تعدت الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة الفلسطيني مائة يوم، بعد عملية طوفان الاقصى التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية بدعم محور المقاومة الايراني في المنطقة، ويبدو انها ستستمر وتتوسع بوادر اتساع نطاق هذه العملية اقليمياً ناشئة من ديناميات الصراع الامريكي الاسرائيلي مع ايران اكثر من ديناميات الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
كانت واشنطن وتل ابيب تعولان على مشروع التطبيع العربي وصولا لمرحلة احلال السلام والاعتراف بالواقع الموجود لصالح الكيان الصهيوني وتمييع القضية الفلسطينية، لكن تغيرت ديناميات الصراع بعد عملية ٧ اكتوبر من العام المنصرم، رغم ان الفصائل وايران راهنت على حصر تداعيات طوفان الاقصى داخل الاراضي المحتلة، لكن واشنطن وتل ابيب رغبت بتوسيع دائرة الحرب والصراع اقليميا، وهذا ما حصل عند استهداف اسرائيل للضاحية الجنوبية بشكل محدود وصولاً الى اغتيال العاروري القيادي في حماس في الضاحية، ثم اغتيال القائد في الحرس الثوري الايراني رضي موسوي في سوريا، و ابو تقوى السعيدي القيادي في حركة النجباء في بغداد، بعد اكثر من ١٣٠ استهداف وغارة لفصائل المقاومة ضد المصالح الامريكية في العراق وسوريا، وايضا بما لا يقبل الشك ضلوع تل ابيب وواشنطن بتفجيريّ كرمان، ثم تبعها استهداف حركة انصار الله الحوثية في اليمن بعد تهديدها للملاحة الدولية في البحر الاحمر ودخولها في خط الصراع لصالح غزة.
لم يعد بالإمكان بعد كل هذه الديناميات حصر الحرب في الاراضي المحتلة وغزة، اذ اتضح نطاق التوسع ليتجاوز ذلك، نحو انعكاسات على الامن الاقليمي في المنطقة، خاصة بعد الرد الايراني المعلن على اهداف وصفتها بالأمريكية الاسرائيلية في اقليم كردستان العراق، واهداف ارهابية في باكستان.
وهذا التصرف الايراني سيكون له تداعيات اخرى ستعكس ردود افعال واتخاذ مواقف مضادة تعمل على احلال توجهات جديدة في المنطقة؛ فعراقيا ادركت الولايات المتحدة بشكل واضح إلى تغيير وضعها في العراق، حيث أدت إلى إعادة مسألة الوجود العسكري والاستشاري الأمريكي في هذا البلد للواجهة، اذ طالبت الحكومة العراقية بإنهاء وجود القوات الأمريكية في البلاد، وتواجه حكومة السوداني ضغطاً داخلياً متزايداً، إلى جانب ضغط إيراني، لإخراج التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة من العراق، وفعلاً بدأت الحكومة بترتيبات "إنهاء وجود قوات التحالف الدولي في العراق بشكل نهائي". وصرح السوداني: "نؤكد موقفنا الثابت والمبدئي في إنهاء وجود التحالف الدولي بعد أن انتهت مسوغات وجوده". وبدأ الحديث عن تشكيل لجنة ثنائية تضم ممثلين عن الحكومة والتحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة لهذا الغرض.
لكن الاخيرة ترى أن وجودها في العراق مُهم وخاصة بعد القصف الايراني لشمال العراق لمواجهة النفوذ الإيراني، كما ان بقاء قواتها يُعد ضرورة استراتيجية رئيسة بالنسبة للولايات المتحدة؛ لذا فإن أي قرار او تحرك تتّخذه بغداد لإخراج القوات الأمريكية من البلاد من شأنه أن يُقوّض الأهداف الاستراتيجية للإدارة الأمريكية في العراق والمنطقة، وعليه ستحرص هذه الادارة على البقاء والضغط باتجاه مساومة الحكومة العراقية بقضايا اقتصادية ومالية وسياسية تتعلق بضمان بقاء رئيس الوزراء العراقي الحالي في منصبه، ورهن التواجد الامريكي بإسناد السوداني وضمان عدم الاطاحة به من قبل الاطار التنسيقي والعكس صحيح تماماً.
هذه الديناميات الامنية تمثل كابوساً للحكومة العراقية التي وقعت بين المطرقة والسندان فضلا عن عدم رغبتها في تصعيد المواجهة بين ايران والولايات المتحدة داخل الاراضي العراقية؛ لأنها ستكون بموضع المراقب الضعيف الذي لا يرغب ان تكون البلاد ميداناً وملعباً جيوسياسياً للطرفين بشكل مستمر، لأن استمرار هذه المقاربة تُضر بمصالح العراق وسيادته، وبالتالي اضعاف الحكومة بشكل كبير.
ولهذا يسعى السوداني جاهداً لتحقيق توازن بين المصالح المتنافسة في العراق ايرانياً وامريكياً من جهة، وتوازن سياسي محلي بين التحالف الداعم له (الإطار التنسيقي) المقرب من ايران، والمصالح الكردية والسُنية المرتبطة نسبياً بواشنطن من جهة أخرى. ولعل الحفاظ على هذا التوازن الحساس كان ممكناً قبل الأحداث التي أعقبت هجوم حركة حماس ضد الكيان الصهيوني في ٧ أكتوبر المنصرم، لكن المتغيرات الامنية اختلفت الان تماماً، بعد ان كان السوداني قبل اشهر يدافع بشكل صريح عن وجود القوات الأمريكية وإنها موجودة في العراق بناءً على دعوة من الحكومة العراقية لمحاربة الإرهاب بشكل فاعل، كما عمل السوداني منذ اختياره رئيساً للوزراء على اتخاذ مسار واضح لتعميق التعاون العسكري بين بغداد وواشنطن، وهذا انعكس ايضا على الاطار التنسيقي والفصائل المسلحة المرتبطة به، اذ توقفت الهجمات ضد المنشآت والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا لعدة شهور، وذلك في إطار خفض التصعيد بين إيران والولايات المتحدة وشركائها في المنطقة. في حين بدأ الان يطالب بانسحابها.
وبعد اندلاع الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، تدخلت ايران واذرعها في الحرب لصالح حماس والفصائل الاخرى، ولا يمتلك السوداني اي سيطرة ولو محدودة على فصائل المقاومة المدعومة من إيران، والتي يحتاجها بشكل كبير لدعم بقاءه في السلطة، لأن هذه الفصائل تُشَكِّل النواة الصلبة والقوية داخل الاطار التنسيقي الحاكم في العراق، ومع تأييد مقتدى الصدر لانسحاب القوات الامريكية وقدرته الواسعة على التعبئة الجماهيرية، يتعين على السوداني ان يأخذ بنظر الاعتبار كل هذه المعطيات الدافعة لتسريع وتيرة الانسحاب الامريكي، ولكن بما تمتلكه واشنطن من قوة ومصالح وتأثير في العملية السياسية على المكونات الاخرى والتحكم بالنظام المالي والمصرفي العالمي، فقد يصبح تحقيق التوازن الداخلي والخارجي بالنسبة للسوداني أكثر صعوبة خاصة بعد القصف الايراني لإقليم كردستان، وستتزايد الضغوط الايرانية عليه لاتخاذ إجراءات ضد القوات الأمريكية، وفقاً لذلك سيعمل السوداني على ترك الباب مفتوحاً لبعض المرونة مع الولايات المتحدة ويكون اكثر انفتاحاً معها بإقامة علاقات ثنائية والانخراط في التعاون الأمني مع دول التحالف، ويُمكن أن يشمل ذلك تدريب قوات الأمن العراقية خارج العراق او تقديم الاستشارة الامنية لها، لكن بدون قواعد عسكرية فضلاً عن شراء الأسلحة، وهذا السيناريو هو الاقرب للحصول خاصة السوداني صرح مؤخرا في دافوس بأن الولايات المتحدة "ليست عدوّاً لنا ولسنا في حالة حرب معها".
وتتفهم الادارة الامريكية حجم الضغوطات التي يتعرض لها السوداني من ايران والاطار التنسيقي وهي ترى دعواته العلنية وخطواته بالتصريح لانسحاب القوات الامريكية كتكتيك لاسترضاءها، والاتجاه السائد امريكياً هو النظر إلى هذه الخطوات باعتبارها رد فعل ناجم عن موقف مُصمَّم بشكل أساسي لأغراض داخلية وسياسية أكثر من كونه تغيير حقيقي في نهج الحكومة، من شأنه أن يعمل على تبني مقاربة واقعية لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في العراق.
بالمقابل لا يجب ان تتصور الحكومة ان القوات الامريكية ستنسحب بسهولة طالما ايران متغلغلة ومتدخلة في الشأن العراقي وسيكون في اسوء الاحوال اعادة تمركز وتموضع لهذه القوات بشكل واسع في اقليم كردستان وفق اتفاق امني رسمي ستعلن عنه حكومة الاقليم رداً على هجوم طهران الاخير، وهذا الوضع سيعقد مُهمّة حكومة السوداني بشكل كبير، وسيخلق ضغوط إضافية عليها لاتخاذ إجراءات، اما ضد القوات الأمريكية، او ضد النفوذ الايراني في البلاد.
وفقا للمعطيات الحالية يمكن القول: إن خروج القوات الامريكية من العراق ليس وشيكاً، إلا أن وجودها وعملها وتحركها ومناورتها سيكون مهدداً بشكل متواصل في المستقبل القريب، وتأمل حكومة السوداني وايران بالحد الادنى تقليص الحضور العسكري الامريكي على المدى القصير في العراق، وانعكاس ذلك على باقي ساحات المقاومة التي تتحرك فيها ايران وصولا الى ايقاف الحرب على غزة ومن ثم العودة الى مسار التهدئة؛ باعتبار ان واشنطن تجاوزت الحدّ من خلال اتخاذ خطوة محفوفة بالمخاطر وتصعيدية ضد ايران مع توجيهها ضربات عسكرية لمصالحها في العراق وسوريا واليمن وكرمان. لكن واشنطن تعتبر ان هذه الإجراءات ضرورية ولازمة لوضع حدود وخطوط لإيران ونفوذها في المنطقة، يجب ان لا يتم تجاوزه اذا ارادت طهران العودة الى مسار اوضاع ما قبل ٧ اكتوبر.
اذ لا تزال الادارة الامريكية لديها ثقة بالحفاظ على وجودها العسكري في العراق، لأن هذه ليست المرة الأولى التي تتحرك فيها الحكومة والبرلمان العراقي بإخراج القوات الأمريكية؛ فلم يتم تطبيق قرار البرلمان في عام ٢٠٢٠؛ لان واشنطن تدرك ان مُعظم القوى السياسية والاجتماعية السُنية والكردية ترى من مصلحتها بقاء وجود القوات الامريكية في البلاد لموازنة قوة الفصائل الشيعية الموالية لإيران والحد من النفوذ الايراني في البلاد، وهذا هو السبب الرئيس اضافة الى اسباب تتعلق بالوضع الاقليمي العربي وامن اسرائيل، الذي سيدفع الادارة الامريكية إلى ايجاد طرق ضاغطة للبقاء في العراق على الرغم من الضغط الكبير الذي ادت اليه ديناميات الحرب الاسرائيلية الامريكية على غزة، من حيث مُمارسة المزيد من الضغوطات على العلاقات العراقية- الأمريكية.
ولهذا، احد اهم مسارات تجنب هذه المعادلة المعقدة في العراق وعدم امتدادها لسوريا ولبنان واليمن وتأثيرات كل ساحة من هذه الساحات على الامن الاقليمي، هو ان تفكر واشنطن جدياً بإيقاف الحرب الإسرائيلية على غزة وعدم التفكير بخطوات توسيع دائرة الصراع ضد ايران في المنطقة هذا الخيار وحده حاليا الذي سيوقف خطر التصعيد الإقليمي في المنطقة.