عانى العراق منذ سقوط النظام السابق من صراعات طائفية متشابكة, إذ لم تنشأ هذه الصراعات من فراغ بل تداخلت فيها عدداً من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية, وربما كانت هي نتاج التراكمات التاريخية والأخطاء السياسية بالإضافة الى التدخلات الخارجية, التي أصبحت تشكل معضلة كبيرة تواجه الدولة العراقية بعد عام 2003.
لعبت الأسباب المؤدية الى تنامي ظاهرة الطائفية دوراً كبيراً في تشتيت المجتمع العراقي بطوائفه العديدة, فعلى سبيل المثال لعبت الأسباب السياسية بعد عام 2003 دوراً في خلق أزمات وتوتر اجتماعي مستمر خاصة بعد بروز القوى الشيعية على حساب القوى السنية والكردية وهو ما خلق فجوات كبيرة بين الطوائف مما اثار المخاوف إزاء قضايا التهميش والاضطهاد بالتالي أصبح العمل السياسي مشتت نتيجة الاختلاف الكبير بين القوى السياسية, بالإضافة الى أن تردي الواقع الاقتصادي والاجتماعي في الدولة أسهم في خلق صراعات أخرى نتيجة الفقر والبطالة وسوء الخدمات وارتفاع معدل الإحباط لدى أفراد المجتمع العراقي, ويعزو ذلك الى فشل الدولة في توفير الخدمات الأساسية ويعزز للمواطن شعوره بالظلم, مما يسهم في خلق بيئة مثالية لنمو التطرف والعنف, كما أن التدخلات الخارجية ساهمت في تعقيد المسألة بشكل أكبر وبالأخص حينما تقوم الأطراف الخارجية بدعم فئة معينة من المجتمع على حساب فئة أخرى, وهو ما أثار حدة التوترات الإجتماعية وأجج من ظاهرة الصراعات الطائفية.
وقد أستمر حال هذه الأوضاع لسنواتٍ عدة، وتزايد سوء هذه الأوضاع أكثر فأكثر خلال الفترة ما بين 2014-2016 خاصة لما شهدته البلاد من تحديات أمنية كبيرة تمثلت في تنامي أنشطة تنظيم داعش الإرهابي، التي أخذت تستغل الفجوات الأمنية لإثارة النزاعات الطائفية وتحقيق مكاسبها على الأرض, ولكن بعد أن بدأت عمليات التحرير وأسهمت القوات العسكرية العراقية البطلة المتمثلة بكافة صنوفها (الجيش العراقي الباسل، والحشد الشعبي، والشرطة الإتحادية والأصناف العسكرية الأخرى البطلة)، في تحرير المناطق العراقية من دنس التنظيمات المتطرفة، تحسنت الأوضاع الاجتماعية والسياسية نوعاً ما حتى بدأت مرحلة نسيان الطائفية وولوج مرحلة جديدة تمثلت بمرحلة البناء والتنمية يسهم بها المسؤول مع الفرد داخل المجتمع من أجل تحقيق البناء والتكامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
إن هذه المرحلة أسهمت وإلى حد كبير في معالجة العديد من الأمور وكان من أهمها معالجة ظاهرة الطائفية عن طريق إجراء إصلاحات سياسية هدفت إلى تعزيز واقع النظام السياسي العراقي، وتعزيز الحوار الوطني لتقريب وجهات النظر بين القوى السياسية، بالإضافة إلى نشر ثقافة التعايش السلمي ونبذ التفرقة.
والجدير بالذكر، أن هذه المحاولات نوعاً ما أخذت طابعاً إيجابياً إزاء الوضع الراهن، فقد أصبح المواطن العراقي يدرك تماماً المسارات الحقيقية التي تفضي إلى تحقيق المصلحة العامة، كما وقد أخذت القوى السياسية مرحلة جديدة تمثلت في تعزيز المشاركة الوطنية والتفاهم المشترك والحوار الوطني وهو ما شكل طابعاً إيجابياً على واقع الدولة خلال السنوات القليلة الماضية, وبذلك لعبت هذه الأهداف والجهود الرامية إلى إنهاء الصراعات الطائفية دوراً مهماً جداً واستمرت عدة سنوات، لتشكل مرحلة إنتقالية مهمة في البلاد.
إلا أنه بعد حلول عام 2021، شهدت الساحة السياسية العراقية وخاصة بعد الانتخابات البرلمانية حالة تمثلت بالجمود السياسي، أذ تعثرت جميع المحاولات الرامية إلى تشكيل الحكومة وذلك نتيجة تصاعد الخلافات بين القوى السياسية الطائفية، وهو ما خلق بيئة مناسبة لولوج ظاهرة الطائفية من جديد، بالإضافة إلى استمرار التدخلات الخارجية في وضع العراق وهو ما زاد أيضاً من تعقيد المشهد الداخلي.
لا زالت هذه المشاهد تستمر يوماً بعد يوم وفي كل يوم يمر دون وضع أي حلول تحد من تنامي هذه المشاهد يكون الوضع أكثر توتراً، ويمكن أن نشير إلى بعض العوامل التي قد تؤدي إلى إحتمالية تجدد المسارات الطائفية في العراق:
1- اختلاف النوايا بين قوى المكونات السياسية، تشهد الفترة الحالية من عام 2024 اختلافات كبيرة بين القوى السياسية إزاء المناصب السيادية وخصوصاً منصب رئيس البرلمان، أذ لا زال هنالك اختلاف كبير بين توجهات القوى حيال انتخاب شخصية من المكون السني لرئاسة البرلمان العراقي، وبالرغم من أنه استحقاق سني إلا أن الاختلافات الحاصلة بين القوى السياسية شتت الموقف السلمي وأدت إلى توتر العلاقات وتصاعد الموقف، وهو ما من شأنه أن يؤثر على الوضع الاجتماعي داخل الدولة، خاصةً وأن مجلس البرلمان وجد لخدمة الشعب العراقي، إلا أن تصاعد حدة الصراع والاختلاف بين القوى السياسية سيؤدي إلى ولوج فجوة طائفية تكون كأحتمالية لتجدد المسارات الطائفية بين القوى السياسية وهو ما سينعكس سلباً على الوضع الاجتماعي داخل الدولة.
2- العصبية الدينية أو المذهبية، المبدأ القائم على أساس إحياء الحق المذهبي سياسياً وهو مسار خطير يدفع الطوائف الاجتماعية إلى المطالبة بذات الحق، وهو ما يؤدي إلى تنامي فكرة الفواصل والنبذ المجتمعي على أساس المذهب، وعلى غرار الوضع الراهن نشاهد عبر مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة خطابات ليست من أفراد المجتمع فحسب إنما من أفراد الطبقة السياسية (الطبقة التي وجدت لخدمة مصالح الشعب)، تحث على تصاعد حدة التعصب الديني والمذهبي، ويدفع إلى تفكك المجتمع أو تقسيمه وتناحره، مما يؤدى إلى فقدان السلم المجتمعي والإجهاز على الاستقرار السياسي داخل الدولة، ويجدر الإشارة جلياً إلى أن الأفكار المذهبية لعبت في السابق أدواراً كبيرة في التأثير سلباً على التماسك الاجتماعي داخل العراق، أما اليوم وفي إحتمالية لتجدد السيناريو السابق فأنه سيمثل أمام الدولة العراقية واحد من أخطر التحديات في مرحلة من مراحل تطور الدولة والعلاقات مع الدول الخارجية.
بالتالي, أن إحتمالية تجدد المسارات الطائفية في العراق بعد عام 2024 يمثل تحدياً كبيراً أمام استقراره وتقدمه, وأن السبيل الوحيد لسلامة أبناء الشعب الواحد وسيادتهم هو بناء دولة المواطنة الصحيحة ونبذ التمييز بين المواطنين بجميع أشكاله الدينية والطائفية والعرقية والقبلية, كما يتوجب أن تكون هناك جهوداً متكاملة تشمل الإصلاح السياسي، وتعزيز الحوار الوطني، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، إلى جانب مواجهة الخطابات التي تبث السم الطائفي, من خلال تبني نهج شامل ومتوازن، يمكن للعراق أن يتجاوز هذه المرحلة الصعبة ويحقق مستقبلاً أكثر استقراراً ووحدة.