السوسيولوجيا والانثروبولوجيا تفهم الانتخاب لحظة ولادة مجتمع عراقي جديد

 

ا.د متعب مناف

مفكر وباحث اجتماعي

على الرغم مما كتب في الدراسات الإنسانية عموماً السوسيولوجيا (الاجتماع) والانثروبولوجيا (علم الإنسان) وبالأخص خلال العشر سنوات المنصرمة وبدقة منذ تسعينيات القرن العشرين الماضي، فإن الكم هو الغالب عليه، لذا لا يمثل إضافة عملية أو تطبيقية فاعلة.

وبذلك كانت هذه الكتابات وفي الحقلين العلميين السابقين بالذات، أنما تمثل اغلبها مقالات وليس بحوثاً لأنها افتقرت إلى هوية التزام نظري/ علمي مع تقصير منهجي.

وقد سقطت العديد من الكتابات (السوسيولوجية والانثروبولوجية) في مثل هذا التردي العلمي/ المنهجي، لأنها افتقرت إلى المصداقية التي نجمت عن تسيس العلوم الإنسانية والاجتماعية التي حشرت في زاوية التأييد المطلق لايديولوجيا النظام، مما أضاع على العلوم الاجتماعية وبالذات (السوسيولوجية والانثروبولوجية) فرصة المواكبة للطفرات التي حدثت في مجالات هذين العلمين، حتى بالمقارنة بالدوائر العلمية المناظرة في الجوار العراقي والخليجي التي حققت إنجازات على صعيدي التدريس النظري/ الأكاديمي والممارسة العملية من خلال البحوث التي تناولت هذه المجتمعات ومشكلاتها وما نجم عن آليات تغيرها وهي تخوض صراع خروجها من التخلف والركود، في الوقت الذي حققت فيه انتشاراً في المنطقة والعالم، وواقعاً فقد حُجّمتْ السوسيولوجيا (علم الاجتماع) لأنها قطعت عن مختبرها الأساس (المجتمع) وربطت بمفاهيم التأييد والتعميد للنظام نفسه.

إذ وصم كل من يبحث في المجتمع العراقي بالانحراف والقطرية، لذا فقد حدثت فجوة في تاريخنا الاجتماعي بعد البدايات الناجحة للدكتور الوردي (سوسيولوجياً) و د. شاكر مصطفى سليم (انثروبولوجياً) حتى وصلنا إلى الحد الذي نسينا فيه شيئاً اسمه (المجتمع العراقي)، وأخذنا نهتم بالظواهر والمشكلات التي يؤشرها النظام من خلال ثقافته التسلطية حيث تم ترويض السوسيولوجيا وحشرت بالتراث الخلدوني الخاص بالعصبية والدولة، أي أننا عدنا إلى القرن (14) ميلادي وقنعنا بقراءة اختزالية لمقدمة ابن خلدون بما يتفق والايديولوجيا المفروضة.

أما الانثروبولوجيا فإنها دخلت قائمة المحرمات (التابوات) لأنها تسعى إلى تحقيق إنسانية الإنسان من خلال قبول طيفه الاجتماعي، الذي أعتبر اختراقاً لتماسك الدولة الكلانية (الشمولية) المسيطرة.

وبتحجيم السوسيولوجيا وتحريم الانثروبولوجيا، أمكن تمرير ثقافة الاستعلاء التي استبدلت المجتمع العراقي بمجتمع مفترض يسوده الخوف والترقب والشحة، وبذلك أُلغيت خصائص الإشراق الحضاري التي عاشها المجتمع العراقي ثقافياً وروحياً وإنسانياً.

لقد صحت كلاً من السوسيولوجيا و الانثروبولوجيا من الغفوة العلمية والتطبيقية التي فرضت عليهما، فاتجهت إلى الجديد في مجال المعرفة الاجتماعية/ المجتمعية بعد الانهيار السياسي للنظام.

هذه الصحوة العلمية للسوسيولوجيا والانثروبولوجيا بعد انهيار الثقافة والمعرفة الشمولية/ الاختزالية لم تجد طريقاً تصل بها إلى مختبراتها البشرية في المدينة (سوسيولوجياً) والريف (المجتمعات المحلية)، لقد تمت مصادرة الوعي والإرادة الاجتماعية، وفقد المجتمع العراقي الثقة بنفسه وبقدرته على التحدي دون أن يكون تابعاً لسلطة سلبت كل امكاناته ورسخت لديه القناعة بأنه أضعف من أن ينتفض إذ توزعت حياته بين الخوف والموت أو الاغتراب في الداخل والغربة المهاجرة في دنيا الشتات.

ولكن عندما دقت ساعة التحدي ممثله في مدى قدرة هذا الشعب بأمجاده وأديانه وأطيافه ومقوماته، أن يقول كلمته وبشكل حضاري/ ديمقراطي من خلال صناديق الاقتراع، لانتخاب ممثليه الحقيقيين وكاتبي دستوره، قَبِل التحدي بل تحدى كل المراهنات البائسة التي روجت بالضد مما يختزنه الإنسان العراقي ومجتمعه من كوامن،  يمكن أن تفجرّ في اللحظة التي ينتصر فيها العراقي على تردده فيكون سيد الموقف.

لقد انتفض العراق شعباً وإنساناً ونهض بالفعل من رماد التخلف والجور، فاندفعت أكبر كتله متظاهرة في تاريخ المنطقة بل والعالم ممثله ثمانية ملايين اختاروا الحياة، في وقت كان الموت يتربص بهم ولهم، وشعّ المعدن العراقي الأصيل على المنطقة بأسرها، بعد أن حطم أوثان الخوف التي أريد لها اختراق ارادته.

هذه الكتلة ذات الثمانية ملايين لم يحركها حس طائفي أو توجه نفعي لأنها العراق، والعراق لا يمكن أن يكون وهو شعب الحضارات والروحانيات إلا من مكونات.

وبالفعل فقد حولت هذه الملايين الثمانية ما يسمى بالطوائف والأطياف والتلاوين إلى مكونات أثبتت قدرتها على نفع الناس.

إن هذه الحركة الكتلية العراقية التي برز تكرارها في محيطها في المنطقة بل وفي العالم، لم  تحول انتصارها إلى تباعد واستعلاء وإزاحة وتهميش وبذلك تفقد بالفعل عراقيتها، وإنما فتحت قلبها لتضم العراق بأكمله ليكون العراق كل العراق شاهداً على ولادة مجتمع عراقي جديد.

هذه هي نظرة السوسيولوجيا (الاجتماع) التي أعادت لها الانتخابات المليونية مجتمعها (الحقل الطبيعي لدراستها) الذي سرق منها في زمن يائس لا يعرف غير الحرمان والتسلط.

أما الانثروبولوجيا فهي الأكثر أحساساً بالحيوية وهي تصحو على لحظة الإنجاز الجماهيري العراقي الذي أثبت أن الديمقراطية هي جزء لا يتجزأ من الفعل العراقي، وأن الحقوق (حقوق الإنسان) التي كفلتها الشرائع السماوية والدساتير الوضعية الحضارية وعلى امتداد فترات الإشراق العراقية، يمكن أن تكون الرافعة التي تنهض بالإنسان وحقوقه، والمرأة ومكانتها، والآخر المختلف ورأيه، وبالمحصلة فإن الأمة العراقية قد ولدت وعلينا جميعاً أن نبارك ولادتها إلى حد التضحية.

 كيف نفعّل هذه الإنجازات على الصعيد السوسيولوجي/ والانثروبولوجي؟

يمكن أن تطور هذه الإنجازات التي حققها المجتمع العراقي على صعيد الاهتمام بمكوناته وتفعيلها، وذلك من خلال المشروعات المقترحة الآتية:

1. الاهتمام بالتراث والثقافة الشعبية ومحاولة إزالة المفردات التي تعمل على إضعاف روح العمل والإنتاج، وانتقاء ما يمكن أن يوحد التركيبة الاجتماعية في العراق ويجعلها تستجيب للتغير الاجتماعي.

ويمكن أن يتم ذلك بدراسة العوامل الدافعة وتلك المعوقة للتغير في المجتمع العراقي، هذا الموضوع السوسيولوجي/ الثقافي الخاص بالعوامل المحركة والمركدة للسلوك الاجتماعي التي يمكن أن تبرز في تصرفات الأفراد، مما لا يتفق والتحديات الجديدة التي يشهدها المجتمع العراقي، ولا بد من كتابة أوراق/  بحوث موجزة، أو فيها نوع من الإفاضة عن التراث والتحديث والمعاصرة، وكيف يمكن أن تعمل الثقافة تقليدية أو محدّثة على قبول التغيرات في السلوك، والانطلاق نحو الجديد من العادات التي تقبل الآخر انطلاقاً من مفهوم المواطنة، التي تجمع بدلاً من أن تفرق، وتعمل المجتمعات العربية والإسلامية والشرقية على دراسة عوامل التحريك والتركيز في ثقافتها، فقد أصدر مركز البحوث والدراسات في مصر العديد من هذه التقارير/  البحوث، وصلت إلى أربعة عشر تقريراً وما زالت التقارير تصدر في مثل هذا المجال والتي تتناول وضع الأسرة وقدرتها على التنشئة الاجتماعية (socialization)، وكيف يمكن أن تعمل الأسرة ضمن الظرف الجديد بعد أن تعرض المجتمع لتحولات سياسية حادة، أثرت على اتخاذ القرار على صعيد الأسرة ومدى ما يتمتع به الأب في الأسرة من فاعلية في تنشئة أسرته، ومقدار تبادل الأدوار بين الأب والأم وأثره على سلوك البنين والبنات، ومدى التزام الأسرة بالثقافة الشعبية الموروثة أو الثقافة الجديدة التي جاءت بالتحولات السياسية والتكنولوجية والسلوكية ووضعتها كلها في سلة واحدة، فأما أن تأخذها أو تتركها كلها، فالمسألة لم تعد انتقائية وعلى الأخص إذا مررت من خلال العولمة.

2. دراسات تقويمية لعدد من الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لعدد من مشروعات التنمية الاجتماعية مع مراجعة وطنية وعلمية لتقارير الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية، وبالأخص التقرير الأخير 2003  الذي خلص إلى أن الديمقراطية لا بد من تطبيعها في المجتمعات العربية والإسلامية والشرقية، وأعطى التقرير طريقتين لتطبيق هذه الديمقراطية، فأما أن تطبق من الداخل أو أن تفرض من الخارج.

لذا لا بد من دراسات تبين الخصوصية التي تتمتع بها مجتمعاتنا ومنها المجتمع العراقي، ومدى قبوله أو رفضه لما يصدر له من الخارج من أفكار وأساليب عمل، أريد بها أن ترقى إلى مستوى الايديولوجيات دون تقدير مدى رفض أو قبول مثل هذه المفاهيم الثقافية الوافدة أو المستنبتة في مجتمعاتنا، مما قد يؤدي إلى ردود فعل عكسية قد تهدد الأمان الاجتماعي الذي يمثل الخطوط الأولى نحو تنمية واقعية.

3. دراسات لتنمية الأحياء الشعبية والمدن الطرفية المحيطة ببغداد أو المحافظات، وبذلك نرفع من قيمة مواطنة هذه المناطق التي فرض عليها أن تكون الأدنى في حالة الخدمات والاهتمامات، ومحاولة توزيع واردات العراق على جميع أهله والاهتمام لمن تعرضوا للتهميش والظلم وتعويضهم عن سنوات الصعوبات التي عاشوا في ظلها، فالعراق لأهله وثرواته لأبنائه دون محاولات خلق مستويات لكي يصار إلى إشاعة العسف بين مواطنيه.

4. الاهتمام بالفلكلور العراقي (الموروث الشعبي) ودراسته عن طريق الانثروبولوجيا الثقافية، وذلك لتثبيت الاصالة والانطلاق منها في إعادة بناء المجتمع العراقي عن طريق بحوث ميدانية تبين أهمية هذا الفلكلور، وذلك بعد تحديثه بالشكل الذي يخدم التحول الاجتماعي في المجتمع العراقي.

5. إجراء دراسات مقارنة للموروثات الشعبية الفلكلور للمجتمعات العربية والإسلامية، وتقصّي الحالات التي يتقارب منها هذا الموروث الشعبي، أو يتباعد عن فلكلورنا وموروثاتنا الشعبية، بما ينشط الفعل العراقي فكراً وتصوراً وسلوكاً.

6. دراسة أثر القبلية/  العشائرية على السلوك السياسي والاجتماعي وعلى الأخص ما ابتكره الدكتور على الوردي من مفاهيم وعلى الأخص التناشز الاجتماعي.

7. دراسة حالات مثل العنف في الأسرة وضد المرأة، وما قد يرتبط به من حالات انكسار سلوكي.

8. ربط دراسات البيئة الوسط (Environment) بالصحة والسلوك وأثر البيئة الخالية من التلوث في صحة الإنسان وسلوكه.

9. دراسات الجماعات الهامشية كالمتسولين والخارجين على التوحد الاجتماعي.

10. دراسات عن الطفل العراقي وكيف يمكن أن ينشأ في ظل ظروف التغير.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net