الوحدة الوطنية والفدرالية في العراق

  

عبد الجبار أحمد عبد الله

أستاذ مساعد دكتور

كلية العلوم السياسية - جامعة بغداد

24/10/2004

 

 عندما نكتب عن الوحدة الوطنية والفدرالية في العراق، فأنه  من الواجب علينا ألا ننظر إليها من منطلق تصارعي أو تنافسي سواء كان على المستوى المفاهيمي أو التطبيقي الحركي السياسي، بل يجب أن يكون المنطلق هو اعتبار العلاقة بينهما ايجابية وتفاعلية وتعاونية.

وإذا ما اتفقنا على هذه النظرة فإننا لن نجد مشكلات حقيقية أمامنا، لأنه لا توجد إشكالية أصلاً بينهما، وستبقى كل المسائل التي من الممكن أن تثار مستقبلاً هينّة حتى لو كان هناك انحياز لواحدة منها.

وفي ظل وجود العلاقة التفاعلية - التعاونية لا أجد مبرراً لأي امرئ في أن يرفض الوحدة الوطنية، وسيلةً وغايةً، لان الوحدة الوطنية مفهوم نبيل وموضوعي وأمنية شريفة وعزيزة، وصلتها لا تتعلق بالجانب السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي حسب بل والديني ومن هنا جاء قوله سبحانه وتعالى عز وجّل "واعتصموا بحبل الله" وكذلك "ولا تفرقوا".

كما أنه لا يحق لأي امرئ أيضاً في أن يعارض الفدرالية "الاتحادية" معارضة المفهوم ومعارضة التطبيق هكذا وبدون طرح مسوغات مقبولة وحقيقية، مسوغات منطلقاتها ديمقراطية وليست استعلائية- استبعادية. فالفدرالية مطبقة في أكثر من (70) دولة في العالم، الثالث والمتقدم، وقد كتب لها النجاح في معظم هذه الدول.

وعلى الصعيد التطبيقي فأننا نرى أنه من الواجب الحث في مشكلة الوحدة الوطنية قبل الحث في مشكلة الفدرالية وذلك انطلاقاً من أن المشكلة الأصل هي الوحدة الوطنية وأن حل هذه المشكلة يعني حل الكثير من المشكلات ومنها الفدرالية.

ونلاحظ هنا أن مشكلة الوحدة الوطنية في العراق تعود إلى بدايات تشكيل الدولة العراقية ولا نحسب أن الفدرالية كانت مطروحة كخيار مثلما طرحت بعد سقوط النظام الاستبدادي في نيسان 2003. والهدف الأساس لدى القيادات والنخب العراقية السياسية والدينية هو كيفية إيجاد وخلق كيان سياسي عراقي يؤطر كل القوميات والمذاهب والأديان، وعندما كانت تحدث بعض الأزمات السياسية، فإن هذه النخب سرعان ما كانت تؤطرها بالوحدة الوطنية وبوسائل سلمية، ولذلك فأن أواصر الوحدة الوطنية العراقية في العهد الملكي كانت أقوى بكثير من أواصر الوحدة الوطنية التي وجدت في العهود اللاحقة "في أطار النظم السياسية الجمهورية"، ولعل من أسباب ذلك هو وجود مناخ سياسي تعددي، سواء كان تعددية سياسية أو تعددية حزبية واعتماد النشاط السياسي التنافسي السلمي وليس التصارعي العنيف خاصة في ظل غياب التنافس والصراع السياسي على الزعامة والرئاسة بسبب وجود الملك باعتباره المرجع السياسي الأول والأخير للعراقيين.

أما البحث في مسألة الفدرالية فإن كان قد أشتّدَ بعد سقوط النظام الاستبدادي إلا أنه يعود لما قبل ذلك بسنوات عديدة توجّها مؤتمر لندن ومؤتمر الناصرية اللذان اتفق فيهما على وجود عراق ديمقراطي تعددي فدرالي.

وبعد سقوط النظام الاستبدادي، وبعد مداولات كثيرة وشاقة، ما بين القوى السياسية والحزبية والدينية تم الاتفاق على نظام حكم للعراق وصفته المادة الرابعة من قانون إدارة الدولة العراقية الانتقالية بـ"جمهوري اتحادي "فدرالي" ديمقراطي تعددي.... ويقوم النظام الاتحادي على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية.... وليس على أساس الأصل أو العرق أو الأثنية أو القومية أو المذهب".

والمفارقة هنا أن هذا القانون قد احتوى على الكثير من النصوص والفقرات والمصطلحات المتعلقة بالاتحادية "الفدرالية"، ولكن الوحدة الوطنية ترد مرة واحدة وبعبارة فقيرة، وذلك في الديباجة "إن الشعب العراقي...... وساعياً في الوقت نفسه إلى الحفاظ على وحدة وطنه بروح الأخوة والتآزر".

والتساؤل الذي يطرح هو ما هو حال الوحدة الوطنية والفدرالية في مستقبل العراق السياسي؟

وهنا يجب ألا تبتعد أجابتنا عن خبرة التجربة السابقة مع الاستبداد، فالتلاحم الحقيقي لا تعكسه النصوص القانونية والدستورية بل التطبيق الفعلي لها على أرض الواقع، فكثيرة هي الحقوق التي احتواها دستور 1970 ولكن لم يكن لها في التطبيق نصيب!!.

أما إجابتنا فتتحدد بالمحاور الآتية:

أ) إذا ما انطلقنا من أن الفدرالية هي وسيلة من وسائل بناء النظام السياسي والاجتماعي الديمقراطي في العراق، وأن الديمقراطية تعني إعطاء حق التعبير ليس للأفراد فقط بل للأجزاء المكونة للعراق "أقاليم أو محافظات" أولوية وحق مشاركتها في صنع القرارات وتنفيذها ومراقبتها، سواء كانت عربية أو كردية أو تركمانية، إسلامية كانت أو مسيحية... إذا ما انطلقنا من هذا المنطلق فلن نجد موجباً لرفض الفدرالية أو محاربتها.

ب) إذا ما ركزنا على عملية بناء الوحدة الوطنية على أنها عملية سلمية طوعية وليس إكراهية، هي عملية تأخذ معنى الصهر وليس القهر، وخلق الرغبة عند الشعب للاتحاد وليس جبرهم بالاستبداد، وأن الوحدة الوطنية الحقيقية هي تلك المتأتية عن طريق الوسائل الديمقراطية، فعندئذ ستكون الفدرالية وسيلة من وسائل تدعيم الوحدة الوطنية والديمقراطية كونها وسيلة طوعية وليست قسرية ومن ثم لا يجوز رفض الفدرالية، وبدهياً الوحدة الوطنية أيضاً.

ج) إذا كانت عملية بناء الوحدة الوطنية عملية إكراهية، مثلما كانت هي في ظل النظام الاستبدادي السابق، حيث لم نجد الاحترام للتنوع السياسي والاجتماعي والثقافي بل سيادة لغة البعد الواحد والحزب الواحد والوحدة الوطنية "الوحدة الشخصية"، فأنه من المحتّم أن نسمع أصواتاً لا تنادي بالفدرالية بمعناها السياسي السليم بل بمعاني قد تبتعد عن الفدرالية وتقترب من معاني الانفصال والانقسام والتشظية.

د) أن نظرة المركز السياسي تجاه الأطراف السياسية سواء كانوا أفراداً أم أقاليم وطبيعة نظرة الأطراف السياسية تجاه المركز ستحدد الكثير من المسائل سلباً أو إيجاباً . فيما يخص نظرة المركز للإطراف فنجد أن شيئاً ايجابياً هو ما نصت عليه المادة (52) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية "يؤسس تصميم النظام الاتحادي في العراق بشكل يمنع تركيز السلطة في الحكومة الاتحادية، ذلك التركيز الذي جعل من الممكن استمرار عقود الاستبداد والاضطهاد في ظل النظام السابق، إن هذا النظام يشجع على ممارسة السلطة المحلية من قبل المسؤولين المحلّيين في كل إقليم ومحافظة ويخلق عراقاً موحداً يشارك فيه المواطن مشاركة فاعلة في شؤون الحكم ويضمن له حقوقه ويجعله متحرراً من التسلط".

أما من ناحية الأطراف السياسية فانه من واجب الأقاليم والمحافظات الاّ تنظر للمركز نظرة الريبة والشك تجاه كل ما يصدر عن المركز. كما يجب ألا يكون التعامل استعلائياً، لأي سبب كان، لأننا نلاحظ أن الأطراف والأقاليم بدأت تتمنطق الاستعلاء مثلما كان المركز في السابق هو الذي يستعلي على الأطراف.

ويجب أن يكون هناك ترشيد واستخدام عقلاني وموضوعي لمفهوم الفدرالية.. فالفدرالية في الولايات المتحدة ليست هي ذات المفهوم في العراق، والانقسامات المذهبية في الهند ليست هي حالها في العراق، والاتساع الجغرافي لينجيريا أو المكسيك أو كندا ليس مثل مساحة العراق التي تكاد تكون صغيرة نسبياً.

والفهم العقلاني والرشيد ينطلق من معادلة مفادها إذا ما كان لأصحاب الأطراف صوت في المركز، ولهم مراكز سلطوية عالية تقود هي الأخرى لتقوية صوتهم، فما الداعي للمناداة بالفدرالية؟ المناداة التي قد تقود لإحداث إشكالات في توجهات الوحدة الوطنية، ووجود المراكز السلطوية لن يحقق عدم تمركز وتركز السلطة فحسب، بل وأن تكون القرارات السياسية قرارات سياسية فدرالية المضمون، وستكون أجدى من جعل الفدرالية على مستوى النصوص والبلاغة، ولكن مع زرع الشكوك المتبادلة على أرض الواقع.

والفهم العقلاني ليس مطلوباً فقط من أصحاب ودعاة الفدرالية بل وبقية المحافظات والأقاليم والنخب السياسية التي تقف موقف التأييد والرفض للفدرالية، ولن ندرك الفهم العقلاني إلاّ إذا انطلقنا من مسلمة أساسية مفادها أن الديمقراطية هي الإطار المرجعي السياسي لكل من الوحدة الوطنية والفدرالية، وأنه إذا ما تحققت الديمقراطية الحقيقية، ليست الكاملة مثلما ذهب إليه قانون إدارة الدولة العراقية الانتقالية، أقول إذا ما تحققت الديمقراطية الحقيقية بشكلها الأدنى فأن الوحدة الوطنية ستتحقق، وكذلك أيضاً إذا ما اعتمدنا على الديمقراطية كوسيلة في التعامل مع الأفراد والأقاليم، القوميات والمذاهب، فأن الفدرالية ستتخلّى عن طرحها الجزئي والفرعي لأن الأصل قد تحقق.

ولذلك علينا الاّ نروّج لمفاهيم موازية للفدرالية مثل الانفصال والانقسام أو نروج لمفاهيم مضادة للفدرالية أي كانت هويتها سياسية كانت أم غير سياسية.

وإذا كان لا بد من ترويج فأنه يجب أن يكون نحو فكرة ديمقراطية الوحدة الوطنية ووحدة وطنية ديمقراطية، وعندئذ فقط ستضعف كل الدعوات للفدرالية سواء كان بشّقها الايجابي أم السلبي، لدى مؤيديها ومعارضيها، لأن البديل سيكون هو العراق الديمقراطي لكل المحافظات والأقاليم والاقضية والنواحي والديمقراطي العراقي لكل المواطنين.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net