مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية- ملتقى فكري*
تعد السلطة من المفاهيم الكلاسيكية المتداولة بشدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة، وفي العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي على وجه التحديد، باعتبارهما تخصصان يعالجان المفهوم من وجهة نظر سوسيو–سياسية، وقد أسال مفهوم السلطة الكثير من حبر المفكرين الأوائل والمحدثين باعتبارها ظاهرة عامة ودائمة لازمت كل المجتمعات عبر كل الحقب التاريخية، ولم تقتصر السلطة على الدولة أو على تنظيم سياسي معين فقط، وإنما توجد في جميع التنظيمات الاجتماعية الفرعية في المجتمع والتي قد لا تتعلق بالسياسة، فقد تكون سلطة رب أسرة أو سلطة شيخ قبيلة أو مدير مؤسسة أو رئيس دولة، فهي ظاهرة عامة تتخلل كل نواحي الحياة الاجتماعية إلا أنها غالبا ما تقترن بمفهوم السلطة السياسية وتتداخل معها، فقد شغلت السلطة الإنسان قديما وحديثا، فكرا وممارسة فهي تعبير ضروري عن حاجة الإنسان للسيطرة، باعتباره كائن اجتماعي بطبعه.
إن مفهوم السلطة هو مفهوم إسفنجي إن صح الوصف والتعبير، لأنه يستوعب الكثير من الإسهامات الفكرية، وهو مفهوم متطور عبر الزمن يحتمل التغير الدائم، باعتبار السلطة ظاهرة ديناميكية، وقد يكشف لنا المستقبل عن أوجه أخرى للسلطة تتحكم في معالمها، لم نعهدها أو لم ننتبه لها مثل سلطة المال، وسلطة العلم ومعطيات أخرى مختلفة ومتنوعة تدفعنا لمزيد من البحث عن سبل الإمساك بزمام الأسباب الموصلة لبناء سلطة قوية تقوم على دعائم ثابتة ومواكبة لتطور البنى الاجتماعية، في إطار من التشاركية في تحديد الأهداف والغايات والعمل المتناغم، في ظل سلطة عليا مشروعة ومرتكزة على أسس رشيدة في سبيل الخير العام والتنمية المستدامة.
ومن أهم مقومات السلطة ما يلي:
أ- طرفي السلطة: لقيام السلطة لابد من آمر ومأمور بما أنها علاقة آمرية فلا يتصور قيامها على طرف واحد فقط فهي علاقة متعدية تحتاج للآخر.
ب- وجود المؤسسات: فلا نتصور بناء السلطة دون مؤسسات وقواعد وأنظمة رسمية تتضمن كل ما من شأنه تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبقدر ما تكون المؤسسات قوية بقدر ما تكون السلطة قوية.
ج- الشرعية: القبول هي من المقومات الأساسية لبناء السلطة واستمرارها باعتبارها علاقة مقبولة من قبل أفراد المجتمع فتحدد الشرعية دور ومكانة كل من طرفي العلاقة السلطوية وإمكانية استمرارها كعلاقة مجتمعية فهي الضامن الأساسي للسلطة، فالسلطة التي لا تستطيع خلق شرعيتها مصيرها الانهيار.
د- القوة: وهي فرض الإرادة والتي تتم ممارستها بأسلوبين:
1- تستخدم باعتراف عام كضرورة وحق اكتسبته السلطة من المرجعيات والضوابط التي يقرها المجتمع.
2- تستخدم القوة للسيطرة على الآخرين من دون موافقة اجتماعية أو سند أو مبرر اجتماعي، كما في حالة اغتصاب السلطة عن طريق التزوير أو الانقلاب فتصير سلطة غير شرعية، كما تتعدد وسائل فرض هذه القوة من وسائل عدة:
– الوسائل الفيزيقية: وتعتمد على القهر والتهديد وتطبيق الجزاءات.
– الوسائل المادية: وهي تعويضية مثل المكافأة والمزايا المادية والخدمية.
– الوسائل الرمزية: وهي معيارية تتمثل في توزيع وتجريد الكفاءات الرمزية من خلال تجريد الاحترام والهيبة ومن خلال طقوس معينة وكذلك الاستجابة تكون مجردة ورمزية.. فكلها
مقومات لابد من وجودها مجتمعة لبناء وقيام السلطة بصورتها النهائية.
وتعد ازمة السلطة السياسية في الدول العربية نتاجا لمكونات متداخلة وبصيغ مختلفة متنافرة غابت عنها المزاوجة العقلانية، حيث تمثل المكون الاول بالموروث الثقافي العربي المستند الى سياقاته التاريخية الخاصة به والمغايرة للواقع الحالي، وتمثل المكون الثاني في الفكر الحداثوي الاوروبي بعقلانيته وبسياقاته المكانية والتاريخية المختلفة عن الواقع العربي، علاوة على ان المكون الاول كانت له الصدارة والاساس في العقل العربي، بحيث ان كل وافد الى هذا العقل سيواجه حالة صراعية مع هذا المكون، وهو ما يجعل الامور تبدو وكأن هناك عملية تبديل واحلال مهددة له، وبالتالي يستنفر قواه لدحر الوافد الجديد او على الاقل افراغه من محتواه كونه اتى من سياق يختلف عن السياق الذي جاء منه الفكر الحداثوي الاوروبي.
اضافة الى ماسبق، عدم التعلم من الأخطاء السابقة، واستمرارية ارتكابها، يسبب زيادة المشكلات والأزمات على الجميع، وبالأخص على من ارتكبها، فهو لا يدرك خطأه إلا بعد أن يتلقن الدرس القاسي منه، وارتكاب الأخطاء في السياسة أمر وارد بقوة، بل الساحات السياسية لا تخلو منها، بعضهم يقر بخطئه فيلجأ إلى تصحيحه، وبعضهم يكتشف ذلك في بداية الأزمة فيلجأ إلى حلها، وبعضهم الآخر لا يعي ما فعله أساساً، إلا بعد فوات الآوان، وانتهاء الفرص، والأخير هو الخاسر الأكبر.
المشكلة هي أن غالبية الأحزاب السياسية العراقية، كانت من هذا القسم الأخير، فهي ترتكب الخطأ ولا تعي إلا بعد أن يصير الخطأ جرماً، وبذلك تسبب الخسارة للشعب ولنفسها أيضاً، فما يحدث فاق الأزمات والمشكلات، ولا أظن أن مرحلة ما، شهدت ما يشهده العراق اليوم، بمرحلته الانتقالية هذه التي لا نعرف إلى متى ستستمر، وقد أدرك الجميع أن هذه المشكلات لم تكن نتاج الحكم الديكتاتوري السابق، أو الاحتلال الإجرامي فقط، بل إن ما تحدثه الأحزاب السياسية، والسلطة التي تلت الهدام، أيضاً لها يد فيما يجري، فحين تسلم السلطة شخصيات تسعى نحو الأوتوقراطية، والتفرد بالسلطة لمدة طويلة، كانت سبباً كبيراً في انتشار الأزمات، وسياستها ذات المنهج اللا متزن، مما جعلت العراق ساحة صراع لا ينتهي.
بالإضافةً إلى عدم كفاءة الشخصيات التي تقود بعض الأحزاب السياسية، توجد مشكلات أخرى تتعرض لها هذه التيارت، منها؛ غياب الفهم والوعي السياسي لدى شخصيات كبيرة من هذه الأحزاب، وعدم السعي نحو ذلك الفهم، وأيضاً ظاهرة الاستتباع الخارجي، التي جعلت هذه القوى تعمل لصالح الخارج، لا لأجل الوطن، فالدولة التي تتمكن من الحفاظ على قوة احزابها، هي أولى بالخدمة بالنسبة لهم، كما أن انتشار روح المهاترة والمزايدة بين هذه الاحزاب ذاتها، تُعتبر من أهم المشكلات التي يمكن أن يتعرضوا لها، ناهيك عن عدم تبني خطاب سياسي جديد، واستمرار التغني والتفاخر ببطولات الماضي التي ملت منها الجماهير، وسلوك مسلك السياسة المخادعة، وعدم الالتفات لمتطلبات المجتمع والمواطنين!.
وغياب الرؤية والمنهج عند كثير من القوى والتيارات السياسية، هو السبب الأبرز فيما يتعرض له الجميع اليوم، وغياب المشروع، والاعتماد على الشعارات المزيفة فقط، سبب خللاً واضحاً في عملها، الذي كاد أن ينعدم، أو انعدم، لذلك هم ونحن بحاجة إلى رؤية سياسية تُطبق من خلال منهج، وبحاجة إلى مشروع، لا شعار، فالشعارات صدعت الرؤوس ولم تنفع الشعب في شيء، ولا بد من عمل صادق جاد، بلا هذه المزايدات والمهاترات التي يحاولون أن يستقووا بها، وبلا خرافات وإيديولوجيات لن تنفع في ثقافتنا وزماننا، والأهم هو وجود سياسة جادة، يقودها حكماء واعوان، لا جُهال لا يفقهون شيء!.
لا شك أن أزمة الوعي والإدراك، والعاطفة اللاصائبة، المستفحلة في المجتمع والجماهير، هي سبب أساس في استمرارية هذه الأحزاب، وفوز هذه التيارات غير العاقلة في الانتخابات بقوة، ما هو إلا دليل واضح على ذلك، فيبدو أن المهاترات التي يستخدمها الفاشلون، تؤثر فعلاً على عاطفة المواطنين، واستغلال العواطف المذهبية والقومية عند الشعب، من قبل هذه التيارات، كان له مردود إيجابي لهذه القوى الكاذبة، وتأثير سلبي على التيارات الصادقة العاملة، وهذه مشكلات خطيرة تؤدي إلى عدم حلحلة الأزمات المعاصرة.
يحاول بعضهم أن يوهم الجماهير بأنه يملك رؤية سياسية، فـينادي إلى رؤيته كلما قربت الانتخابات، وتُنسى بعدها، فمثلاً تنادي جهة معينة في كل انتخابات إلى مشروع محدد، وتستمر في الاقتتال والدفاع عنه، لكن فور انتهاء الانتخابات يُنسى هذا المشروع ولا يُذكر حتى قرب الانتخابات الأخرى، على الرغم من أنهم استطاعوا الوصول إلى رئاسة الحكومة لأربع دورات متتالية، ناهيك عن انتشارهم في مجلس النواب، فأثبتوا بذلك أنهم أهل شعار لا مشروع.
ففي ظل تجارب مريرة عاشتها بلاد الدول العربية قد اخفقت الاحزاب الحاكمة في تجسيد قيم الحرية والديمقراطية عمليا، ويرجع السبب الى ان الاشياء تعرف بجذورها والماضي هو مرآة المستقبل (كما قيل في الحكمة)، فإذا اردنا ان نعرف كيف يتعامل انسان معين اذا سلمنا بيده ادارة شركة معينة علينا ان ننظر الى ماضيه وكيف كان يتعامل سابقا مع رعيته، هل كان يتعامل بطريقة ديمقراطية ام استبدادية؟ وهل عمل برواية (اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله)؟، وهل اجتنب الاستبداد الذي قال عنه رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) (من استبد برأيه هلك)، و(من شاور الرجال شاركها في عقولها) الى غير ذلك.
والشاهد هو ان الماضي يكشف عن المستقبل، كما ان ماضي هذه الاحزاب الحاكمة او الجماعات سواء كانت اسلامية او غير اسلامية، يكشف عن مستقبلها هو الاخر، بل ان نفس هذه الاحزاب تنادي بالعمل بمبدأ الرأي والرأي الاخر والحريات بينما نجد هذه الشعارات غير موجودة في داخلها ولا تؤمن بانتخابات داخلية وعدم التداول السلمي لسلطة الحزب، وذلك لان الانسان يعمل في مستقبل ايامه على نفس ما تطبع عليه في ماضيه.
اذا للأحزاب في العملية الديمقراطية دور مهم، معارضة كانت أم سلطة، فلا بد من ظهور أحزاب وتيارات واعية تعمل بجد، وتملك رؤى ومشاريع يمكنها قيادة الدولة، متجاوزة كل تلك الشعارات والخرافات الكاذبة، وتحمل نوايا صادقة، وحماسة وطنية.