يتفق معظم علماء
الاجتماع والمفكرين والباحثين المتخصصين على أن الدستور بمثابة
عقد اجتماعي ينطوي على مواد قانونية وسياسية واجتماعية
واقتصادية...الخ بوصفه أعلى قانون في المجتمع والدولة، وتبعاً
لذلك فأن انبثاق أي دستور جديد وفي أي بلدٍ كان، يستلزم توافر
مجموعة من القواعد الأساسية التي ينبغي الاستناد عليها، يضاف
إلى ذلك أن الدستور الجديد ربما يستفيد من بعض الفقرات والنصوص
الأساسية التي كان معمولاً بها الدستور السابق مع إضافة بعض
التعديلات عليها وبما يتلاءم مع واقع وحاجات المواطنين خدمةً
لأهدافهم أولاً وأخيراً.
وتشهد العملية
الدستورية في العراق تجاذبات من أطراف مختلفة تعبر عن انتماءات
متعددة مكونة لكافة أطياف الشعب العراقي، الذي ينتظر بشغف ما
ستؤول إليه صياغة الدستور من مضامين ودلالات تفضي في نهاية
الأمر إلى انبثاق دستور عراقي دائم.
وهنا طرحت
العديد من المقترحات والتوصيات سواء على الصعيد السياسي
القانوني والاجتماعي...الخ بشأن الأفكار التي يمكن أن تسهم في
تطوير رؤى جديدة يمكن بلورتها بشكل ايجابي للاستفادة منها في
العملية الدستورية.
وفضلاً عن ذلك،
فأن تشكيل الجمعية الوطنية للجان المتخصصة والفرعية للمساهمة
في صياغة الدستور يمثل نقطة تحول بارزة على صعيد العمل الجماعي
المتجسد بأبرز صور الديمقراطية القائمة على احترام الرأي
والرأي الآخر. ذلك وإن كان تشكيل هذه اللجان قد استند بصورة
رئيسية على مبدأ المحاصصة الذي اعتبره البعض قائم على
(الطائفية) القائمة على تمثيل أكبر للقوائم الفائزة في
الانتخابات، ولكن هذا لا يعني بالضرورة احتكار تلك القوائم
لهذا التمثيل.
فمع بروز بعض
الاختلافات التي لازمت البدء بصياغة العملية الدستورية والتي
تمثلت حول نسبة مشاركة العرب السنة في الانتخابات وضرورة
حصولهم على المقاعد المطلوبة والكافية لتمثيلهم ومشاركتهم في
العملية الدستورية، إلا إن هذه الأزمة قد اتجهت إلى الانفراج
بالاتفاق بين جميع القوائم، والكيانات السياسية حول المشاركة
الفاعلة للعرب السنة.
وهنا نشير إلى
أنه بالرغم من الإقرار بوجود بعض التناقضات ونقاط الاختلاف حول
بعض المسائل العالقة بين بعض الكيانات السياسية حول المشاركة
في صياغة الدستور إلا أنه تم احتواء هذه الاختلافات ضمن نطاق
أوسع، فعملية المحاصصة التي تجري بها العملية السياسية الحالية
في العراق يمكن اعتبارها عملية مرحلية ومؤقتة وبنفس الوقت هي
ضرورية في الوقت الحاضر لأسباب منها حالة الحرمان والتهميش
الذي تعرض له الشيعة خلال العقود الثلاثة الماضية نتيجة عمليات
الاستبداد والطغيان التي كان النظام السابق يقوم بها والتي
أبعدت المجتمع العراقي عن مفهوم الشفافية والديمقراطية، ولهذا
فإن مبدأ المحاصصة يكون هنا أمراً طبيعياً، وهذا نابع بالأساس
من الانتماءات إلى الأحزاب والكيانات السياسية والدينية مثلاً،
المعبرة عن توجيهات معينة، ولهذا فقد تجسدت هذه الانتماءات
بالولاء للطائفة أو الكيان السياسي المعبر عن انتمائهم له،
ولكن هذا لا يعني بالضرورة تغليب هذه الولاءات لصالح هذه
الانتماءات، بل ينبغي أن يكون البرنامج السياسي لكل كيان أو
حزب معبراً بصدق عن الشفافية وقائم بالأساس على مصلحة الوطن
والمواطنة العراقية ذات الهوية العراقية.
فالعراق يعتبر
من الدول التي خطت مسار الدولة حديثة العهد بالديمقراطية وهذه
المرحلة تستوجب التمعن والبدء بأولى خطوات العمل الديمقراطي مع
التسليم بوقوع الهفوات والأخطاء والذي يعتبر أمراً طبيعياً
فالمجتمع العراقي مازال يفتقد لغياب ثقافة ديمقراطية عراقية
صحيحة والمهم هنا أن يكون هناك وعي سياسي ديمقراطي ووعي ثقافي
للمواطن بأهمية العمل الديمقراطي، لكي يستطيع الفرد العراقي
استيعاب المرحلة القادمة بما تحويه من افرازات سلبية أو
ايجابية يستطيع من خلالها الشعور بأهمية العمل الجماعي المنظم.
إن مبدأ
المحاصصة وان كان يحمل في ثناياه رؤية معينة أفرزتها المرحلة
الحالية ومع انه يثير الكثير من الجمل والنقاش حوله في الأوساط
السياسية الحكومية وغير الحكومية، فأنه يمكن أن يعبر عنه بصورة
أو بأخرى بأنها استحقاق انتخابي ينبغي الأخذ به نحو بلوغ أهداف
متوسطة المدى لتحقيق نجاح العملية السياسية وتعزيز لمبدأ
الديمقراطية وصياغة دستور عراقي دائم. على أن الأخذ بمبدأ
المحاصصة لا يكون هدفاً مستقبلياً وأنما يمكن أن يكون وسيلة
يُراد منها بلورة ونسج أولى خيوط الديمقراطية.
وهذا متوقف
بدوره مباشرة على المرحلة القادمة التي ينتظر أن تشهد عملية
انتخابات جديدة تختفي وراءها كل أشكال المحاصصة وجعل مصلحة
الوطن والمواطن في قمة أولويات الحكومة.
وفي هذا الصدد،
فأن عملية صياغة الدستور العراقي ينبغي أن تتضمن كافة المبادئ
والضوابط الأساسية المجسدة للخيار الديمقراطي وتضمن تحقيقه من
خلال تنمية وتفعيل دستور برلماني تعددي يؤكد على احترام حقوق
الإنسان والمساواة أمام القانون وتحقيق الفرص المتكافئة
والعدالة الاجتماعية للمواطنين.
ومن جهة أخرى،
فأن النقاشات والحوارات التي تجري إلى يومنا هذا عن الدستور
المقبل وكيفية كتابته والمواد التي يجري تضمينها والأجواء
العامة التي يجري فيها هذا التحاور والتمحيص، تعتبر حالة جيدة
طالما انحسرت في مسألة طرح الفكرة ونقيضها باتجاه العمل على
إنضاج دستور متكامل قدر الامكان، لكن الملاحظ أن فئة غير قليلة
لا تعلم شيئاً عن الدستور وماهيته والغرض منه ومطلوب من
المواطنين إبداء رأيهم بهذا الدستور عبر استفتاء عام. ونظراً
لجهل الناس بالصيغة المثلى التي يتوخونها فأنهم سيكونون عرضة
لا ملاءات من فئات تريد تمرير مواقف سياسية- سلباً أو إيجاباً-
من خلال آراء تطرحها هذه الفئات التي يكون لها أثرها في توجيه
سلوك الناخب دون أن يعي أين تكمن مصلحته الحقيقية.
وهنا نشير إلى
أن العقل العراقي مازال مكبلاً لحد الآن بفكرة عدم قدرة
الأفراد العاديين على التغيير وفرض أرادتهم، فالفرد العرقي
يعترض على كل شيء ولا يقبل أي شيء، ويصبح من الضروري على
الجمعية الوطنية تفعيل دور المنظمات غير الحكومية ومؤسسات
المجتمع المدني الغائب دورها والتجمعات السياسية الأخرى
والأكاديمية لتأخذ دورها في طرح أفكارها بما يسهم في تنشيط
المناقشات والمقترحات بشأن الدستور العراقي الدائم.
إن العملية
الدستورية الحالية في العراق هي بالأساس عملية استحقاق انتخابي
ذلك أن هناك مبادئ هامة ينبغي الاستناد عليها لتضمين وترصين
العملية الدستورية القادمة منها:-
تنمية وتفعيل
دور الديمقراطية قولاً وفعلاً، ذلك أن الديمقراطية التي
يحتاجها العراقيون في المرحلة الحالية والقادمة يجب أن تقوم
على أسس المعالجة الداخلية العرقية في ظل الاتفاق على أن
الديمقراطية هي مثابة وعي تراكمي لمتطلبات بناء سياسي واجتماعي
معبراً عن خصوصيات ثقافية وفكرية معينة.
وفي خضم المرحلة
الحالية المتمثلة بكتابة مسودة الدستور فأن الديمقراطية
وأجواءها لا تتم إلا بتوافر شروط أساسية هي:-
1. وبناء ونشر
ثقافة دستورية تعي متطلبات المرحلة القادمة تبنى وتؤسس
بالإنسان أولاً ذلك أن الأجيال التي تسعى إلى بناءها ستكون
اللبنة الأساسية لتأسيس وزرع بذور القيادات والمؤسسات الناهضة
بالمجتمع المدني وأهميته بالقدرة على العطاء والتوحد مع عناصر
الحياة الديمقراطية التحررية التي تجد في الإنسان هدفها
ووسيلتها وغاية وجودها الأسمى.
2. أهمية
التأكيد على وجوب زرع الروح النابضة في جسد كتابة الدستور التي
ينبغي أن تنبع وفق القوة الدافعة، والمكونة لعموم شرائح
المجتمع العراقي دون مصادرة أو استثناء أو تجاهل مشروعية
الدستور.
فالدستور
العراقي ينبغي أن يكتب بجهود وشخصيات عراقية مستقلة تؤكد
التزامها المطلق بالولاء للوطن بعيداً عن الخصومات والمزايدات
السياسية وهنا تستلزم عملية صياغة الدستور عملية بناء مؤسساتي
قائمة على إشاعة ثقافة الفعل الايجابي في عموم مؤسسات الدولة
وليس عملية هدم.
كما ينبغي
استبعاد كل الأفكار والرؤى الخاطئة التي تعمل على استناد وفهم
مبدأ المحاصصة الطائفية أساساً لبلورة وصياغة الدستور العراقي
الذي تناقش حالياً أسسه وهيكليته ومحاوره ومبادئه ولجانه
المتعددة، والذي هو بنفس الوقت أي (الدستور) يواجه عقبات كبرى
لا سيما منها ما يتعلق بـ كيفية تمثيل القوى المغيبة والغائبة،
وأين يكمن معيار المواطنة بوصفه شعار الدولة العصرية. حيث أن
هناك فهم سطحي وخاطئي لمفهوم الوحدة الوطنية، فبعض القوى
والتيارات السياسية تعتبر أن مجرد دعوة العرب السنة وضمهم إلى
لجنة صياغة الدستور ربما سيعمل على تحقيق الوحدة الوطنية
خصوصاً إذا ضمن هؤلاء بعض الحقائب الوزارية، وينسى هؤلاء أن
فكرة الوحدة الوطنية ليست حاصل جمح بعض ممثلي الجماعات والقوى
المذهبية أو الطائفية والاثنية الذين يبدون استعداداً للقبول
بها. ذلك أن فكرة الوحدة الوطنية أعقد بكثير من ذلك خصوصاً إذا
علمنا أن أفراد الطوائف والمذاهب والقوميات والاثنيات والأديان
الأخرى يتوزعون على تيارات مختلفة وان الطائفية والمذهبية قد
لا تكون من اولوياتهم.
فالمهم هنا هو
أننا أي دستور نريد وماذا نريد منه؟
إن الإجابة على
ذلك التساؤل تكمن في قدرة ودور اللجان المتخصصة والفرعية
المنبثقة من لجنة الدستور عل التعاطي الايجابي مع واقع
ومعطيات المجتمع العراقي وبلورة الأفكار والحاجات الملحة
للمجتمع إلى واقع عملي ملموس يستطيع الفرد العراقي من خلاله
الشعور بأهمية الدور المستقبلي للعملية الديمقراطية ذلك أن
الدستور المنشود يقتضي تضمينه بالقواعد والآليات التي تلزم
الدولة بالإقرار بالحقوق والحريات العامة للأفراد وبواجبها في
حمايتها وحرية تقرير المصير.
فالدستور الذي
يريده العراقيون دستوراً عادلاً وشاملاً لكافة فئات الشعب
العراقي مع السماح للحوار الفعال لكي تستمر الفترة المحددة
لكتابة وصياغة الدستور على أفضل وجه ممكن.
*ماجستير/ علاقات اقتصادية
دولية
مركز المستقبل للدراسات
والبحوث
www.mcsr.net |