فشلت كل المحاولات في عراق ما بعد ٢٠٠٣، لتشكيل لحظة اصلاحية مبنية على تأسيس مستقبل عنوانه الديمقراطية والتحديث، اذ ضيعت انتهازية القوى السياسية فرص الاصلاح التي وفرها النظام السياسي العراقي بعد عام ٢٠٠٣، فكانت النتيجة انتصارا للاستمرار بضياع لحظات تحقيق الاهداف المطلوبة، وتجديدا للقواعد التقليدية ثقافةً وسلوكاً، فَمَثلَ ضغط البنى التقليدية وخوف الساسة من محاولات التغيير وتفضيل صيغ التوافق والشراكة والمحاصصة والترحيل، سياسات بعيدة التفكير عن منطق الدمقرطة والمأسسة صوب الفشل والتراجع.
ورغم ان فرص التغيير كانت ماثلة بعد الانتخابات المبكرة بعيداً عن منطق التوافق السياسي لوضع الحيز الاكبر من الامكانات الجديدة الداعمة لحكومة اغلبية قادرة على الاجابة عن الاسئلة المستعجلة التي يواجهها العراقيون، كما مثلت نتائج هذه الانتخابات وطبيعة التحالفات السياسية فرصة لتشكيل ميثاق سياسي جديد ينقل السلطة من هيمنة الاحزاب الى التقيد بنصوص الدستور وتفتيت مكونات نظام المحاصصة القديم، لكن بمرور الوقت تحول الامل الى خيبة وسرعان ما تبددت لحظات الحماس الاولى وانحسرت مراهنات التفاؤل بعد عقدة تعطيل نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، فتم الدفاع عن الاشتغال باليات المرحلة السابقة المبنية على منطق ابرام الصفقات التواطئية واستمرت القوى السياسية الدفاع عن استحقاقاتها المكوناتية واسترجاع مواقعها وادوارها التقليدية رغم المحاولات لتأسيس اسلوب جديد للحكم والتدبير السياسي واستغلال الفرص الضائعة، لكن اتساع البنية الرافضة للتغيير والاصلاح واستبعاد الاتكاء على مخرجات النظام البرلماني الذي يقوم على اساس اغلبية تحكم ومعارضة تراقب وتحاسب، الى تقوية جبهة الاختيارات المنطلقة من تكريس نماذج الشراكة وتقاسم المصالح والنفوذ.
وغابت السياسات الفعلية التي يعول عليها في اعادة النظر لجوهر المشاكل التي يمر بها العراق، اذ رأت بعض الاحزاب ان هذا الانتقال في آلية تشكيل الحكومة وتسمية رئيس الوزراء من منطق التوافق الى منطق الاغلبية سيؤدي الى ازمة في قواعد اللعبة السياسية اذا انتج بناء سياسي جديد.
انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان اتاح تثبيت هذه القواعد، لكن منذ عام ٢٠١٤ الى الان كانت هذه القواعد مشوهة وغير واضحة مع ضياع هوية الكتلة الاكبر وتشتت داعمي الحكومات المتشكلة وبالتالي ضاعت المسؤولية الوزارية امام البرلمان والكتل السياسية، في حين ارست آلية تكليف محمد شياع السوداني من قبل قوى الاطار التنسيقي باعتباره الكتلة الاكبر التي فاوضت باقي القوى السياسية الاخرى لتشكيل ما يعرف بتحالف ادارة الدولة (وان كان بشكل رسمي) لحظة ايجابية ودستورية في تشكيل الحكومة وتحديد الادوار والمسؤوليات وحل المشكلات العالقة، خاصة ان شخصية واداء المرشح مقبولة من قبل الجميع عدا الصدريين الذي انسحبوا.
وفي ضوء ذلك ستكون المسؤولية مباشرة للمشاركين في العملية السياسية برمتها ويتحمل الاطار التنسيقي وحلفاءه هذه المسؤولية نجاحا او اخفاقا، ويبقى امام المرشح ان يحصل على تفويض لمغادرة مرحلة المحاصصة المباشرة في المناصب واتباع القوى السياسية نمط غير مألوف الى الواقع السياسي في ترك الحرية والمجال للمرشح بالعمل وفقا لخياراته ومتابعة تنفيذ برنامجه الحكومي دون تدخلات فئوية ومصالح ذاتية، ما يعني ان القوى السياسية يجب ان تتصرف كفاعل يحاول دمقرطة النظام السياسي وفق السياقات الدستورية الثابتة، اذ ان اهم مكامن القوة الدافعة لعملية الانتقال نحو الاصلاح تترجم في اجندة وبرامج مدروسة تحدد فيها الاطراف السياسية اولوياتها وفق استراتيجية واضحة وتتعهد بتنفيذها. فليست الآلية هي الهاجس انما استبدال القوى السياسية طرق التدبير السياسي لولوج مرحلة جديدة عنوانها الاصلاح الحقيقي هو الاساس، وطبعا هذا في الغالب مستعبد؛ لان المرشح لا يمتلك سوى ثلاثة مقاعد في البرلمان وتكليفه جاء اضطرارا بعد انسداد سياسي تجاوز السنة، لم تتفق فيه القوى الشيعية على مرشح حزبي مباشر او على زعيم كتلة طامح في الموقع، وهنالك من يقول ان بواعث هذه القوى في تكليف السوداني لازالت تتحرك بنسق سياسي مشبع بالمصالح الشخصية والحزبية عبر قوالب محددة، ولا زالت هذه القوى تريد العمل بالمكتسبات السياسية الموروثة التي عقدت المشهد السياسي العراقي.
لكن الفرصة قائمة لإثبات خلاف ذلك، ولتجاوزها بإمكان القوى السياسية ان تتبنى المقتضيات التالية للانتقال الى وضع سياسي جديد:
١- منح الثقة للوزراء والمناصب الاخرى من قبل البرلمان لشخصيات قادرة على التغيير، تؤسس للحظة قطيعة مع العقبات السابقة، ولهذه الشخصيات امكانية لإدارة المؤسسات وقادرة على تحقيق الاهداف وتنفيذ البرامج، ويتم ذلك بالسماح للمرشح باختيار وزراءه وباقي المواقع بحرية تامة.
٢- ان عملية تشكيل الحكومة والمواقع التنفيذية يجب ان تتم في اجواء خارج محاصرة الكتل السياسية لعمل رئيس الحكومة في اداءه والضغط عليه لاستحصال المناصب والمنافع والامتيازات.
٣- تحديد اولويات البرلمان الحالي والحكومة القادمة بالاتي:
أ- تغيير وتوحيد النظام الانتخابي في العراق لمجلس النواب ومجالس المحافظات بما ينسجم والواقع الاجتماعي والسياسي، يتلافى الاشكاليات الحاصلة في نظام التمثيل النسبي ونظام اعلى الاصوات او الصوت الواحد غير المتحول، على سبيل المثال دراسة النظام المختلط، بين هذا وذاك، وفقا للدوائر المتعددة لكل محافظة حسب عدد المقاعد المخصصة لها، اضافة الى اعتماد العد والفرز اليدوي، الذي قررت المحكمة الاتحادية اعتماده.
ب- تعديل قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات ووضع اليات اختيار مجلس المفوضين ومدراء المكاتب وغيرهم بما يضمن استقلاليتهم عبر اشراك القطاعات المختلفة في ترشيح شخصيات مهنية مستقلة كفوءة بشكل دوري، وايضا منح المفوضية صلاحيات انفاذ القانون بحق المخالفين للسلوك الانتخابي ومعالجة الخروقات الانتخابية.
ج- تعديل قانون الاحزاب السياسية لوضع اليات قانونية صارمة لضبط التعددية الحزبية مع تشديد الية تسجيل الاحزاب ووضع عقوبات وغرامات على اي مخالفات يقوم بها الحزب من حيث التأسيس والعمل والتمويل والدعاية، مع ايجاد ضمانات وتسهيلات للكيانات الشبابية والفردية ودعم وصول القوى المستقلة الى البرلمان لضمان عدالة التمثيل والمشاركة.
د- ادارة حوار وطني بين القوى السياسية كافة تأخذ بنظر الاعتبار مطالب المواطنين والمحتجين والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين ممن لم تطالهم اتهامات وشبهات الفساد لوضع بدائل واليات ادارة ملف الانتخابات القادمة، وتحديد موعدها والعمل على انجاح اجراءها واستكمال مستلزماتها، واحترام مخرجاتها وفقا للدستور.
4- اذا لم تنجح مخرجات هذا الحوار على ارض الواقع ولم تطبق الخيارات المطروحة اعلاه يصار الى حوار اوسع واشمل يتضمن تعديل الدستور ومعالجة كل المواد والفقرات والقوانين التي سببت الازمات السياسية والعمل على الاستفتاء عليها، لمواجهة الانسداد السياسي وتكرار التجارب الفاشلة وتجريب اسلوب حكم جديد، يكون قادر على ادارة ازمات العراق التي يتفق اغلب المختصون والمراقبون على انها ازمات ناتجة بالأساس من سوء اداء الطبقة السياسية اضافة الى عوامل خارجية ومحلية قبل ان تكون اسبابها دستورية.
ان تكليف محمد شياع السوداني بالإمكان في حال منحه الثقة وفقا لما تم ذكره في اعلاه ان يشكل بارقة امل في التغيير التدريجي نحو الافضل رغم تحفظات واسعة على ذلك ممن يعتقدون ان السوداني متحزب بشكل غير مباشر لصالح الاطار التنسيقي، وتطرح خيارات وجود الفاعل اللاحزبي، في الحقيقة ان مقولة حيادية واستقلال رئيس الوزراء اذا لم تنسحب على اختيار الوزراء فهذا يعني تكريس سيناريو الحكومة الحزبية، ولا فائدة مرجوة من رئيس حكومة مستقل واعضاء حكومته متحزبون بشكل مباشر او غير مباشر، رغم ان اي حكومة لابد ان تنبثق من ارادة الناخبين وتعكس طبيعة الخريطة الانتخابية والا ما الجدوى من السباق الانتخابي اذا كانت المخرجات تذهب للفاعل اللاحزبي؟.
فالمعروف ان قواعد الديمقراطية تقتضي ان يكون رئيس الحكومة هو مرشح الكتلة الاكبر الفائزة في الانتخابات او المتشكلة داخل البرلمان حسب الحالة العراقية، لكن هذه القواعد لم تشتغل بالمنهج المطلوب ولهذا اضطرت النخب السياسية للانتقال من الخيار التوافقي الحزبي الى الخيار اللاحزبي مؤخرا، وهذا قد جعل من رئيس الوزراء رهينة ارادات وضمانات القوى التي رشحته بضمانها التمثيل السياسي في الحكومة وتعطيل بعض الوزارات نتيجة هذه الالية.
فالأحزاب تؤمن ان صناديق الانتخابات هي المالكة لسلطة التمثيل السياسي في الجهاز التنفيذي فهي تحرص على عدم تهميش وظيفة الانتخابات، اذ ان الانتخابات في العراق لا تكمن اهميتها في البحث عن النموذج الجيد والممارسة السليمة والنزيهة للاقتراع، ولكن تكمن في مدى قدرة الكتل السياسية المتنافسة على تحويل الاقتراع الى سلطة مبنية على منطق المشاركة في تركيبة الحكومة، وفي ظل فلتان منصب رئيس الوزراء والوزارات منها ستصبح الانتخابات مجرد طقس سياسي وليس ممارسة تحرص فيها على تحقيق اهدافها بالوصول الى السلطة ما يدفع الكتل السياسية الى تدابير تعويضية في مجمل الكابينة الحكومية وبقية المؤسسات، كما حصل مؤخرا.
في النهاية على المكلف الجديد اذا نالت حكومته الثقة ان يثبت ان ثمة شرطي جديد في المدينة، وعليه ان يعيد النظر ببعض الوزراء الذين سيفرضون عليه او من تسجل عليهم مؤاخذات سلبية، كما عليه ان يواجه القوى السياسية التي تريد نهش الحكومة والمواقع المهمة، واظن ان اللحظة الاصلاحية المتشكلة امامه من اهم اللحظات التأريخية فهو رجل حوار وهادئ ومهني، وعليه ان يستثمر الفرص ويواجه التحديات بحكمة، ويتواصل مع الفواعل الدينية والاجتماعية والاعلامية والسياسية اضافة الى ادارة الملف الاقليمي والدولي بتوازن دقيق في اطار المصلحة الوطنية للدولة والمواطن، وان يواجه تحديات الامن والاقتصاد والخدمات والعلاقة مع الفرقاء السياسيين بمنطق الحسم لا الترحيل والترقيع والتأجيل.
اذا ما عمل بهذه المقاربة المتوازنة فسيكون محمد شياع السوداني ظاهرة اصلاحية مهمة لصالح العراقيين، اما اذ استجاب لضغوطات الكتل السياسية وترضيتها وسمح بالتدخلات الخارجية فخيبة الامل ومشهد العودة الى الفشل والاخفاق سيكون هو السائد.