خطوة... و سراج

   

البحث عن حقيقة هذا الوجود وما يحصل فيه من ظواهر، وكذلك معرفة واستشراف ما يخبئه القادم من الأيام، هما هاجسان ظلا ومافتئا يلازمان إنسان هذه الأرض سوية مع هاجسه الأبدي للحصول على لقمة العيش من اجل إدامة بقائه حياً فيها.

حدث ذلك منذ أن بدأ الإنسان إحساسه بذاته، وشعوره بتميزه عن باقي المخلوقات بعقله، أي منذ لحظة تفكيره بـ"أناه" وبالعالم المحيط به أيضاً.

ولقد دعا الإسلام الحنيف لمثل هذا النوع من التفكير المعرفي وبوأه منزلةً رفيعةً، حيث يقول الإمام محمد بن علي الباقر مؤسس مدرسة أهل البيت (ع)، في هذا الموضوع: تفكير ساعة... خيرٌ من عبادة ستين سنة.

التفكير المقصود بقول الإمام "باقر العلم" (ع) ليس هو شرود الذهن في حالة وجد أو ليلة سهاد، كما أنه ليس التفكير بالشأن الخاص، من غير نكران ذلك ولا تحريمه! إذ أن التفكير الذي يحث عليه الإسلام بلسان الإمام (ع) هو البحث والتقصي في مسائل وقضايا ذات عمق وبعد كبيرين، أي تلك التي تهدف إلى تحقيق الخير والنفع للناس كافة.

إذن فنحن والحالة هذه أمام دعوة هي أقرب للتكليف منها إلى الوعظ، للبحث فيما يحصل في المجتمع الإنساني من ظواهر عامة، وفيما يواجه إنسان عالمنا اليوم من قضايا وما يعترض حياته من مشاكل، في سبيل إيجاد الحلول الناجعة، أَملاً في الوصول يوما ما إلى الحالة التي يحيا فيها الإنسان على هذه الأرض، حياة تليق بآدميته وبكونه خليفة الله على أرضه.

ولأجل أن ننجز عملنا الكبير هذا وبالشكل الصحيح، فأن ذلك يتطلب منا أن نؤسسه على أرض صلبة وبأركان وركائز قوية، بخطوات رصينة ومتئدة ووفق منهج علمي مدروس ووفق رؤية إنسانية خيّرة، ومن تلك المتطلبات هو اختيار اللغة المناسبة، التي ستكتب بها نتائج وتوصيات الدراسات والبحوث كي يفهمها المعني بها إن كان من أصحاب مراكز القرار في الدولة أو في منظمات المجتمع المدني غير الحكومية (N.G.O)، أو إلى الناس "كافة".

لقد تأسس هذا المركز بداية هذا العام 2004 تقريباً بهدف إيجاد مؤسسة بحث فكرية، علمية مستقلة، ونحن وبعد أن بدأنا مشوارنا الطويل هذا، نعرف ونعي جيداً مدى صعوبة ووعورة الطريق الذي عزمنا بعد التوكل على الله المعين... أن نسير فيه.

وحينما نقول بصعوبة هذه المهمة فأننا لا نريد أن نبرر لما قد نقع به من أخطاء مستقبلاً، أو قد يواجهنا من إخفاقات ولكن لقولنا هذا أسبابه: فنحن العراقيين قد خرجنا لتونا من حقبة من الزمن امتدت لأربعة قرون كاملة، كانت أشد هولاً من تلك التي تصورها "جاك لندن" في روايته الشهيرة "العقب الحديدية"، وأكثر غرابة من التي عاشها أبطال "خوزية غارسيا ماركيز" في "مائة عام من العزلة"، وأمرَّ سخرية عّما حكى عنه "جورج ارويل" في روايته ذائعة الصيت "حديقة الحيوان"، حقبة كان الحاكمون فيها من تلاميذ "غوبلز" وزير دعاية "هتلر"، صاحب القول الشهير "إني إذا رأيت رجلاً يحمل كتاباً، أتحسس مسدسي"!. وكانت من أولى مهامهم هي قتل العلم والمعرفة، وإشاعة الجهل والتخلف، واغتيال ونفي العلماء والمفكرين، أربعة عقود من الانقطاع عن مصادر المعلومات والثقافة المعرفية، تلك العقود الأربعة وما حصل فيها أنتجت ما نعيشه اليوم من حالة كارثية على كل الأصعدة والمجالات وبالخصوص منها، مجال العلم والثقافة والمعرفة.

هذا هو السبب الأول، أما السبب الأخر الذي نود الإشارة إليه، فهو أننا ولكوننا جزء من هذا العالم، فنحن نعيش مرحلة من أصعب وأعقد المراحل التي مرت على البشرية وهي مرحلة "العولمة" (Globalization)، التي تميزت عن غيرها من المراحل التي سبقتها بالعديد من السمات من أبرزها:

1) انفراد دولة واحدة بقيادة العالم "الولايات المتحدة الأمريكية"، وبدء تشكل وصيرورة نظام دولي جديد، بل عالم جديد بدأ بأحتلال العراق.

2) تسويق مفاهيم وقيم وأفكار الدول المتقدمة في العالم سوية مع تسويق أجهزة المعلومات "الحاسوب" ووسائل الاتصال "الانترنيت"، وإعادة صياغة مضامين المفاهيم وبما يتفق ويتسق مع شروط وغايات النظام الدولي الجديد.

3) العمل على خلط تلك الأفكار والمفاهيم بالشكل الذي يؤدي إلى فوضى معرفية شاملة وبحيث يصعب التمييز والفرز بين حالة وأخرى، كاستخدام مفهومي الإرهاب والإسلام السياسي سوية وبصورة تجعل المتلقي يظن بأنهما مفهوم واحد!.

4) إعادة تشكيل مفردات اللغة، من أجل أعادة تشكيل عقل جديد وبالخصوص في هذه المنطقة من العالم التي يراد لها أن تكون نموذجاً لما يسمى بالعالم الجديد.

ولنا حول النقاط السابقة وبما يتعلق بطبيعة عملنا كمركز دراسات بعض الملاحظات:

أ ـ إن الطبقة الرأسمالية في الولايات المتحدة وفي العديد من البلدان الأوربية المتقدمة كذلك تجدد نفسها وتعيد إنتاج قواها وتتجاوز أزماتها بنجاح وفق خطط علمية دقيقة هي عبارة عن نتائج وتوصيات مراكز الدراسات والأبحاث فيها، تلك المراكز التي صار اسمها عنواناً للتقدم العلمي والتطور الفكري، لإنسان هذا العصر من مثل "بروكنفز"، وواشنطن، ونيويورك للشرق الأوسط، واوكسفورد، وفرانكفورت، وغيرها الكثير.

ب ـ ونحن نعيش مرحلة صيرورة وتشكيل للنظام الدولي الجديد، فانعكاساً لذلك وكنتيجة منطقية له، نعيش حالة صيرورة وتشكيل لمضامين جديدة تخص مفاهيم ونظريات في العلوم السياسية والقانون الدستوري وحتى القانون الدولي، ظلت سائدة لوقت طويل ولمّا يزل قسم كبير منها متداولاً.

وفي هذا الخصوص لم تعد السيادة هي ذات السيادة التي كتب عنها "جون بودان"، ولا الديمقراطية هي نفسها التي بشَّر بها ودعا إليها كل من "فولتير" و"مونتسكيو" ولا حتى تلك التي قاتل في سبيلها "توماس جيفرسون".

والأحزاب السياسية هي الأخرى ليست بالضرورة لها شروط وقواعد عمل الأحزاب التي عّرفها "موريس ديفرجيه" وحتى الدولة اليوم هي غير مفهوم الدولة الذي حدده "العميد دوغي".

ويكثر الحديث هذه الأيام عندنا عن مفهوم "المجتمع المدني"، ولكننا كباحثين نعرف بأنهم لا يعنون به عين المجتمع المدني الذي دعى إلى تشكيله "انطونيو غرامشي" كسلطة موازية لسلطة الدولة.

وحتى المفردات صار يعاد صياغتها اعتماداً على نتائج البحوث والدراسات في "علم أجتماع المعرفة" "الابستمولوجي"، حيث قامت المراكز البحثية بتطوير ما قام به "كارل مانهايم" والمدرسة البنيوية "مدرسة فرانكفورت ونظريات رموزها كشتراوس وفوكو وغيرهم.

غير انه على الرغم من كل شيء يجب أن لا نقاطع كل ما ينتجه الغرب من علم ومعرفة أو أن نمنع الناس من الحصول عليها، بتلك الحجة ، لا لأنه ليس بالضرورة أن يكون كل ما يردنا منهم هو ضار لنا ولا يمكننا الاستفادة منه، وهذا ما يتطلب منا أن نخضع كل ما يرد إلينا من نظريات وأفكار وما يحصل في الغرب من ظواهر وأزمات، إلى البحث العلمي الدقيق والدراسة المنهجية الموضوعية، لأخذ ما يمكننا الإفادة منه وترك المضر والمسيء.

وهنا تبرز وتتضح لنا مرة أخرى أهمية مراكز الدراسات والبحوث، إننا لا نكتشف جديداً بقولنا أن ما وصل إليه الغرب من تقدم وما حققه من تطور في ميادين الحضارة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان، لم يحصل جراء انغلاقه على ذاته ورفضه الاستفادة من نتاج الحضارات الأخرى، بل بالعكس من ذلك تماماً.

فلقد أقام الغرب حضارته، كما هو معروف للجميع وأسس بناءه المعرفي على العلوم والمعارف التي أخذها واستقاها من الحضارة الإسلامية في الأندلس.

وعودة إلى بدء وبناء على ما سلف ذكره، فإن أول ركن من أركان بنائنا المعرفي هذا هو اعتمادنا سياسة الانفتاح على الفكر العالمي بمختلف اتجاهاته وألوانه ومهما كانت مصادره وتأسيساً على ذلك، فأن نهج هذا المركز بل من أسباب وجوده هو بث الفكر الإنساني النبيل الداعي إلى حوار الحضارات وتلاقحها بدلاً من صراعها وتعاديها، مستندين في ذلك على الآية القرآنية الكريمة "وجادلهم بالتي هي أحسن".

وإشاعة مفهوم قبول الآخر ومد جسور الثقة والتفاهم معه وليس رفضه ستكون من أولويات اهتمامات هذا المركز التي ستجسدها بحوثه ودراساته، وقبل إن تصل رحلة كلماتنا هذه إلى محطتها الأخيرة وقبل أن تودعها أعينكم العزيزة نستأذنكم بالتوقف لحظة في محطة نراها غاية فيما يخص ستراتيجية عملنا بالمركز، صحيح أن جُلَّ اهتمامنا سينصبّ على دراسة الجديد من الظواهر والمشاكل والقضايا التي ستطفو على سطح المجتمع، وتواجه الناس، عراقياً كان أو عربياً أو إسلامياً أو دولياً. إضافة إلى مناقشة ما يظهر من اتجاهات ونظريات فكرية حديثة.

لكننا وفي عين الوقت سوف لن نهمل إعادة بحث ما يضمه ويحويه تراثنا الإسلامي العظيم من كنوز في الفكر والمعرفة الإنسانيتين، لذا فإنه سيكون من مهام هذا المركز أيضاً هو إزالة الغبار الذي تراكم على تلك الكنوز لسنين طوال، ليس لمجرد الاستذكار والاعتزاز والتباهي ولا لغرض المحاججة فقط، لكن للاستفادة منها كدليل عمل للناس كافة في عالم اليوم كثير المتاهات وعديد المطبات.

ففي عام 2002 وفي رسالته السنوية التي وجهها من خلال منظمة التنمية الاقتصادية والتعاون التابعة للأمم المتحدة، طلب السيد كوفي عنان الأمين العام للمنظمة الدولية، من حكومات دول العالم، وبالخصوص منها بلدان العالم الثالث، أن تعتمد "عهد الإمام علي (ع) إلى مالك بن الأشتر عندما ولاَّه مصر"، كدليل عمل لها في سياساتها تجاه شعوبها.

وبالخصوص ونحن نعيش في هذا الواقع الدولي الكارثي الذي يشهد تشويهاً لصورة الإسلام الحقيقية، جراء الإرهاب الذي يمارسه أناس هم نتاج مختبرات "غسل الدماغ الجماعي".

وأخيراً ونحن نعيش كذلك عصر "فوكوياما" و"هنغنغتون" و"ريتشارد بيل" (The prince of darkness) و "هارلان كليفلاند" صاحب نظرية الفرصة المتاحة..

فأننا نود أن نقول مرة أخرى، بأننا ندرك مدى صعوبة هذه المرحلة التي أسسنا فيها مشروعنا المعرفي هذا وهو مما قد يثير الشعور باليأس والإحباط لدى الكثيرين، غير أننا ولكوننا أصحاب رسالة في هذه الحياة، فقد عزمنا، وبعد التوكل على الله العزيز، أن نسعى وبالاعتماد على العقل النير وبالاستناد إلى الفكر الخير أن نجعل من مركزنا هذا ، ومن "منار المستقبل" بالذات، خطوة صحيحة وواثقة في مسيرة إنسان هذا الكوكب في بحثه الدؤوب عن الحقيقة، وسراجاً وهاجاً يستشرف القادم من الأيام.

 

الصفحة الرئيسية | نشاطات المركز | مقالات | عن المركز | بحوث مستقبلية | إصدارات المركز | الهيئة الإستشارية | منار المستقبل | إتصل بنا

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

 جميع الحقوق محفوظة لمركز المستقبل للدراسات والبحوث / 1426هـ / 2005م

info@mcsr.net