تقترب الانتخابات الرئاسية الامريكية وتتزايد احتمال اعادة التنافس بين الرئيس الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب، تتركز الحملات الانتخابية لكليهما وتجاذب الشعب الامريكي ازاء كلاً منهما، يراهن الرئيس بايدن على محددات واتجاهات سياسته الخارجية بالمقارنة مع سلفه، اذ تولى الرئيس جو بايدن منصبه بأجندة طموحة للسياسة الخارجية، والتي لخصها شعار حملته المفضل: "أمريكا عادت". وقبل كل شيء وفي المقام الأول، كان هذا يعني إصلاح الضرر الذي لحق بمكانة أمريكا العالمية على يد سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب، خلال السنوات الأربعة التي قضاها في منصبه حيث تصريحات بايدن المتكررة، اذ تسبب ترامب في توتر العلاقات مع حلفاء أمريكا في أوروبا وآسيا، وأثار التوترات مع خصومها مثل إيران وفنزويلا، وانخرط في حرب تجارية مع الصين تركت العلاقات الثنائية في أسوأ حالاتها منذ عقود.
من حيث المبدأ، كانت أجندة بايدن متجذرة في رفض إرث ترامب "أمريكا أولا"، واستعادة العمل بالنظام العالمي المتعدد الأطراف، وقد انعكس ذلك في تحركاته المبكرة للانضمام مرة أخرى إلى اتفاقيات باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، وإعادة تأسيس القيادة الأمريكية من خلال العمل الجماعي مع الحلفاء، كما أتاحت جائحة كوفيد-19 لبايدن فرصة لإعادة تأكيد الدور القيادي العالمي لأمريكا والبدء في إصلاح العلاقات التي بدأت تتدهور في عهد ترامب.
لكن من الناحية العملية، فإن بعض أولويات بايدن تحمل تشابهاً وثيقاً مع أجندة ترامب. وقد وُصفت سياسته الخارجية، بأنها نسخة متقنة من تركيز ترامب على وضع مصالح الولايات المتحدة فوق التزاماتها العالمية. وعلى سبيل المثال تابع بايدن واستكمل صفقة ترامب بالانسحاب من أفغانستان دون التشاور أو التنسيق مع حلفاء واشنطن في الناتو، ودفع ثمناً سياسياً لانهيار الحكومة الأفغانية والإخلاء الفوضوي الذي أعقب ذلك. وفيما يتعلق بقضايا أخرى، مثل نهجه في التعامل مع سياسات الهجرة والحدود، أظهر بايدن في البداية القليل من الإلحاح لإجراء تغييرات فورية، وعلى نحو مماثل لم يرفع إلا متأخرا الرسوم الجمركية المثيرة للجدل على واردات الصلب والألمنيوم الأوروبية، فضلا عن العقوبات الأكثر قسوة التي فرضها ترامب على كوبا.
وعلى الرغم من الالتزام الخطابي برفض نهج ترامب في السياسة الخارجية، فقد وجد بايدن صعوبة في استعادة الوضع الامريكي خارجياً كالسابق قبل ترامب بشكل كامل. ربما لم تعد الدول مستعدة لاتباع قيادة الولايات المتحدة في تعزيز الديمقراطية بعد تآكل المعايير الديمقراطية الأمريكية خلال عهد ترامب، وقد أعادت أوروبا على وجه الخصوص ضبط علاقتها مع الولايات المتحدة، وربما لم تعد راغبة في التوافق مع النهج الأميركي، وخاصة فيما يتصل بتشديد العلاقات مع الصين، مع ذلك، وكما أظهرت الحرب في أوكرانيا لا يزال هناك طلب كبير بين الحلفاء والشركاء والدول الأخرى في جميع أنحاء العالم على القيادة الأمريكية الحاسمة في أوقات الأزمات.
وهذا يتطلب ان يحدد بايدن بشكل واضح خلال المدة المتبقية من ولايته الموقف من الصين وهل سيتمسك بايدن بنهج صارم تجاه الصين وبأي ثمن؟ وكيف ستتعامل إدارته مع إيران في حالة عدم التوصل الى شيء حول الاتفاق النووي؟ وهل ستمنع الحرب في أوكرانيا بايدن من تحويل التركيز الجغرافي للسياسة الخارجية الأمريكية إلى المراكز المحتملة للتحديات والفرص العالمية في آسيا وإفريقيا؟.
قد يبدو ان بايدن لديه توجهات واضحة في سياسته الخارجية تتمثل في إبقاء الولايات المتحدة منخرطة على المستوى العالمي، لكن لازال ذلك غير فاعل وحاسم ويبقى في اطار التعهدات والتصريحات في بعض المحددات، وبعضها كان اكثر حسما وهذا يبدو جليا في التالي:
١- الدبلوماسية والتعددية
تولى بايدن منصبه متعهدا باتباع سياسة خارجية متجذرة في الالتزام المتجدد بقيم مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والتعاون الدولي، ولكن من الناحية العملية كان ذلك بمثابة إطار سردي نظري، مع تأثير حقيقي ضئيل على سلوك النظام الدولي والسياسة الخارجية، وفي الوقت نفسه أدرك بايدن مدى تشابك السياسة الخارجية الأمريكية مع النمو المحلي والسياسة الداخلية؛ في حين أنه ينكر ويرفض نهج ترامب "أمريكا أولا"، ولذلك فإن وعد بايدن بأن امريكا عادت لا يرتبط بشكل كبير بسياسته الداخلية "التي تعاني من نقاط ضعف كثيرة" المرتبطة بشكل كبير في نهاية المطاف بالتزاماته الدولية المتعددة الأطراف.
٢- التحالفات والشراكات
كانت إحدى المهام الأولى لبايدن هي البدأ في إعادة بناء العلاقات عبر الأطلسي، وفي حين عانت جهوده المبكرة لدعم الشراكات العالمية من اختلاف واضح في الطموحات الجيوسياسية -وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن نهج جماعي تجاه الصين- فقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى تحفيز الإجماع والتماسك داخل حلف شمال الأطلسي على نحو لم نشهده منذ نهاية الحرب الباردة. وفي الوقت نفسه أستطاع بايدن الى حد ما إصلاح العلاقات مع حلفاء واشنطن الآسيويين الحاليين، فضلاً عن تعميق الشراكات الجديدة مثل ما يسمى باللجنة الرباعية، واستمرار مهام التحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش والقاعدة، وبدت مسألة نسج الشراكات والتحالفات مهام سهلة بالنسبة للرئيس بايدن.
مع ذلك لم يعد التزام الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي أمراً تاريخياً حاسماً، سواء في عهد بايدن وحتى سلفه ترامب. واوروبا تعتقد بأنه حان الوقت لواشنطن لإعادة التفكير في نهجها تجاه دعم نهج دفاعي للاتحاد الأوروبي، في إطار تعزيز حلف شمال الأطلسي عبر تقوية جيوشه الوطنية كذلك.
٣- المنافسة الاستراتيجية والاقتصادية
إن تحركات بايدن الأخيرة لخنق وصول الصين إلى التكنولوجيا المتطورة، فضلاً عن عقوباته العقابية السريعة والقوية بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، لا تترك مجالاً للشك في أنه على استعداد لاتخاذ موقف صارم مع بكين وموسكو. لكن تصميمه على التنافس بقوة مع منافسي الولايات المتحدة، فضلاً عن التزامه المعلن بتعزيز الديمقراطية، من المؤكد أن يتعارض مع الحاجة إلى التعاون العملي لمعالجة التحديات العالمية المشتركة، وخاصة فيما يتعلق بالصين.
مع ذلك يعتبر التركيز على نفوذ الصين في الشرق الأوسط مجرد ذريعة للتنافس وتصعيد حدة الخلافات معها اقتصاديا ما اثر على تسيد مستوى منخفض للغاية للعلاقات الأمريكية الصينية، مع أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل الانفصال العلمي والتكنولوجي عن الصين، وبدلا عن ذلك بالامكان التحول من نهج التنافس الى التعاون معها، وحتى موسكو قابلة للاحتواء، واستطاع ترامب ذلك رغم تصعيده مع حلفاءها كايران وسوريا.
٤- السياسات الثنائية والإقليمية
في أعقاب السياسة الخارجية غير المنتظمة وغير المتسقة لإدارة ترامب، كان بايدن في وضع يسمح له بإجراء بعض التحولات المهمة في العلاقات الثنائية مع مجموعة من الشركاء، وادارة علاقات واشنطن الاقليمية لكن إدارته لا تزال تواجه بعض القيود الواضحة، على الرغم من تعهد بايدن بجعل حقوق الإنسان والديمقراطية ركائز أساسية في سياسته الخارجية، إلا أنه من الناحية العملية استمر في كثير من الأحيان في وضع مصالح الولايات المتحدة في المقام الأول، ولم تتحرك ادارته بفاعلية وضع مقاربات جدية للتعامل مع المكسيك وكوبا ولا كوريا الشمالية ولا حتى كندا، ولا اي دولة في افريقيا، فلم يهتم بايدن في أجندته لهذه القارة لا زالت ادارته تتجاهل ملف حقوق الإنسان فيها ولا زالت فاقدة لبوصلة التأثير على الأحداث في السودان.
اما استراتيجية بايدن في الشرق الأوسط فهي بحاجة إلى إعادة تفكير عاجلة، في ظل الحرب بين إسرائيل وحماس التي أفسدت أجندته في الشرق الأوسط، ويتغاضى بايدن عن انتهاكات حقوق الإنسان الاسرائيلية في حربها على غزة، وفي ذات الوقت لم ينسج معها علاقة ثنائية راكزة بذات الوقت.
٥- التجارة الخارجية والمساعدات الدولية
من خلال سياسته الخارجية وعد بايدن بالتركيز على كيفية إعادة توجيه التجارة الأمريكية للخارج لمعالجة المخاوف الاقتصادية للطبقات المتوسطة والفقيرة، وعندما يتعلق الأمر بالتجارة، فإن هذا يعني التأكد من أن سياسة الولايات المتحدة تساهم في تجديد الاقتصاد المحلي، لكن هذا أصبح على نحو متزايد دافعا للحمائية المتزايدة داخل امريكا وداخل الدولة الحليفة التي تحتاج الدعم التجاري الامريكي. وبدت امريكا في عهد بايدن مضطرة لتعزيز التجارة الدولية مع دول لا ترغب بالتواصل التجاري معها، فقد اضطرت لإعادة التفكير في نهجها تجاه قطاع الليثيوم في الأرجنتين الذي تحتاجه بشكل كبير، كما انها مضطرة لبذل جهود اضطرارية في تنازلات مع المكسيك لتأمين سلاسل التوريد الأمريكية، في دعم حلفاءها بما يدفعها لإعادة النظر فعليا بتشكيل التجارة العالمية على اسس جديدة، او تعترف بها على الاقل رغم تقاطعها مع منطلقاتها ومعاييرها المتعارضة بتفاعلها مع دول تعد محظورة التعامل معها في سياق التبادل التجاري والاقتصادي دوليا.
مع ذلك فأن محاولة إدارة بايدن لمعالجة الاختلالات السابقة في السياسة التجارية الدولية يعمل إلى خلق مشاكل جديدة، خاصة فيما يخص استخدام التجارة كسلاح، وهذه المحددات المتعلقة بالسياسة الخارجية الامريكية للرئيس بايدن ستكون محور فاصل في الانتخابات الرئاسية القادمة، ونستطيع القول ان هذه المحددات لا تزال لصالحه.