شهدت الولايات المتحدة الامريكية منذ استقلالها في عام 1776، بعد إعلان مجموعة من المستعمرات الحرب على المملكة المتحدة التي كانت تتبع لها، الكثير من التحديات الكبرى إذ كانت من أبرزها الحرب الأهلية في عام 1861 فضلاً عن الحروب التي خاضتها والصراعات الحادة في بعديها الداخلي والخارجي على السواء، وفي فترتي سياسة العزلة التي انتهجتها قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، أو أبان انغماسها في التفاعلات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وتزعمها للمعسكر الغربي وخوض غمار حرب باردة إزاء القطب الذي شاركها قيادة العالم وقاسمها النفوذ والهيمنة (الاتحاد السوفيتي السابق)، وحتى تفردها في قيادته منذ عام 1991 وصولاً الى أحداث 11 سبتمبر ٢٠٠١، واحتلالها كلاً من أفغانستان والعراق، العديد من الأزمات والمشكلات والصراعات الحادة، واستطاعت أن تمضي منها وتحافظ على مكانتها كقوة عظمى فاعلة ومؤثرة في ضبط الإيقاعات التفاعلية الدولية، وتلعب الدور الرئيس في توجهاته وفي صناعة وتنفيذ أبرز القرارات الدولية، بغض النظر عن طبيعة الإدارة الحاكمة وتوجهاتها الحزبية ديمقراطية كانت أم جمهورية، فقد يختلف التكتيك في سياستها، إلا أن الأسس الستراتيجية لها تبقى ثابتة.
بيد أن ما يميز هذه الانتخابات ما يحيطها من مخاطر جسيمة وتصدعات عمودية عميقة في بنية الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى أمنياً فضلاً عما تعانيه من تحديات عالمية حقيقية من قوى متعددة في بقع جغرافية مختلفة، ذات قوة وإرادة وتصميم في تغيير بنية التنظيم الدولي بما تراه الولايات المتحدة إنه يزعزع استقرارها، وزعامتها وتفردها العالمي، بل تسعى تلك الوحدات السياسية الصاعدة لمشاركتها في قيادتها وخلق ما يسمى عالماً جديداً متعدد الأقطاب، وهذا بحد ذاته قد يهدد سلامة وأمن الولايات المتحدة ووحدتها.
بعد انسحاب الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من سباق الرئاسة الأمريكية لأسباب عديدة، منها تقدمه في السن، وأداءه الذي وصف بالسيء في مناظرته الأولى مع منافسه ترامب في ٢٧ يوليو/ تموز، ووضعه الصحي والجسدي والذهني المتراجع، وتدني حظوظه في الفوز في استطلاعات الرأي وإعلان دعمه لنائبته كمالا هاريس، والتي يرجح أن ترشح في مؤتمر الحزب الديمقراطي الذي سينعقد في التاسع عشر من شهر أغسطس/ آب في ولاية شيكاغو، وهو المؤتمر الذي يحدد من سيخوض الانتخابات.
لعل المشكلة الأمريكية تكمن في عاملين:
1- العامل الداخلي:
يعاني المجتمع الأمريكي انقساماً رأسياً وأفقياً، على صعيد السلطة السياسية وإدارتها والمجتمع، فهو مجتمع مهاجرين لا يجمعه سوى المصالح الذاتية من مال وعمل ورفاه، وقد بدت مؤشرات التراجع واضحة فيها، وهو ما يعكس حجم ديون الولايات المتحدة الخارجية البالغة ٣٤٫٤٧ ترليون دولار وارتفاع نسبة التضخم ٣٫٤٪ وانتقال مقرات شركاتها ومصانعها إلى دول أخرى منافسة كالصين والهند، فضلاً عن السياسات الشعبوية التي بدأت تطفو بجلاء على خطابات بعض الساسة منهم، ويمثل ترامب الأنموذج الأبرز فيه، والذي يتهمه خصومه بالسعي لتفكيك أسس النظام الأمريكي، وذلك بتهجمه على القضاء، والتحريض على اقتحام الكونغرس بعد فشله في الانتخابات السابقة، فضلاً عن إدانته في احكام قضائية متباينة منها ما يتعلق بالأفعال أو التحرشات الجنسية أو التهرب الضريبي وغيرها، كما يحملون عليه أنه يسعى لتدمير الولايات المتحدة من خلال الخروج من الأحلاف والاتفاقات الدولية كما في سعيه للخروج من حلف الناتو والخروج من مؤتمر باريس للمناخ، ويتبنى سياسات عنصرية، في الوقت الذي يشن هو هجمات معاكسة على خصومه ويتهمهم بالتفريط والهدر في أموال الولايات المتحدة، والدعم الخارجي لحروب لا تعنى بها الولايات المتحدة كالحرب الروسية الأوكرانية.
في ظل هكذا صراعات حادة وتباين عميق في التوجهات والسياسات وبخاصة إذا ما نظرنا إلى الأطراف التي يدعمها كل من المرشحين وحزبيها، نلاحظ أثر ذلك الانقسام الخطير في الداخل الأمريكي الذي يصعب رأبه وفق هكذا سياسات طبقية شعبوية لم تألفها الولايات المتحدة بهذه الشاكلة من قبل، فمثلاً تضم حملة ترامب قوى سياسية تشمل شخصيات بارزة من المركب الصناعي التقني الإعلامي السياسي، بينما الحزب الديمقراطي الذي يتبنى سياسات ليبرالية مغايرة ويدعم الطبقات الوسطى ويعدها الركيزة الأساس في التطور والنهوض، بدأ يهاجم ويعرقل ترشح شخصيات من داخله مثل روبرت كندي وفورنيل وايسست (الأستاذ في جامعة هارفرد والذي يتبنى سياسات مختلفة وبخاصة إزاء الشرق الأوسط). هذا يظهر مدى الانقسامات الداخلية وتراجع النهج والممارسة الديمقراطية التي قامت على أساسها الولايات المتحدة، وما تتباها به كأنموذج على العالم أن يحتذي به.
2- العامل الخارجي:
إن بزوغ قوى فاعلة عالمياً، يعد تحدياً كبيراً للإدارات الأمريكية التي لم تتفق على سياسة أو رؤية واضحة للتعامل معها أو احتواءها، إذ لكل حزب توجه مغاير في أولوياته وسبل معالجتها، ففي الوقت الذي تبنى بايدن، ويعتقد أن تسير على نهجه كمالا هاريس في حالة فوزها من دعم أوكرانيا والانغماس المفرط في دعم الكيان الصهيوني وهو ما يمثل إجهاداً مرهقاً، على الاقتصاد والرفاه الأمريكي، يتبنى ترامب الاقتراب من روسيا أو التخلي عن أوكرانيا والتوجه شطر الصين بالعداء والمحاصرة، والتملص من كافة الاتفاقات والأحلاف التي سار عليها بايدن والتي كلفت الولايات المتحدة الكثير.
فضلاً عن التوجهات الكبرى لقوى عالمية صاعدة سواء كانت في الشرق الأوسط أو الهند أو الصين أو في أمريكا اللاتينية كالبرازيل أو في القارة السمراء كدول جنوب أفريقيا، أو المنظمات الصاعدة كمنظمة شنغهاي أو البريكس.
تأصيلاً على ما تقدم فأن أي من الحزب الديمقراطي تحت زعامة هاريس أو الجمهوري بقيادة ترامب يصل الى البيت الأبيض سيواجه مشكلات وتحديات اقليمية ودولية وإنقسامات داخلية ترمي بظلالها على الداخل والخارج الأمريكي بما لم تشهده الولايات المتحدة أو العالم، إذ يصعب على الولايات المتحدة وفق هذه الإدارات والقدرات المتراجعة من التحكم بضبط إيقاع العالم أو الإبقاء على تنظيمه الحالي، وإن العالم متجه إلى مراحل أخرى من صراعات وحروب كبرى، سترسم نهايتها ملامح العالم الجديد بشكل ولون مختلف عما عهده منذ عقود طويلة خلت، وبخاصة في ظل غياب العقلانية والنزوع الى لغة السلاح والقوة دون التمعن في آثارها وتداعياتها التي تهدد وجود الإنسان والحياة على ظهر هذا الكوكب.
لعل الحالة الأسوء هي وصول ترامب الى السلطة، وهذا ما نرجحه وتشير إليه سير الوقائع وطبيعة التحالفات والسياسات الشعوبية، وطبيعة النزعة الأمريكية المقدسة لمظاهر القوة وإستعراضها، بما توضحه مجتمعات الكابوي عبر أفلامها، وظهور ترامب بعد محاولة اغتياله الفاشلة في ١٣ يوليو/ تموز ٢٠٢٤ بمظهر البطل الذي يقبض يده بقوة هاتفاً بالجمهور المتحشد من أنصاره (قاتلوا.. قاتلوا) إذ أسهمت حركته البهلوانية هذه بازدياد شعبيته والتي يبدو أنها أثرت في بعض الناخبين المحايدين.