منذ عام ٢٠٠٣ الى الان لم تستطع الحكومات المتعاقبة ان تتعامل بمسؤولية ومهنية وخبرة مع تساقط الامطار، ليتحول موسم الشتاء الذي تعد ايام امطاره في العراق محسوبة على عدد اصابع اليد، من نعمة الى محنة، يدخل المواطن العراقي فيها مرحلة الخطر والطوارئ، ولو كانت اجواء العراق ماطرة بأستمرار في فصل الشتاء لكانت المعاناة مضاعفة وستصل الى مرحلة تهديد حياة العراقيين بالموت غرقا.
هكذا هو حظ العراقيين تعيسا باستمرار فبدل الاحتفال فرحا بسقوط الامطار الذي طالما شكا العراقيون من قحطه وجفاف انهاره في السنوات المنصرمة، تحول هذا الفرح الى حزن، في زمن لا دولة فيه ولا ساسة يعرفون كيف يحكمون بلد اكرمه الله بشتى النعم والموارد، كانت الحكومات السابقة تستبق موسم الامطار خوفاً من الفيضان ومن يقرأ كتاب (فيضانات بغداد) بأجزائه الثلاثة لأحمد سوسة سيعرف ذلك وسيطلع على كيفية تكاتف الحكومات وخصومها لاستباق فيضان دجلة والفرات، وكيف يتعاضدون لحراسة السدود تحسبا لطارئ يأتي من فيضانها.
لكن قوانا السياسية وحكوماتها مابعد ٢٠٠٣ لا تمتلك من الحلول والقدرات لمواجهة مخاطر الفيضانات ولا استثمار مياه الامطار سوى التعزية والمواساة واصدار البيانات والتوجيهات لمواجهة المخاطر دون متابعتها، واعلان العطل الرسمية وتشكيل لجان تحقيق لا تُحقق بشيء، والتغاضي عن الحلول والبدائل.
كان هطول الامطار الاخير بالنسبة للعراقيين بمثابة الحجارة على الصدور، دفعت معظمهم بالدعاء لتوقف الامطار، في حالة لم تحصل في غيرها من البلدان، فغرقت البيوت والشوارع وتعطلت الحياة، من المعروف ان الدول التي تحترم فيها الحكومات شعوبها، إذا جرفت السيول الممتلكات او دخلت مياه الامطار والمجاري الى البيوت، او اذا غرق اثنان أو ثلاثة استقال الوزير الاول او الوزير المسؤول او غيره في محل المسؤولية، الا في العراق والدول الدكتاتورية يكتفي المسؤولون بالتعزية والمواساة بأسم العقيدة الدينية والمذهب، وبما أن تلك التعازي والبيانات ما عادت مجدية، تحولت من تعزية المواطن إلى تعزية الوطن، كما قال معروف الرَّصافي: "أحبولة الدين ركت مِن تقادمها / فاعتاض عنها الورى أحبولة الوطنِ".
عام بعد عام الفيضانات ومياه الامطار والمجاري تدخل بيوت وشوارع العراقيين ولم يُحاسب أحد، ولم يُحقق بشيء ولم يحدد المقصرين، وهكذا بقية الجرائم والمصائب والكوارث التي تحصل فضلاً عن سوء الادارة، فلم يُحقق مع المسؤولين وكأنهم معصومون عن الخطأ.
سبب نكبة العراق الان هو قادة وحواشي احزاب المعارضة في الخارج قبل عام ٢٠٠٣ ممن كان اغلبهم يتحسرون على العمل حتى باعة متجولين، بعد ان صار لهم الحكم في بغداد، لم يتقنوا او يجيدوا من فن الحكم والادارة الصحيحة شيئاً خارج الطائفة والولاء السياسي والعقائدي للخارج، فعدا ذلك لا يعني شيئا لديهم.
رغم ان العراقيين عرفوا ان المعزين باسم العقائد ألغوا وطن اسمه العراق، وشعبا اسمه شعب العراق، وتيقنوا انه ما عاد بالإمكان اختصار الوطن والشعب بالعقيدة الدينية والتحشيد بإسمهما، لكن براعة الطبقة السياسية الحاكمة في استغلال الازمات وفرض رؤيتها من جديد وقتل الوعي الشعبي والسيطرة عليه وتوجيهه، وفرض وتشييد السلطوية في التعامل بحزم مع اي ارتدادات تطالب برحيلها عن المشهد السياسي، هو الذي ساد وبقى.
فالتحزب والتحاصص والفساد القى بظلاله على الواقع السياسي وتحجيم الوعي الشعبي والاحتجاجي، وهذا ما حصل خاصة ان معظم القوى السياسية متخادمة مع المشاريع الخارجية، او اذا كنا مخطئين عاجزين عن وضع مصدات وكوابح لما يحدث من تدخلات اقليمية ودولية في الشأن العراقي الذي لا يريد للعراقيين الا التفكك والتراجع، واستغلال الظروف العامة في العراق وتوظيفها في استدامة الصراعات السياسية وتحقيق مصالحها من خلال ذلك، بدلا من تبنى الدولة خدمة المجتمع، فإذا كانت ابسط الازمات كالامطار والفيضانات والعواصف الترابية لا تديرها وتتعامل معها الحكومة والقوى السياسية بالشكل الامثل او المقبول على الاقل بعد مرور ٢٠ عام من الحكم، فكيف تدير وتواجه باقي الازمات التي لا يمكن ان تبنى الدولة دون عبورها؟.