إشكالية الفهم
لا يخطيء من يظن أن العالم، بما واجهه من تغيرات..
غيرتّ أسس الأداء السياسي وقبل ذلك حققت هزات خطيرة
لمفاهيم تم الاعتياد على تداولها.. وشككت في جدوى معطيات
كثيرة، وجد نفسه أمام عصر أقل ما يوصف به، أنه عصر
التناقضات تتجاهل فيه الايديولوجيات(7)، وتزداد فيه الحاجة
للتشريع وكأننا لا نقوى على الحياة دون تكبيل جديد تحت حجج
مبتدعة تتكاثر في ظلها قوانين وتشريعات وضعية مضافة تتجه
نحو ترسيخ النزعة العلمانية وهجر مسوغات التأثير التي
تسوقها الروح ومن خلفها المرجعيات الدينية والقيمية
والمعنوية وصولاً إلى عصر تتواتر فيه الرؤى والعقائد
والاستراتيجيات التي همها الوحيد رهن الإرادة البشرية
بسياسات وآليات تحرك الإنسان لا وفقاً لطاقاته وما يمتلكه
من ممكنات.. بل على وفق ما يراه الآخر له.. حتى تبدو
إنسانيته وقد تحولت إلى مجرد أداء إداري متجمد في أنساق
موصوفة من الإجراءات يتلاعب بها القابض على السلطة.
وفي رحم هذا التناقض أصبح الإنسان بأمسّ الحاجة لمناقشة
ذاتيته.. بل ومصيره ليس لإيقاف ما يعانيه من تداعيات أشكلت
حياته وجعلته عنصراً مهملاً في حسابات بناء الدولة.. بل
لتأطير تحفزه للمشاركة في بناء الدولة كمعطى مجتمعي لا
سياسي فحسب(8)، ولعل من أولى محاولات التأطير المبذولة
بهذا الاتجاه.. تحديد موقفه من الديمقراطية التي لم يعد
ينظر إليها بأنها وليدة زمانها أو مكانها وأنما هي ظاهرة
معبرة عن تطور متواصل لعلاقة المحكومين بالحكام(9)، ولأن
الحصيلة كغاية لم تدرك لحد هذه اللحظة.. ولأن الثوابت
تعرضت لغزو مفاهيمي زاد من اختلال العلاقة بين طرفي ظاهرة
الوجود الإنساني لا سيما ببعدها السياسي.. فإن تلك
الظاهرة، الموقف من الديمقراطية، أصبحت ضحية للجدل المحتدم
بين المثالية والبراغماتية دون أدنى تفكير بالعلّة
المسبّبة لكل ذلك حيث تكريس ابتعاد الإنسان عن الروح
ومرجعياتها المعنوية.
ومن علامات ذلك الجدل، أن رأى البعض(10) بالديمقراطية
نموذجاً اجتماعياً وسياسياً تتسق فواصله مع الزمن وفق
قوائم تبادل تصل إلى حد كفالة العلاقة بين الإنسان- الفرد
وبين الحكومة المفصحة عن إرادته.. تلك القوائم التي تتولى
بتواترها وقيمتها والاعتراف بها واستمرارها خلق شبكة من
العلاقات المغذية والداعية إلى تداول أمور السلطة وضبط
أدائها بوسائل رقابة دائمية ومحددة ومؤثرة في مسار الحياة
السياسية التي لا يجوز أن ينالها الصدأ عبر برامج وسياسات
مقصودة بحجة كسر رتابة الأداء الديمقراطي والتجاوز
لروتينيته.
وتبدو هذه الرؤية بما تفصح عنه من مصداقية، وكأنها تضم
بمفرداتها مشروعاً حضارياً بعده الوسائلي يكمن في الخطوات
الديمقراطية.. وأولها الانتخابات التي ينتظر ممارستها
بسلمية وحضارية دون الانغماس في البحث عن مردودات سياسية
مادية فحسب.
أما البعض الآخر(11).. فما زال غير واثق، والحال الذي
نحن فيه، من أن التشبت بالديمقراطية كنموذج أداء وانقاذ
سياسي واقتصادي واجتماعي، يمثل الحل الشامل بسبب ما يعانيه
العراق والعراقيون من وضع استثنائي وإنفلات أمني وتدمير
لبنى الأداء المجتمعي المتعدد المصادر والأساليب والوسائل،
الأمر الذي يستلزم، بدءاً، بناء برامج للتكيّف السياسي
والاجتماعي قبل التحدث أو التفكير بالديمقراطية كأسلوب
بناء وممارسة للعملية السياسية.
ولأن العملية الديمقراطية لا يمكن أن تكون عنواناً
للعقلانية دون المباشرة بصياغة مشروع للتسامح يحقق في سر
الالتفاف حول الفكرة السياسية ومرجعيتها صيانة للعقد
الاجتماعي اللازم للبقاء الموحد... ترى دعاة هذا الرأي غير
متحمسين للبدء بعملية البناء الديمقراطي قبل البدء بصياغة
أجندة موحدة لتكتيل الإرادة الكبرى للشعب التي تذوب فيها
كل السياسات، وتتوحد باتجاه حسم وجهتها حتى تصبح بنتائجها
معطيات جديدة تضيف مسحة الانتظام على ممارسة ما تضمه من
إجراءات، وهكذا يبدو الانتظام في الممارسة الديمقراطية
نتيجة لإرادة التوجه الموحد لا شرطاً لإتمامها أو بلورتها
فحسب، وما يكن من أمر هذا الجدل، فإن الهدف المشترك لكل
تلك الرؤى يتمحور حول الكيفية التي يتم من خلالها رؤية
الديمقراطية ككل قيمي ومؤسسي يهدف إلى تحقيق نوع من الحرية
والعدل والمساواة وبما يجعلها قاعدة للتعبير عن مطالب..
وقاعدة للتغيير وصولاً لخلق مجتمع تكون أفعاله ترجمة
مقصودة لخياراته(12).. تلك الترجمة التي ستشكل بمساحاتها
المتعددة مثابة وفاق بين الحكومة ومواطنيها.. وذلك هو درب
الإفصاح عن مكنون الديمقراطية كأداء مجتمعي بغاياته
المتعددة والشاملة. |