريعية والتنفيذية عن طريق منح السلطة التنفيذية حق حل البرلمان، وهو حق يراد به تحجيم الإسراف السلطوي النيابي الذي يقضي إلى عرقلة الأعمال الحكومية، إلا أن السبب الواضح في تجنب مشرعي قانون إدارة الدولة العراقية لهكذا حق وزاري هو الخوف والخشية في هذه المرحلة السياسية من تاريخ العراق السياسي، من أن يفضي هذا الحق إلى تلكؤ العملية السياسية في العراق والذي يمكن أن يؤدي بالتالي إلى إفشال العملية برمتها ويوقع الواقع السياسي العراقي في حالة اللااستقرار السياسي، وهو مطلب غير وارد نهائياً في المرحلة السياسية الحالية التي يعيشها العراق.

ولكن من جانب أخر، فإن قانون إدارة الدولة العراقية قد منح مجلس الرئاسة حق نقض أي تشريع يصدر عن الجمعية  الوطنية خلال مدة لا تتجاوز الخمسة عشر يوماً من تاريخ إبلاغ مجلس الرئاسة من قبل رئيس الجمعية الوطنية، وإنْ كان هذا الحق النقضي الرئاسي غير نهائي على اعتبار أن من حق الجمعية الوطنية المنتخبة أن تعاود إقرار التشريع بأغلبية ثلثي أعضاء الجمعية الوطنية وفي مدة لا تتجاوز الثلاثين يوماً ووفقاً للمادة (37) من قانون إدارة الدولة.

وبناءاً على هذا الدور الرئاسي البسيط الذي وضعه قانون إدارة الدولة العراقية فإن هذا القانون قد اعتمد على النمطية الرئاسية كنظام سياسي، وابتعد عن النمطية البرلمانية، ويمكن لنا إدراك هذه الحالة كذلك في المادة (28) الفقرة (أ) التي أكدت على عدم إشغال أعضاء المجلس الرئاسي أو المجلس الوزاري أي مهام أو مناصب نيابية، بمعنى آخر، إن هذه المادة قد أقرت بعدم جواز العضو النيابي في الجمعية الوطنية العراقية أن يتبوأ مناصب حكومية سواء أكانت هذه المناصب الحكومية حقائب وزارية أم منصب رئيس الوزراء أم منصب رئيس الجمهورية ونوابه.

إن هذا الخلط والمزج بين النظام البرلماني والرئاسي في إقرار قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، إنما يراد به وضع شراكة حقيقية لكافة المكونات السياسية في العراق لبناء عملية سياسية دستورية لها القدرة على استيعاب المؤسسات الدستورية والسياسية كافة في العراق وبناء آلية سياسية جديدة تعتمد على نمطية الشراكة الديمقراطية في العراق.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net