اوراق بحثية

زيارة الاربعين وترسيخ العقد الاجتماعي

مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية- ملتقى فكري*

منذ ان وجد الانسان على هذه الارض، وتكونت له تجمعات بشرية، بدأ يبحث له عن نظام اجتماعي، ينظم حياته ويحفظ حقوقه ويوفر له الامن والاستقرار، وتجمع بينهم عقيدة واحدة او دين واحد او فكرة واحدة وهكذا هي امة الاسلام والامم الاخرى.

ولكل امة، حاكم ترجع اليه امور رعيته، وهو لابد منه على كل حال حتى تنتظم امور الامة على وجه من الوجوه، فالحاكم المخلص هو الذي يسوس الامة بالرفق والعدل والمساواة ويحرص على اسعادهم ورفع قيمتهم المادية والمعنوية، والحاكم المستبد هو الذي يستعبد الامة ويسترقها لاهوائه ومآربه ويعمد على اذلالها وتخلفها.

وان من اهم الشروط التي يجب توافرها في الحاكم، الكفاءة والعدل بين الرعية وتحقيق المساواة بينها واقرار الحقوق بين ابنائها وتوفير الفرص الكريمة والا يتعالى على الاخرين ويراعي مصالح العامة، وفقدان بعض هذه الشروط في الحاكم، يصيب الحياة العامة للامة بالاختلال وعدم انتظام الحياة وغياب القرار الصائب والشعور بالغبن والظلم بين الناس مما يؤدي الى حدوث فجوات بين فئات الامة لينقلب صراعا واقتتالا بين ابنائها ومن ثم هدم كيانها وتقويض النظام السياسي.

ان الحاكم باعتباره قائدا للامة، ممسكا بيده زمام القرار، عليه ان يتنكر لذاته وينسى انانيته ويفكر بمصلحة الشعب الذي يقوده والامة التي يتزعمها، ذلك انه طرف في اجتماعي مع الامة يجب عليه مراعاة بنوده، كما انه اب للجميع يراعي مصالحهم على قدر من العدل والمساواة، وحينما نراجع التجارب التاريخية العنيفة، واسباب سقوط الانظمة والحكام نرى ان الشعور بالانانية وتعميقها في نفس الحاكم هي السبب في كل الاخفاقات الكارثية التي تعرضت لها الانسانية في تاريخها الطويل.

ان التاريخ شاهد ناطق بقوة الامة وتأثيرها البالغ وقدرتها على تحقيق وجودها وارادتها في مواجهة الحاكم وهو الطرف الثاني في معادلة العقد الاجتماعي الذي سرعان ما يعتدل ميزانه اذا ما ارادت الامة ذلك، فارادة الامة فوق كل ارادة لانها من ارادة الله العزيز الجبار.

فالحكم عقد اجتماعي بين الحاكم وبين المجتمع، والامة هي الطرف الاول فيه ليعبر عن مصالحها ويحمي حقوقها ويصون حياتها ويحقق امنها واستقرارها ويحمي ملكيتها، والحاكم يجب ان يخضع لشروط هذا العقد وبنوده ولا يخالفها او يخرج عليها او يتجاهلها والامة هي الوحيدة صاحبة الحق في تقويم الحاكم وتقرير الموقف من شرعيته.

اذن من واجب الامة ان تحفظ وجودها من خلال تحركها الحيوي في مواجهة انحراف الحاكمين وخروجهم عن خط خدمة الامة وخيانتهم لمواثيقها، وكثيرا من الحكام وخاصة الذين اخذوا الحكم بالغلبة او الذين تسلطوا على رقاب الناس بغير حق او شرع او قانون يتجاهلون هذا العقد ولا يعترفون به ولا يعملون به، فيمارسون حكما مستبدا فيمارس الحاكم حكما مطلقا لا تحكمه شريعة او قانون، فيعمد على ارتكاب المجازر بحق البشرية ويصادر حرياتهم وحقوقهم وما يملكون.

ان الحكام كثيرا ما تجرهم سطوة السلطة فيذهلون عن انفسهم وينغمسون في لذائذهم وينخدعون بقواهم الوهمية ويغيبون عن وعي حقائق التاريخ وطبيعة الاشياء فينزلقون في ممارسات ظالمة ومنحرفة في حق محكوميهم وخاصة اذا وجدوا من يزين لهم اعمالهم ويوهمهم بصواب مسلكهم، فتكون العاقبة ويلا وثبورا عليهم واضاعة لحقوق الامة التي يحكمونها ويصير امرهم الى تباب، فالمحكومون يسكتون زمنا ثم يثورون طلبا للحرية والحياة واستعادة الحقوق واقامة الميزان بين الحاكم والمحكوم.

واذا رأينا الامد يطول ببعض الحكام وايام ملكهم كما هو حال الامويين والعباسيين فأن ذلك يعود لاسباب منها سياسة التضليل والتجهيل والتنكيل التي يمارسها الحكام الجائرون، ومنها الغيبوبة التي تعاني منها الامة نتيجة فقدان التوازن والفهم السليم، ومنها بطأ استجابة الامة لنداء الحق والكرامة وغير ذلك من الاسباب، لكن الامة سرعان ما تنتفض فتستعيد توازنها ووعيها وتنقلب على حكامها، والتجارب التاريخية للمسلمين تنطق في ذلك ولعل اوضحها واشهرها ثورة الامام الحسين (عليه السلام) المضيئة والمحفزة للثورات والتجمعات التي تلتها لاسقاط حكم بني امية.

ونشهد في عصرنا الحاضر واحدة من اكبر التجمعات الانسانية في يوم العشرين من صفر في كربلاء، او الزيارة الاربعينية الرافضة للظلم والاستبداد، وهي أكبر مشروع إصلاحي لواقع الأمة بهدف بنائها على المستوى التوعوي والفكري والعملي، وتقويم وتحسين مسارها السياسي والفكري. إن زيارة الأربعين تجمّع إنساني يشكّل حدثا اجتماعيا غير مسبوق في العالم لما تجمعه الزيارة من دلالات على المستوى التربوي والعقائدي والسياسي والإعلامي والثقافي.

تختزن الزيارة أكبر عملية تفاعلية على عدة مستويات، فهناك الارتباط بين عالمي الغيب والشهود؛ وامتداد الماضي والحاضر والمستقبل؛ ومفاهيم بناء النفس الإنسانية؛ وديناميكيات الثورة الإصلاحية، وعناصر الهوية العاشورائية، وغيرها.

تؤمن الزيارة الأربعينية أبعاد استراتيجية الثورة بمعناها التقدمي التحرري الأوسع دلالة من الزمان والمكان بما ينتفي معه إمكانية تصنيفها من المنظور العلمي بالظاهرة الخاضعة للعوامل الزمكانية. ويظهر البعد التقدمي الشمولي في ما ترسخه الزيارة من نهج صراع الحق ضد الباطل، فكريا وسياسيا، عبر إدامة حالة الصراع مع الطواغيت والعمل على تفكيك أجندة الخصم وإبطال أدواته، وترشيد القواعد الشعبية وربطها بالفكرة والمنظور والمشروع عبر منظومة من المفاهيم؛ وتحديث حالة التفاعل الفكري والإرادي بكسر الأنماط الفكرية البالية وتحرر المنظومة والخروج على جمود الوعي وتفعيل حالة المواجهة.

...............................

* ورقة بحثية القيت في ملتقى فكري ثقافي اقامه مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية في مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، من اعداد الباحث في المركز الاستاذ حيدر عبد الستار الاجودي.

.............................................

الآراء الواردة في المقالات والتقارير والدراسات تعبر عن رأي كتابها

*مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2024 Ⓒ

http://mcsr.net

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://t.me/infomscr
التعليقات